بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فالتقوى أربحُ المكاسب وأجزل المواهب.
أيّها المسلمون، إنَّ تعاقبَ الشهور والأعوام على العباد من نعم الله الغزار، قال - جل وعلا -:( وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدٌّوا نِعمَةَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَا إِنَّ الإنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:33، 34]، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))[1].
وقد أقسم الله في آياتٍ, عديدة من كتابه بأجزاء من الوقت من الليلِ والنهار والفجر والعصر والضّحى، ونحنُ قد ودَّعنا عاماً حافِلاً من أعمارِنا، واستودَعنا فيه أعمالَنا، تُنشر يومَ الحشر أمامَنا، فما أسرعَ ما مضى وانقضى، وما أعظمَ ما حَوى، كم من حبيبٍ, فيه فارقنا، وكم من بلاءٍ, فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترَحنا، والليالي والأيام خزائنُ للأعمال ومراحلُ للأعمار، تبلي الجديدَ وتقرِّب البعيدَ، أيامٌ تمرّ، وأعوام تكرّ، وأجيال تتعاقَب على دروب الآخرة، فهذا مقبِل وذاك مدبر، والكلّ إلى الله يسير، يقول المصطفى: ((كلٌّ الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقُها أو موبقها))[2].
في الدهرِ آلامٌ تنقلِب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيامٌ تمرّ على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمرّ على أصحابها كالأيام، واللبيب من اتَّخذ في ذلك عبرةً ومدَّكراً، قال - سبحانه -: (يُقَلّبُ اللَّهُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ في ذالِكَ لَعِبرَةً لأولِى الأبصَـارِ )[النور:44]. والعام ولَّى بما أودع فيه العباد من أفعال، وستُعرَض عليهم أعمالهم ( يُنَبَّأُ الإِنسَـانُ يَومَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة:13].
فانظر في صحائف أيّامك التي خلتº ماذا ادَّخرتَ فيها لآخرتك؟ واخلُ بنفسِك وحاسِبها حسابَ الشّحيح، يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبدُ تقيّاً حتى يكونَ مع نفسه أشدَّ من الشريك مع شريكه"[3]. والرشيدُ مَن وقفَ مع نفسه وقفةَ حسابٍ, وعتابº يصحِّح مسيرتَها ويتدارك زلَّتَها، يتصفَّح في ليلِه ما صدَر من أفعالِ نهارِه، فإن كان محموداً أمضاه، واستبَقَ بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدرَكَه وانتهَى عن مثله في المستقبلº لأنَّه مسافر سفَر من لا يعود، يقول ابن حبان: "أفضلُ ذوِي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسه محاسبة"[4].
وإن غيابَ محاسبةِ النفس نذير غرقِ العبد في هواه، وما أردَى الكفارَ في لُجج العَمى إلا ظنٌّهم أنّهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوَون بلا حسيب، قال - سبحانه - عنهم: ( إِنَّهُم كَانُوا لاَ يَرجُونَ حِسَاباً )[النبأ:27].
والاطلاعُ على عيبِ النفسِ ونقائصِها ومثالبها يلجمها عن الغيّ والضلال، ومعرفة العبدِ نفسَه وأنَّ مآلَه إلى القبر يورثُه تذلّلاً وعبوديةً لله، فلا يُعجَب بعملِه مهما عظُم، ولا يحتقِر ذنباً مهما صغُر، يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه -: (لا يتفقَّه الرجل كلَّ الفقه حتى يمقتَ الناسَ في جنب الله، ثم يرجِع إلى نفسِه فيكون لها أشدَّ مقتاً)[5].
وإذا جالستَ الناس فكُن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرَك، والله يراقب باطنَك، ومن صحَّح باطنَه في المراقبة والإخلاص زيَّن الله ظاهرَه في المجاهدة والفلاح. والتعرّفُ على حقّ الله وعظيم فضله ومنّه وتذكّر كثرة نعمِه وآلائه يطأطِئ الرأسَ للجبّار - جل وعلا -، ويدرك المرءُ معه تقصيرَه على شكر النعم، وأنّه لا نجاةَ إلا بالرجوع إليه، وأن يطاعَ فلا يعصى، وأن يشكرَ فلا يكفر، يقول أهل العلم: "بدايةُ المحاسبةِ أن تقايِس بين نعمتِه - عز وجل - وجنايتِك، فحينئذ يظهر لك التفاوتُ، وتعلَم أنّه ليس إلا عفوُه ورحمته أو الهلاك والعطب".
وتفقّدُ عيوبِ النفس يزكّيها ويطهّرها، قال - سبحانه -:( قَد أَفلَحَ مَن زَكَّـاهَا وَقَد خَابَ مَن دَسَّـاهَا )[الشمس:9، 10]، يقول مالك بن دينار: "رحِم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟! ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم زمَّها، ثم خطمَها، ثم ألزمها كتابَ ربّها، فكان لها قائداً"[6].
وإنَّ أضرَّ ما على المكلَّف إهمال النفس وتركُ محاسبتها والاسترسال خلفَ شهواتها حتى تهلك، وهذا حالُ أهلِ الغرور الذين يغمضون عيونَهم عن المعاصي، ويتَّكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعةُ الذنوب والأنس بها والله يقول: ( يا أَيٌّهَا الإِنسَـانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكَرِيمِ )[الانفطار:6]، يقول الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يليق بالمؤمنِ إلا أن يُعاتِب نفسَه فيقول لها: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ وأمّا الفاجرُ فيمضِي قدُماً لا يعاتِب نفسَه"[7].
والمؤمنُ قوّام على نفسه يحاسبُها، قال - عز وجل -:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُم طَـائِفٌ مّنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مٌّبصِرُونَ )[الأعراف:201]، وإنما خفَّ الحسابُ على قومٍ, حاسَبوا أنفسَهم في الدنيا، وشقَّ الحسابُ على قومٍ, أخذوا هذا الأمرَ من غير محاسبة، فتوقَّ الوقوعَ في الزلّة، فتركُ الذنبِ أيسرُ من طلبِ التّوبة، وأنِّبها على التقصير في الطاعات، فالأيّام لك لا تدوم، ولا تعلَم متى تكون عن الدنيا راحلاً، وخاطِب نفسك:" ماذا قدَّمتَ في عام أدبر؟ وماذا أعددتَ لعام أقبل؟" يقول الفاروق - رضي الله عنه -: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزَنوا)[8].
وعاهِد نفسَك في مطلع هذا العام على المحافظة على الصلوات الخمس في المساجدِ جماعةً مع المسلمين، والتزوّد من العلم النافع والسعي في نشره وتعليمه، وحفظِ اللسان عن المحرّمات من الكذِب والغيبةِ والبذاءة والفحش، وعليك بالوَرَع في المطاعِم والمشارب، واجتناب ما لا يحلّ، واحرص على برّ الوالدين وصلة الأرحام، وبذلِ المعروف للقريب والبعيد، وتطهير القلبِ من الحسَد والعداوة والبغضاء، واحذَر الوقيعةَ في أعراض المسلمين، واجتهد بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداءِ حقوق الأولاد والزوجة على الوجه الأكمل، وغضَّ البصرَ عن النظر إلى المحرمات في الطرقات أو الفضائيات، وما أجملَ أن يكونَ هذا العام انطلاقةَ تغيّرٍ, في المجتمعات، ومحافظة النساء على حجابهن، والتزامِهن بالستر والحياء، امتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة رسول الله واقتفاءً بسيَر الصحابيّات والصالحات.
فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقرّبان إلى الآخرة، فطوبى لعبدٍ, انتفعَ بعمره، فاستقبَل عامَه الجديدَ بمحاسبة نفسِه على ما مضَى، فكلّ يومٍ, تغرب فيه شمسُه ينذِرك بنقصان عمرِك، والعاقل من اتَّعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعدَّ لغدِه، فخذِ الأهبَة لآزِفِ النّقلة، وأعدَّ الزادَ لقربِ الرحلة، وخير الزادِ ما صحبَه التقوى، وأعلَى الناسِ عند الله منزلةً أخوفُهم منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ, وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ )[الحشر:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التوّاب الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أن محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً.
أما بعد: أيّها المسلمون، فاتحةُ شهورِ العام شهرُ الله المحرَّم، من أعظم الشهور عند الله، عظيمُ المكانة قديم الحرمة رأس العام، من أشهر الله الحرام، فيه نصر الله موسى وقومَه على فرعونَ وملئه، ومن فضائلِه كثرةُ صيامِ أيّامه، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم[9].
وأفضل أيّام هذا الشهر يومُ عاشوراء، يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: قدم النبيّ المدينةَ فوجد اليهودَ صياماً يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكراً، ونحن نصومه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((نحنُ أحقّ بموسى منكم))، فصامه وأمر بصيامه. متفق عليه[10]. ولمسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسبُ على الله أن يكفّر السنة التي قبله))[11].
وقد عزمَ على أن يصومَ يوماً قبلَه مخالفةً لأهل الكتاب فقال: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ))[12]. فيستحبٌّ للمسلمين أن يصوموا يومَ العاشر اقتداءً بسنّة المصطفى، وطلباً لثوابِ الله - عز وجل -، وأن يصومُوا يوماً قبلَه أو يوماً بعده مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرّت عليه السنة، وذلك من شكر الله - عز وجل - على نعمِه، واستفتاح هذا العام بعملٍ, من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثوابُ الله - سبحانه -.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكم التنزيل:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً ) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
_______________________________
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -.
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/195، 235)، وأبو نعيم في الحلية (4/89)، وعلقه الترمذي في الرقاق (2459).
[4] روضة العقلاء (ص19).
[5] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/255)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/110)، والطبري في تفسيره (1/258)، وأبو نعيم في الحلية (1/211).
[6] انظر: إحياء علوم الدين (4/405)، وإغاثة اللهفان (1/79).
[7] أخرجه أحمد في الزهد (ص281)، وعزاه في الدر المنثور (8/343) إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس.
[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/96)، وأبو نعيم في الحلية (1/52)، وعلق بعضه الترمذي في الرقاق (2459) بنحوه. وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
[9] أخرجه مسلم في الصيام (1163) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[10] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130) واللفظ له.
[11] أخرجه مسلم في الصيام (1162).
[12] أخرجه مسلم في الصيام (1134) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد