محاسبة النفس


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد عباد الله: فمحاسبة النفس أمر مطلوب من كل مسلم، وهي أمر عظيم ينبغي أن يسعى إليه كل مسلم وكل مؤمن ليملك قياد نفسه وزمامها، ويضبط سيرها ويكبح جماحها ويدفعها إلى الطاعة ويردعها عن المعصية فيعرف ربحه من خسارته ولا يستطيع ذلك إلا إذا كان محاسباً لنفسه. 

ومحاسبة النفس يا عباد الله أمر عظيم يسهل الكلام عنه بالألسنة، ولكن القيام به من أعظم الأمور، فإذا قام الإنسان على محاسبة نفسه استطاع أن يعرف مقدارها.

ومن أجل ذلك يا عباد الله يكون المؤمن في جهاد مع نفسه لا ينقطع، وفي صراع دائم لا ينتهي حتى تألف النفس طاعة ربها، وتعتاد السير في سبيل الله المستقيم والانتهاء عن سبل الشياطين، وعند ذلك يسهل ضبطها ومحاسبتها، وإن لم يكن ذلك وأطلق لها العنان فسوف تستعذب الباطل، وتحب المعاصي والمنكرات حتى تصل إلى غضب ربها - سبحانه وتعالى -.

وكلما قام الإنسان على محاسبة نفسه أحبت الطاعة وأقبلت عليها واستأنست بها وبأهلها، وكلما أهمل الإنسان محاسبة نفسه كلما كرهت الطاعة وأنست بالمعصية وأحبت أهلها. 

يقول الله - تعالى -:( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )[النازعات:37 - 41].

والله - تعالى - يقسم بالنفس اللوامة وهي التي تلوم صاحبها إن قصّر في خير أو اقترف شر: ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة )[القيامة:1 - 2]. يقول الحسن - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: (إن المؤمن والله لا نراه إلا وهو يلوم نفسه: ما أردتُ بكلمتي؟ ما أردتُ بأكلتي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ أما الفاجر فيمضي قُدُماً قُدُماً لا يعاتب نفسه).

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أنها تذكر الإنسان وتبعث فيه الاستعداد للقاء الله - عز وجل - الذي سوف يكون بين يديه الحساب - ولا حول ولا قوة إلا بالله - ولهذا يقول عمر - رضي الله عنه -: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم غداً في الحساب أن تحاسبوها، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله إنها تعرِّف الإنسان بنعمة الله عليه فيشكرها، ويستخدمها في طاعة الله ويحذر من التعرض لأسباب زوالها: ( وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )[إبراهيم:7].

والله - تعالى - يقص علينا قصة صاحب الجنة حينما افتخر على صاحبه بالمال والولد وما ذكرّه به صاحبه مما قصه الله - تعالى - في كتابه فقال:( ولولا إذا دخلت جنتك قُلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك ولداً فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً )[الكهف:40 - 41].

وتُعرِّف المؤمن بنعمة الله عليه في الابتلاء فيصبر لذلك ويحتسبه عند الله تبارك و - تعالى - كما روي عن عمر - رضي الله عنه - وأرضاه فقال: (ما أصابتني مصيبة إلا وعلمتُ أن لله علىّ فيها ثلاث نعم:

 الأولى: أن الله - تعالى - خففها وهو قادر على أن يصيبني بأعظم منها.

 والثانية: أن الله - تعالى - جعلها في دنياي ولم يجعلها في ديني.

 والثالثة: أن الله - تعالى - يدخر لي الأجر عليها يوم القيامة).

 ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن هذا يساعد على ترويضها والسلوك بها في السبيل المستقيم، والحد من نزواتها وشهواتها ومن تعصبها وإعجابها فما ترى إنساناً يحاسب نفسه ويراقبها إلا وهو سريع الاستجابة لأمر إلهه، وكثير الحذر مما يغضب الله، وسريع الرجوع إلى الحق إذا علمه وتبين له، وكلما أطلق الإنسان لنفسه زمامها ولم يقم على محاسبتها كلما تغلبت عليه الأهواء والشهوات والمعاصي والمنكرات حتى تتغير موازينه ومقاييسه ويقع فيما حذر منه رسول الله: ((حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العامة))[1].

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن الإنسان يعرف بذلك مقدار نفسه فيتخذ الشيء الذي يراه مناسباً لإصلاحها ولا صلاح لها إلا بما جاء في كتاب الله تبارك و - تعالى - وما جاء في السنة الصحيحة عن رسول الله. وما أُثر عن العلماء الصالحين المخلصين العاملين. 

روي أن الشافعي - رحمه الله تعالى - مرض مرضاً شديداً فقال:( اللهم إن كان هذا لك رضاً فزده فبلغ ذلك إدريس الخولاني - رحمه الله تعالى - فبعث إليه فقال: يا عبد الله لستُ أنا وأنت من أهل البلاء)

فأرسل إليه الشافعي - رحمه الله تعالى -:( يا أبا عمر ادع الله لي بالعافية )

وإذا أراد الإنسان أن يقيم في نفسه هذا الأمر، وإذا أراد أن تقوم لديه المحاسبة للنفس لتنبعث في نفسه خشية الله - عز وجل - والخوف من عذابه والرجاء فيما عنده فليكثر من قراءة سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضي الله - تعالى - عنهم والتابعين لهم بإحسان في كل زمان ومكان ليعرف كيف كانوا مع أنفسهم وكيف كانت محاسبتهم لها لعل ذلك يساعده على محاسبة نفسه ومراقبتها.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول[2] لابن مسعود - رضي الله عنه -:( اقرأ علىّ القرآن فيقول ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قوله - تعالى -: ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً )[النساء:41] قال: حسبك. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: فنظرتُ فإذا عينا رسول الله تذرفان. 

فلو كانت محاسبة النفس قائمة في قلوبنا اليوم لذرفت أعيننا من خشية الله تبارك و - تعالى - ومن الخوف منه وطمعاً في الرجاء لما عنده. 

وخليفته الصديق - رضي الله عنه - يقول وقد دخل عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يزجر لسانه فقال له عمر: (مه ما هذا الذي تفعله يا أبا بكر؟). قال أبو بكر - رضي الله عنه -: (إن هذا أوردني المهالك).

ولما قدم قوم من اليمن في زمانه كانوا إذا سمعوا القرآن يبكون فقال: (كنا هكذا ولكن قست القلوب).

وعمر - رضي الله عنه - يقول: (لولا ثلاث لوددتُ أني قد لقيتُ الله لولا أن أضع جبهتي لله، ولولا أن أجلس مجالس يُنتقى فيها طيب الكلام كما ينتقى طيب التمر، ولولا أن أسير في سبيل الله - عز وجل -).

وهو الذي قال - رضي الله عنه -: (وددتُ أني كبش لأهلي يسمنونني حتى أكون أسمن ما أكون يقدم عليهم قوم يحبونهم فيذبحوني ويقدموني فيجعلوا بعضي شواء وبعضي قديداً ثم يأكلونني ولم أكن بشراً). وهو الفاروق - رضي الله عنه -.

وهو الذي يقول يوم دخل عليه ابن عباس - رضي الله عنهم - أجمعين بعدما طُعن - رضي الله عنه - قال له: (أبشر يا أمير المؤمنين فإن الله قد مصّر بك الأمصار وقضى بك على النفاق وأفشى بك الرزق) قال له: (أفي الإمارة تثنى علىّ يا ابن العباس؟) قال: (إي والله في غيرها). قال: (والله لوددتُ أني خرجتُ منها كما دخلتُ فيها لا أجر ولا وزر) ويقول - رضي الله عنه -: (والذي نفسي بيده لو قام في الناس منادي: يا أيها الناس إنكم من أهل الجنة أجمعون إلا رجلاً واحداً لخفتُ أن أكون أنا هو، ولو قام منادي وقال: يا أيها الناس ادخلوا أجمعين إلى النار إلا رجلاً واحداً لرجوتُ أن أكون أنا هو) رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ونسأل الله أن يتبعنا آثارهم وأن يحشرنا في زمرتهم.

وعثمان - رضي الله عنه - يقول: (لو كنتُ بين الجنة والنار ولا أعلم إلى أيهما يُؤمر بي لوددتُ أن أكون رماداً ولا أعلم إلى أيهما أصير)[3].

وهو الذي يقول: (وأيم الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام وما ازددت بالإسلام إلا حياءً). 

وعليّ - رضي الله عنه - الذي سبق أن ذكرنا قوله وهو يخاطب الدنيا: (إلىّ تغرغرت، إلىّ تشوفت، هيهات هيهات غُري غيري قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق).

وغيرهم من الصحابة ومن التابعين ومن الذين تبعوهم بإحسان في كل زمان ومكان يحاسبون أنفسهم قبل أن يردوا إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

نشكو إلى الله ضعفنا، ونسأله أن يرحم ضعفنا، ويغفر خطايانا أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين نحمده - تعالى - ونشكره ونثني عليه الخير كله، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله لو كانت المحاسبة للنفوس قائمة لكان الحال غير الحال، ولرأيت الصلاح في البشر ورأيت الصلاح في العباد وفي البلاد، ولكن كثيراً من الناس غافلون عن محاسبة أنفسهم.

لو كانت المحاسبة للنفوس قائمة لما رأيت معصية، ولما رأيت شركاً ولا نفاقاً، ولا رأيت غيبة ولا نميمة، ولا رأيت رباً وزناً ولا خمراً، ولا رأيت صغيرة ولا كبيرة، ولما رأيت إيماناً كاذباً ولا غشاً ولا خداعاً ولا ظلماً ولا جوراً ولا عدواناً.

لو كانت المحاسبة في النفوس قائمة ما حصلت مشاكل في مال، وما قامت منكرات لم تسبق فيمن سبق من العالمين كان نتيجتها على التفرق والتمزق الذي يعيشه المسلمون اليوم.

لو حاسب الناس أنفسهم وأقاموها على أمر الله - تبارك وتعالى - لرأيت الحال غير الحال فإن كثيراً من الناس لا يرتاح في نوم حتى يعرف حساب تجارته هل آلت به إلى الربح أم إلى الخسران، بل قد ينهض من فراشه مرات كلما تذكر أمراً من الأمور وقد تمر عليه الليلة كاملة ولا يستحل بنوم أبداً.

وإن بعضاً من الناس يمر عليه الليل وهو يتلوى من الحسرة والندامة على صفقة خسرها أو فاتته مشاركة فيها.

بل إن بعضاً من الناس يمسي يعض أصابع الندم حينما يرى نعمة أنعم الله بها على أحد من إخوانه وقد تكون ابتلاءً واختباراً من الله - تعالى -. 

بل إن بعض الناس أيضاً قد يتجاوز الحق إلى الباطل استبداداً لرأيه وتعصباً لهواه وميلاً مع شهوته. 

فلو كانت المحاسبة في النفوس قائمة ما رأيت هذه الأمور ولا غيرها مما يغضب الله - تبارك و تعالى - ولصلحت أحوال المسلمين ولن تصلح إلا إذا حاسبوا أنفسهم واستعدوا إلى لقاء الله - تعالى - الذي سيحاسبهم وهو يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية فهو علام الغيوب - سبحانه وتعالى -.

فاتقوا الله يا عباد الله وحاسبوا أنفسكم وراقبوها وقوموها على أمر الله - تعالى -، وحاسبوا أنفسكم في أسبوع مضى، فمن الذي حاسب نفسه على طاعة فازداد منها أو على معصية وقع فيها فتاب منها من الذي فعل ذلك.

من هو الذي حاسب نفسه فتذكر نعمة الله عليه فازداد شكراً لها. 

من حاسب نفسه فانبعثت في قلبه خشية الله فذرفت عينه حتى تطفئ النار يوم القيامة، فإن عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.

وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال - تعالى -:( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) [الأحزاب:56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين. 

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

[1] سنن أبي داود (4341) سنن الترمذي (3058) سنن ابن ماجة (4014).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب (4/1673).

[3] أبو نعيم في الحلية (1/60) وفي سنده انقطاع. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply