محاسبة النفس


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال الله - تعالى -: (يَومَ تَجدُ كُلٌّ نَفسٍ, مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ, مُحضَراً وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ, تَوَدٌّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفسَهُ)[ آل عمران: 30 ]، وقال: (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظلَمُ نَفسٌ شَيئاً وَإِن كَانَ مِثقَالَ حَبَّةٍ, مِن خَردَلٍ, أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47]، وقال: (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ولاَ يَظلِمُ رَبٌّكَ أَحَداً) [ الكهف: 49 ]، وقال: (يَومَئِذٍ, يَصدُرُ النَّاسُ أَشتَاتاً لِيُرَوا أَعمَالَهُم فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, خَيراً يَرَه وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, شَرّاً يَرَه) [ الزلزلة: 6 ـ 8 ].

فاقتضت هذه الآياتُ وما أشبَهها خَطَرَ الحساب في الآخرة، وتَحَقَّقَ أربابُ البصائر أنّهم لا يُنجيهم من هذه الأخطار إلا لزومُ المحاسبة لأنفسِهم وصدقُ المراقبة، فَمَن حاسب نفسَه في الدٌّنيا خفَّ في القيامة حسابُه، وحَسُنَ منقلبُه، ومَن أَهمَلَ المحاسبةَ دامت حسراتُه 1.

قالَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "حاسِبُوا أنفُسَكُم قبلَ أن تُحَاسَبُوا، وزِنُوا أنفُسَكُم قبلَ أَن تُوزَنواº فإِنَّهُ أهونُ عليكُم في الحسابِ غداً أن تُحاسِبوا أنفُسَكُمُ اليومَ،وتزَيَّنُوا للعَرضِ الأكبَرِ: (يَومَئِذٍ, تُعرَضُونَ لاَ تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ)[ الحاقة: 18 ] ".

وقال الحسن: " لا تَلقى المؤمِنَ إلاَّ يُحَاسِب ُنفسَهُ: ماذا أرَدتِ تَعملينَ؟ وماذا أرَدتِ تَأكُلينَ؟ وماذا أرَدتِ تَشربِينَ؟ والفاجِرُ يَمضي قُدُماً قُدُماً لا يُحاسِبُ نفسَهُ ". 

وقالَ قَتادةُ فقولِه - تعالى -: (وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطاً)[الكهف: 28 ]: " أضاعَ نفسَهُ وغَبَنَ، ومَعَ ذلك تراهُ حافِظاً لمالِهِ مُضَيِّعاً لدينِهِ ". 

وقالَ الحسنُ:"إنَّا لعبدَ لا يزالُ بخيرٍ, مَا كانَ لهُ واعِظٌ مِن نفسِهِ، وكانتِ المحاسبةُ مِن همَّتِهِ". 

وقالَ ميمونُ بنُ مِهرانَ: " لا يكونُ العبدُ تقيّاً حتى يكونَ لنفسهِ أشدَّ محاسبةً مِن الشَّريكِ لشريكهِ، ولهذا قيلَ: النَّفسُ كالشَّريكِ الخوَّانِ، إن لم تُحاسِبهُº ذَهَبَ بمالِك ". 

وقالَ ميمونُ بنُ مِهرانَ أيضاً: " أَنَّ التَّقِيَّ أشدٌّ محاسبةً لنفسِهِ مِن سلطانٍ, عاصٍ,، ومِن شريكٍ, شحيحٍ, ". 

وكتبَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إلى بعض عمَّالِه: "حاسِب نفسَكَ في الرَّخاءِ قبلَ حسابِ الشِّدَّةِº فإِنَّ مَن حَاسَبَ نفسَهُ في الرَّخاءِ قبلَ حِسابِ الشِّدَّةِ عادَ أمرُهُ إلى الرضا والغِبطَةِ، ومَن أَلهَتهُ حياتُه وشَغَلَتهُ أهواؤهُº عادَ أمرُهُ إلى النَّدامَةِ والخسارةِ ". 

وقال الفُضَيل بن عِياض:" المؤمنُ يحاسب نفسه ويعلم أنّ له موقفاً بين يدي الله - تعالى -، والمنافق يغفل عن نفسه، فَرَحِمَ اللهُ عبداً نظر لنفسه قبل نزول مَلَك الموتِ بِه"2. 

وقد مُثّلت النّفس مع صاحبها بالشَّريك في المال، فكما أنّه لا يتمّ مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أوّلاً، ثمّ بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانياً، ثمّ بمحاسبته ثالثاً، ثمّ يمنعه من الخيانة إن اطّلع عليه رابعاً، فكذلك النفس: يشارطها أوّلاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع في الربح؟! وهذه الجوارح السبعة هي: العين، والأذن، والفم، والقلب، والفرج، واليد، والرجل: هي مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كلّ خير، وإهمالها أساس كل شر. 

فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها، والإشراف عليها ومراقبتها فلا يهملها، فإنّه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بدّ، فإن تمادى في الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كلّه، فمتى أحسّ بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه: من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن والاستبدال بغيره، فإنّه لا بدّ منه فليجتهد في مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.

ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنّه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلّما أهملها اليوم اشتدّ عليه الحساب غداً. 

ويعينه عليها أيضاً: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب - سبحانه -، وخسارتها: دخول النار والحجاب عن الرب - تعالى -، فإذا تيقّن هذا هان عليه الحساب اليومº فحقّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطواتها، فكلّ نفسٍ, من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا خطر لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو شراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل النّاس و أحمقهم وأقلّهم عقلاً، وإنّما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: (يَومَ تَجِدُ كُلٌّ نَفسٍ, مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ, مُحضَراً وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ, تَوَدٌّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَداً بَعِيداً) [ آل عمران: 30 ]. 

ومُحاسَبَةُ النَّفسِ نوعانِ: نوعٌ قبلَ العَمَلِ، ونوعٌ بعدَه. 

فأَمَّا النَّوعُ الأوَّلُ: فهو أَن يَقِفَ عندَ أَوَّلِ همِّهِ وإِرادتِه، ولا يُبادِرَ بالعمَلِ حتى يتَبَيَّنَ لهُ رُجحانُهُ على تركِه، قالَ الحسنُ - رحمهُ اللهُ -: "رَحِمَ اللهُ عبداً وَقَفَ عندَ همِّهِ، فإِن كانَ لله مَضى، وإن كانَ لغيرِه تأخّر". 

وشرحَ هذا بعضُهُم فقالَ: إذا تحرَّكَتِ النَّفسُ لعملٍ, من الأعمالِ، وهَمَّ بهِ العبدُ، وَقَفَ أَوَّلاً ونَظَرَ: هل الباعث عليه إرادةُ وجه الله – عز وجل - وثوابِهِ أو إرادةُ الجاهِ والثّناءِ والمالِ من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدِم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلاّ تعتادَ النّفسُ الشِّركَ، ويخفَّ عليها العملُ لغير الله، فبقدر ما يَخِفٌّ عليها ذلك يَثقُلُ عليها العملُ لله - تعالى -، حتىَّ يصيرَ أثقلَ شيءٍ, عليها. 

النَّوعُ الثَّاني: مُحاسَبَةُ النَّفسِ بعدَ العَمَلِ:  

وهو ثلاثةُ أَنواعٍ,:

أَحَدُها:مُحَاسَبَتُها على طاعةٍ, قصَّرَت فيها مِن حَقِّ اللهِ - تعالى -º فلم تُوقِعها على الوجهِ الَّذي ينبغي. 

وحقٌّ اللهِ - تعالى – في الطَّاعةِ ستَّةُ أُمورٍ,، وهي:

 1 - الإخلاصُ في العملِ.

2 - والنَّصيحَةُ للهِ فيهِ.

3 - ومُتابعَةُ الرَّسولِ فيهِ.

4 - وشُهودُ مَشهَدِ الإحسانِ فيهِ.

5 - وشُهودُ مِنَّةِ اللهِ عليهِ.

6 - وشُهودُ تَقصيرِهِ فيهِ بعدَ ذلك كلِّهِ.

فيُحَاسِبُ نَفسَهُ:هل وفَّى هذه المقاماتِ حقَّها؟ وهل أتى بها في هذه الطَّاعةِ؟

الثَّاني:أَن يُحاسِبَ نفسَهُ على كلِّ عملٍ, كانَ تَركُه خيراً لهُ مِن فِعلِهِ.

الثَّالثُ:أَن يُحاسِبَ نفسَهُ على أمرٍ, مُباحٍ,، أو مُعتادٍ,: لِمَ فَعَلَهُ؟ وهل أرادَ بهِ الله والدَّارَ الآخِرَةَ؟ فيكونَ رابحاً، أو أرادَ بهِ الدٌّنيا وعاجِلَهاº فيَخسَرَ ذلك الرِّبحَ ويفوتَه الظَّفَرُ بِهِ!

وأَضَرٌّ مَا عليهِ الإِهمالُ، وتركُ المُحاسبَةِ والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمورِ وتمشِيَتُها، فإِنَّ هذا يَؤولُ بِهِ إلى الهلاكِ، وهذهِ حالُ أهلِ الغُرورِº يُغمِضُ عينَيهِ عنِ العواقِبِ، ويُمَشِّي الحال، ويَتَّكِلُ على العَفوِº فيُهمِلُ مُحاسَبَةَ نفسِهِ والنَّظَرَ في العاقبةِ، وإذا فَعَلَ ذلك سَهُلَ عليهِ مواقَعَةُ الذٌّنوبِ، وأَنِسَ بها، وعَسُرَ عليه فِطَامُها، ولو حَضَرَهُ رُشدُهُ لَعَلِمَ أَنَّ الحِميَةَ أَسهَلُ مِن الفِطامِ، وتركِ المألوفِ والمُعتادِ.  

وجِماعُ ذلك: أَن يُحاسِبَ نفسَهُ أوَّلاً على الفرائِضِ، فإن تَذَكَّرَ فيها نَقصاً تَدارَكَهُ، إمَّا بقضاءٍ, أو إصلاحٍ,. 

ثمَّ يُحاسِبُها على المناهي، فإن عَرَفَ أَنَّهُ ارتَكَبَ منها شيئاً تدارَكَهُ بالتَّوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحِيَةِ.  

ثمَّ يحاسِبُ نفسَهُ على الغَفلَةِ، فإن كان قد غَفِلَ عمَّا خُلِقَ لَهُº تدارَكَهُ بالذِّكرِ والإقبالِ على الله - تعالى -.  

ثمَّ يُحَاسِبُها بما تكلَّمَ بهِ، أو مَشَت إليهِ رجلاهُ، أو بَطَشَت يداهُ، أو سمعَتهُ أُذناهُ: ماذا أرادَت بهذا؟ ولمَن فَعَلَتهُ؟ وعلى أيِّ وجهٍ, فَعَلَتهُ؟ ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: لم؟ وكيف؟ أي: لمَ فعلتَ؟وكيفَ فَعلتَ؟

فالأوَّلُ:سؤالٌ عن علَّة الفعلِ، وباعثِهِ،وداعيهِ: هل هو حظٌّ عاجلٌ مِن حُظوظِ العاملِ، وغرضٌ مِن أغراضِ الدٌّنيا في محبَّةِ المدحِ مِن الناس، أو خوفِ ذمِّهم، أو استجلابِ محبوبٍ, عاجلٍ,، أو دفعِ مكروهٍ, عاجلٍ,؟ أم الباعثُ على الفعلِ القيامُ بحقِّ العبوديَّةِ، وطلبُ التودٌّدِ والتقرٌّبِ إلى الرَّبِّ - سبحانه وتعالى -، وابتغاءُ الوسيلةِ إليهِ؟

ومحلٌّ هذا السؤالِ أنَّهُ: هل كان عليكَ أَن تفعَلَ هذا الفعلَ لمولاكَ، أم فعَلتَهُ لحظِّكَ وهواكَ؟

والثاني:سؤالٌ عن متابعةِ الرَّسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في ذلك التعبٌّدِº أي: هل كان ذلك العمل ممّا شَرَعتُهُ لك على لسانِ رسولي؟ أم كانَ عملاً لم أشرَعهُ ولم أَرضَهُ؟

فالأوَّلُ: سؤالٌ عن الإخلاصِ، والثاني: عن المُتابَعَةِº فإِنَّ اللهَ لا يقبلُ عملاً إلاَّ بِهِما.

فطريقُ التخلٌّصِ مِن السؤالِ الأوَّلِ بتجريدِ الإخلاصِ.

وطريقُ التخلٌّصِ مِن السؤالِ الثَّاني بتحقيقِ المُتابعةِ، وسلامةِ القلبِ مِن إرادَةٍ, تُعارِضُ الإخلاصَ، وهوىً يُعارِضُ الاتِّباعَ قال - تعالى -: (فَوَرَبِّكَ لَنَسأَلَنَّهُم أَجمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ) [ الحجر: 92 - 93 ]، وقال - تعالى -: (لِيَسأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدقِهِم) [الأحزاب: 8 ] فإذا سُئِلَ الصَّادقون وحُوسِبُوا على صِدقِهِم فما الظَّنُ بالكاذِبِينَ؟ 

وقال - تعالى -: (ثُمَّ لَتُسأَلُنَّ يَومَئِذٍ, عَن النَّعِيمِ) [ التكاثر: 8 ] 3.  

والنعيم المسؤول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف في حقه، فيسأل عن شكره، ونوع أخذ بغير حقه وصرف في غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه. 

فإذا كانَ العبدُ مسؤولاً ومُحاسَباً على كلِّ شيءٍ, حتى عَلى سَمعِهِ وبَصَرِهِ وقَلبِهِ، كما قال - تعالى -:(إنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً) [ الإسراء: 36 ]º فهُو حقيقٌ أن يُحاسِبَ نفسَهُ قبلَ أن يُنَاقَشَ الحسابَ 4.

وقد دلَّ على وُجوبِ محاسبة النَّفسِ قولُه - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَا قَدَّمَت) [ الحشر: 18 ]، فأمر - سبحانه - العبدَ أن ينظر ما قدَّمَ لِغد، وذلك يتضمَّن محاسبة نفسه على ذلك والنظر: هل يصلُح ما قدّمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟ 

والمقصودُ مِن هذا النظرِ: ما يُوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما يُنجيه من عذاب الله، ويُبيض وجهه عند الله، وكلّ ذلكَ إنّما يمكنُ بصبرِ ساعةٍ, واحدةٍ,. فانّ الساعاتِ ثلاث: ساعةٌ مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدري ما يقضي الله فيها؟ وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه. 

فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى، ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيهاº بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري، وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحال.

وفي محاسبةِ النَّفسِ عِدَّةُ مصالحَ مِنهَا:

الإطلاع عَلَى عُيوبِها ونقائصها، فيمكِنُهُ السَّعي في إصلاحها، ومَن لَم يطَّلع عَلَى عَيبِ نفسِهِ لَم يُمكِنهُ إِزالَتُه، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى عَيبِها مَقَتَها فِي ذاتِ اللهِ - تعالى - قال أبو الدرداء رضي الله عنه: " لا يَفقَهُ الرَّجُلُ كلَّ الفِقهِ حَتَّى يَمقُتَ النَّاسَ في جَنبِ اللهِ، ثم يَرجِعُ إلى نفسِهِ فيكونَ لها أشدَّ مَقتاً "، وقالَ مُطَرِّفُ بنُ عبدِ اللهِ: " لولا ما أَعلَم مِن نَفسي لَقَلَيتُ النَّاسَ "، وقال أَيٌّوبُ السَّختِيانِيٌّ: " إِذا ذُكِرَ الصَّالِحونَ كنتُ عنهُم بمَعزِلٍ,". 

ولما احتُضِرَ سفيانُ الثَّوريٌّ دَخَل عليهِ أبو الأشهبِ وحمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، فقالَ لهُ حمَّادٌ: "يا أبا عبدِ اللهِ! أَليس قد أمِنتَ ممَّا كنتَ تخافُه؟ وتقدَمُ على مَن ترجوهُ، وهو أَرحَمُ الرَّاحمينَ؟ فقال: يا أَبا سلمة! أَتَطمَعُ لِمِثلِي أَن ينجُو مِن النَّارِ؟ قَالَ: إي واللهِº إنِّي لأرجو لكَ ذلك ".

وقَالَ يُونُسُ بنُ عُبيدٍ,: " إِنِّي لأجِدُ مئةَ خَصلَةٍ, مِن خِصالِ الخير، ما أَعلَمُ أَنَّ في نفسي منها واحدةً"، وقال محمَّد بنُ واسعٍ,:"لو كانَ للذٌّنوبِ ريحٌº ما قَدِرَ أحدٌ يجلِسُ إليَّ".

وذُكِرَ داودُ الطَّائِي عندَ بعض الأمراءِ، فأَثنَوا عليهِ، فَقَالَ: " لو يَعلَمُ النَّاسُ بعضَ ما نحنُ فيهِ، ما ذلَّ لنا لسانٌ بذِكرِ خيرٍ, أبداً "، وقالَ أَبو حفصٍ,: (مَن لَم يَتَّهِم نَفسَهُ عَلَى دَوامِ الأوقاتِ، ولم يُخالِفها فِي جميعِ الأحوالِ، ولم يَجُرَّها إِلَى مكروهِها فِي سائِر أَوقاتِهº كَانَ مغروراً، ومَن نَظَرَ إِلَيهَا باستحسانِ شيءٍ, مِنهَا فَقَد أَهلَكَها).

فالنَّفسُ داعيةٌ إِلَى المَهالِكِ، مُعينَةٌ للأعداءِ، طامِحَةٌ إِلَى كلِّ قبيحٍ,، مُتَّبِعَةٌ لكُلِّ سوءٍ,، فَهِيَ تَجرِي بطَبعها فِي ميدانِ المُخالَفَةِ. 

فالنِّعمَةُ الَّتِي لاَ خَطَر لَهَا: الخروجُ مِنهَا، والتَّخَلٌّصُ مِن رِقِّها، فإِنَّها أَعظمُ حجابٍ, بينَ العبدِ وبينَ اللهِ - تعالى -، وأَعرَفُ النَّاسِ بِهَا أَشدٌّهُم إِزراءً عَلَيهَا، ومَقتاً لَهَا، ومَقتُ النَّفسِ فِي ذاتِ اللهِ مِن صفاتِ الصِّدِّيقينَ، ويدنو العبدُ بِهِ مِن اللهِ - تعالى - فِي لحظةٍ, واحدةٍ, أَضعافَ أَضعافِ مَا يَدنو بالعملِ. 

وأيضاً: فإنّ زكاتها وطهارتها موقوفٌ على محاسبتها، فلا تزكو ولا تَطهُرُ ولا تَصلُحُ ألبتَّة إلا بمحاسبتها.

ومِن فوائِدِ محاسبةِ النَّفسِ: أَنَّهُ يعرِفُ بذلك حقَّ اللهِ - تعالى -، ومَن لَم يَعرِف حقَّ اللهِ - تعالى - عَلَيهِº فإِنَّ عبادَتَهُ لاَ تكادُ تُجدِي عليهِ، وهي قليلةُ المنفعَةِ جدّاً.

فمِن أَنفَعِ مَا للقلبِ النَّظَرُ فِي حقِّ اللهِ عَلَى العبادِº فإنَّ ذَلِكَ يورِثُهُ مَقتَ نفسِه، والإزراءَ عَلَيهَا، ويُخلِّصُه مِن العُجبِ ورُؤيَةِ العملِ، ويفتَحُ لَهُ بابَاً للخضوعِ والذٌّلِّ والانكسارِ بينَ يدي ربِّهِ، واليأسِ مِن نفسِهِ، وأَنَّ النَّجاةَ لاَ تحصُلُ لَهُ إِلاَّ بعفوِ اللهِ، ومغفرَتِهِ ورحمتِه، فإِنَّ مِن حقِّهِ أَن يُطاعَ وَلاَ يُعصَى، وأَن يُذكَرَ فلا يُنسَى، وَأَن يُشكَرَ فلا يُكفَرَ.

 فَمَن نَظَرَ فِي هَذَا الحقِّ الَّذِي لربِّهِ عَلِمَ علمَ اليقينِ أَنَّهُ غيرُ مؤدٍّ, لَهُ كَمَا ينبغي، وأَنَّهُ لاَ يسعهُ إِلاَّ العفوُ والمغفرةُ، وأَنَّهُ إِن أُحيلَ عَلَى عملِهِ هَلَكَ، فهذا محلٌّ نظرِ أهلِ المعرفةِ باللهِ - تعالى - وبنفوسِهم، وهذا الَّذِي أَيأَسَهُم مِن أَنفُسِهم، وعلَّق رجاءَهُم كلَّهُ بعفوِ اللهِ ورحمتِه.

 وإِذا تأَمَّلتَ حالَ أَكثرِ النَّاسِ وَجَدتَهُم بضدِّ ذَلِكَ، ينظُرونَ فِي حقِّهِم عَلَى اللهِ، وَلاَ ينظُرونَ فِي حَقِّ اللهِ عليهِم، ومِن هاهنا انقَطَعوا عن اللهِ، وحُجِبَت قلوبُهُم عن معرفتِه ومحبَّتِه والشَّوقِ إِلَى لقائِهِ والتَّنَعٌّمِ بِذِكرِهِ، وهذا غايةُ جهلِ الإنسانِ بربِّهِ وبنفسِهِ. 

فمحاسَبَةُ النَّفس هِيَ نظرُ العَبدِ فِي حقِّ اللهِ عَلَيهِ أَوَّلاً، ثُمَّ نَظَرَهُ: هَل قامَ بِهِ كَمَا يَنبغي ثانِياً. 

وأَفضَلُ الفكر الفِكرُ فِي ذَلِكَ، فإِنَّهُ يُسَيِّرُ القلبَ إِلَى اللهِ ويَطرَحُهُ بينَ يديهِ ذَليلاً، خاضِعاً مُنكَسراً كَسراً فِيهِ جَبرُه، ومفتقراً فقراً فِيهِ غِناهُ، وذليلاً ذُلاًّ فِيهِ عِزٌّهُ، وَلَو عَمِلَ مِن الأعمالِ مَا عساهُ أَن يعمَلَº فإِنَّهُ إِذَا فاته هَذَاº فالذي فاتَهُ مِن البرِّ أفضلُ مِن الَّذِي أتى بِهِ 6. 

وأخيراً فينبغي على الواحد منا أن يجلس "عندما يريد النوم مثلاً" لله ساعةً يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثمّ يجدد له توبةً نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل مسروراً بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك - ولا قوة إلا بالله -" 7.

______________________________

1 مختصر منهاج القاصدين (ص466 ـ 467).

2 تاريخ دمشق (48 / 424).

3 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى اله عليه وسلم -: ((إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة ـ يعني العبد ـ من النعيم أن يقال له: ألم نُصحّ لك جسمك، ونرويك من الماء البارد)) أخرجه الترمذي (3358)وابن حبان (2582) والحاكم (4 / 138) وصححه ووافقه الذهبي.

4 روى البخاري (1 / 176)، ومسلم (2876)ºعن ابن أبي ملكية أنه قال: إن عائشة كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من نوقش الحساب عذب)). فقالت: أليس يقول الله: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً *وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهلِهِ مَسرُوراً) [ الانشقاق: 7 - 9 ]؟فقال: ((إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)).

5 قال ابن الجوزي - رحمه الله - في "التبصرة" (2/102): " هل العمر إلا ثلاثة أيام: يوم انقضى بما فيه ذهبت لذته وبقيت تبعته، ويوم منتظر ليس منه إلا الأمل، ويوم أنت فيه قد صاحبك مؤذناً بالرحيل، فاصبر فيه على الهوى، فإن الصبر إذا وصل إلى المحبوب سهل ".

6 إغاثة اللهفان (1 / 74 ـ 89) بحذف يسير.

7 الروح (107)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply