شهادة صحفيّة روسيّة «سمّمها بوتين» عن مذبحة بيسلان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ها هو صباح الأول من أيلول، لا أكاد أصدق أخبار احتجاز رهائن مدرسة بيسلان بأوسيتيا الشمالية، لم يكن أمامي سوى نصف ساعة لأحزم أمتعتي، بينما كان ذهني لا يستريح على فكرة، كيف لي الآن الوصول إلى القوقاز؟ هل يمكنني مقابلة الانفصالي الشيشاني أصلان مسخادوف؟ ليته يخرج من مخبئه، ليته يتجه نحو الخاطفين، ويرتب معهم إطلاق سراح الأطفال.

كم كانت ليلة طويلة تلك التي قضيتها في مطار فنوكوفا في موسكو، كان رهط من الصحفيين يحاولون العثور على رحلة متجهة إلى حيث الأزمة في القوقاز بعد طول تأخير وانتظار، لم يكن من الصعب استنتاج أن جهة ما يعنيها تأخير وصولنا إلى هناك، تناولت هاتفي المحمول وتناقشت بصوت مسموع: نعم.. مسخادوف، أنوي التحدث معه، نعم.. أنوي إقناعه.

لقد مُنعنا لفترة طويلة من استخدام هواتفنا النقالة بحرية - بحجة أن المكالمات يتم التنصت عليها -، لكن الآن حالة استثنائية.

في النهاية قدم إليّ رجل نفسه كمسؤول تنفيذي بالمطار، قائلاً: «سأضمك الآن إلى رحلة متجهة إلى روستوف (جنوب غرب موسكو بألف كم، وبينها وبين أوسيتيا الشمالية نحو 600 كم).

في الحافلة الصغيرة بين المطار والطائرة أخبرني السائق أن جهاز الأمن الروسي كلفه بأن يضمني إلى رحلة روستوف المقلعة الآن، وبينما كنت أصعد سلم الطائرة كانت عيناي تلتقي بثلاثة رجال تفيض أعينهم عداوة وبغضاء، ليس مهماً، لقد اعتدت على تلك النظرة التي يتسم بها رجال المخابرات الروسية!

أخيراً أقلعت الطائرة، طلبت فنجاناً من الشاي، سيكون الطريق طويلاً بين روستوف وبيسلان، ولما كانت تجربة الحرب قد علمتني أنه لا داعي لتناول الطعام في الطريق إلى مثل هذه المهام، فقد أقنعت نفسي بأن الشاي خير من الطعام.

شربت الشاي في الساعة العاشرة إلا عشر دقائق ليلاً، وفي العاشرة تماماً استدعيت مضيفة الطائرة بعد أن انتابني شعور متسارع بفقدان الوعي، لم يبق في ذاكرتي التي أصيبت بالتشوش سوى كلمات المضيفة: «تماسكوا.. نستعد للهبوط».

ها أنا أفتح عيني على امرأة منحنية أمامي تطل علي من علٍ,: آه.. أنا الآن في سرير بمستشفى روستوف المركزي، بادرتني الممرضة: «أهلاً بك ثانية في هذه الدنيا، لقد كانت حالتك لا أمل فيها، لقد حاولوا تسميمك يا عزيزتي»، أما أطبائي المعالجون فقد همسوا لي: «بأوامر علوية.. تم التخلص من كل التحاليل الطبية التي أجريت لك في المطار والتي تؤكد تسممك».

في تلك الأثناء كان الرعب مستمراً في بيسلان، لقد كان شيء مريب يجري هناك في يوم الثاني من أيلول: لا يكلم أقارب الرهائن أحد من المسؤولين، حاصر الأهالي الصحفيين، واستجدوهم أن يعرفوا شيئاً عن مصير أطفالهم، كان هناك فراغ معلوماتي كبير.. ولكن لماذا؟

في الصباح وفي نفس مطار فنوكوفا تم احتجاز الصحفي أندريه بابيتسكي بذرائع واهية، وكان واضحاً لمصلحة من يتم منع صحفي (عرف ببحثه وراء الحقيقة، وصوته المسموع في الصحافة الأجنبية) من الذهاب إلى بيسلان.

تواترت الأنباء عن أن رئيس أنغوشيا السابق روسلان أوشييف - الملفوظ من السلطة بسبب موقفه من الكارثة الشيشانية - يدير تفاوضاً مع محتجزي الرهائن في بيسلان، سارت خطواته وحيدة نحو فناء المدرسة لمقابلة الإرهابيين الذين رفضوا أن يفاوضوا أحداً غيره، بعد أن أضاع رجال الأمن 36 ساعة من الوقت حيارى حول: من يتقدم منهم للتفاوض؟

نجح أوشييف في أن يخرج بثلاثة أطفال ثم 26 تلميذاً وأمهاتهم، غير أن الإعلام الروسي هضم حق الرجل وشجاعته في إجراء التفاوض، وما حققه لصالح الرهائن.

ها هو صباح الثالث من أيلول أهالي الرهائن يعيشون تعتيماً معلوماتياً مميتاً، كانوا في حالة يأس مذعور، هاهم يتذكرون أحداث مسرح موسكو التي قتل فيها 129 شخصاً بسبب تسريب القوات الخاصة الغاز المميت في المسرح، تذكروا جيداً كيف كانت الحكومة تكذب عليهم.

مدرسة بيسلان محاصرة الآن بأهالي الرهائن، حمل هؤلاء بنادق الصيد على أكتافهم، كانوا أناساً عاديين من آباء وإخوة الأطفال المرتهنين، لقد يئس هؤلاء من أن تنجدهم الدولة فقرروا أن ينقذوا أبناءهم بسواعدهم، ولِم لا؟ فهذه كانت القاعدة خلال السنوات الخمس الماضية من سنوات الحرب الشيشانية الثانية، لقد فقد الناس كل أمل في أن تحميهم الدولة، الجهات الأمنية لا ينتظر منها إلا اختراق القانون، لذلك فهم يحاولون الآن أن يدافعوا عن أنفسهم وعن أحبائهم، لقد أدرك الناس بعد أحداث مسرح موسكو في 2002 أن عليك أن تدافع عن نفسك فالدولة لن تحميك.

الآن تتكرر القصة في بيسلان، المسؤولون يكذبون، والإعلام يروّج للكذب الحكومي حسب منهج مشايعة السلطة بما يؤدي إلى الموافقة على قرارات فلاديمير بوتين.

اليوم هو الرابع من أيلول، وهو اليوم التالي للصاعقة، عدد الضحايا مرعب، الشعب الروسي في صدمة، وكانت هذه المصيبة هي الموضوع الرئيسي الذي تناولته الصحيفة الرائعة «إزفيستيا» التي افتتحت عددها بعنوان «صمت السلطة»، وجاء رد السلطة سريعاً: طرد رئيس تحرير الصحيفة راف شكيروف.

لقد أوضحت أحداث بيسلان أن الخواء المعلوماتي ذو تداعيات كارثية لا محالة، فلقد أشاح الناس بوجوههم عن الحكومة التي تركتهم مخدوعين، وحاولوا أن يعملوا بطريقتهم الخاصة لإنقاذ أحبائهم، ومحاكمة المتهمين بطريقتهم.

(تقبل آنا هنا ما أكدته مصادر حكومية من أن السبب في كارثة بيسلان هو عدم انتظار الأهالي لخطة الحكومة بالتفاوض مع الخاطفين، وتدبير خطة محكمة لإنهاء الأزمة، فقام الأهالي بالاشتباك مع الخاطفينº مما أجبر مجموعة احتجاز الرهائن على تنفيذ تهديداتها مبكراً بتفجير أجزاء من المدرسة وقتل المئات).

في النهاية أعلن بوتين أن مأساة بيسلان ليست ذات صلة بالأزمة الشيشانيةº فتوقف الإعلام عن ربط القضيتين ببعضهما البعض، وصارت بيسلان 11 /9، وصار الخاطفون من تنظيم القاعدة، هكذا ومن دون ربط الموضوع بالحرب في الشيشان، ولا بالعام الخامس لبدء الحملة العسكرية التي تحل ذكراها في هذا الشهر، يبدو أننا عدنا ثانية إلى العهد السوفياتي حينما كانت السلطة تتكلم كلاماً زائفاً.

هكذا نندفع بعنف نحو جحيم سوفياتي ملامحه فراغ معلوماتي، وسط جهل يحيط بنا جميعاً، لم يتبق لنا سوى الإنترنت حيث ما زالت المعلومات تجد لها مكاناً للعيش، وإذا ما قررت أن تذهب إلى عملك كصحفي فعليك أن تخضع بإذلال لفلاديمير بوتين، وإذا ما رفضت الخنوع له فلا تنتظر سوى الموت برصاصة أو بسُمّ، أو قد يزجّ بك إلى محاكمة، والأمر في النهاية يخضع لما يراه رجال المخابرات الروسية - كلاب حراسة فلاديمير بوتين - مناسباً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply