بسم الله الرحمن الرحيم
صدر مؤخراً في كتاب تقرير لجنة المخابرات بالكونجرس الأمريكي عن 11 سبتمبر، وقفز إلى المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية، والتقرير الذي يقع في 567 صفحة يستحق هذه المنزلة - كما تقول مجلة التايم الأمريكية - لأنه يحمل الكثير من الأخبار والانفرادات الخاصة بالمهام السرية، وأعمال التجسس التي تمارسها الحكومة.
ومنذ اللحظة الأولى لنشر التقرير فإن طوفاناً من الجدل والأسئلة انطلق ولم يتوقف، وقد صُدم واضعو التقرير الأمريكي عندما قالوا صراحة: إن (هجمات 11 سبتمبر كانت تمثل صدمة إلا أنها لم تكن لتجيء كمفاجأة)، وفي لهجة محبطة يؤكد أعضاء اللجنة - المشكلة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي - أننا لا نعرف ما إذا كانت خطوة واحدة أو عدة خطوات كفيلة بهزيمة المتآمرين، إلا أن الشيء المؤكد أنه لم يكن هناك إجراء واحد اتخذ من الحكومة الأمريكية في الفترة من 98 إلى 2001م أعاق أو حتى أخر تقدم مؤامرة القاعدة، ويخلص أعضاء مجلس الشيوخ الذين شاركوا في أعمال اللجنة إلى حقيقة مفزعة بامتداد الحكومة.. كان هناك قصور في الخيال، والسياسة، والقدرات، والإدارة)!!
واستعرض التقرير أموراً عدة من أهمها: أن الإرهاب لم يكن بمثابة (الهاجس الطاغي) على الأمن القومي بالنسبة لحكومة بيل كلينتون أو إدارة بوش في فترة ما قبل 11 سبتمبر، وأن الولايات المتحدة حاولت أن تحل مشكلة القاعدة بقدرات سبق أن استخدمتها في المراحل الأخيرة للحرب الباردة وما تلاها مباشرة.
ويتساءل واضعو التقرير عن ذلك العدو الذي طوّر منظمة قادرة على إلحاق مثل هذا القدر من الدمار المروِّع بالولايات المتحدة الأمريكية، ويعترف رجال الكونجرس بأن التاريخ والثقافة والمعتقدات التي يصوغ منها بن لادن وينشر رسالته هي غير معروفة بصورة كبيرة للعديد من الأمريكيين، ويقول هؤلاء: إن ابن لادن يأخذ من مصادر عدة: الإسلام، والتاريخ، وأوجاع المنطقة السياسية والاقتصادية، كما أنه يركز أيضاً على الشكاوى ضد الولايات المتحدة التي يشارك فيها العالم بصورة واسعة..!!
وفي المقابلة ثمة أصوات كثيرة تحاول أن تقدم رؤى أخرى، ومن بين هؤلاء زيفينو بريجنسكي أحد المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين البارزين، ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، ففي كتابه الأخير (الخيار) حذّر بريجنسكي الأمريكيين من أن قوتهم الحالية هي ظاهرة انتقالية، وأنها لا تعني أنهم يمتلكون قدرة كلية، وأن أمنهم القومي يرتبط بالأمن العالمي.
ويقول المفكر البارز: إن تسلط الخوف والتفسير الضيق للإرهاب واللامبالاة إزاء اهتمامات البشرية لن يدعم الأمن الأمريكي، ولا يتفق مع ضرورات القيادة الأمريكية، بل يمكن أن يُعرّض الولايات المتحدة للعزلة، ويؤدي إلى الانقسام العالمي، وأحسب - والكلام ما زال لبريجنسكي - أن الأمريكيين قد باتوا أكثر رغبة في المعرفة والاهتمام بما يدور خلف حدودهم.
ولعل السؤال الشهير: (لِم يكرهوننا؟) هو محاولة لتغليب الأمر من منتج سابق التجهيز، وإبعاد الأذهان عن السؤال الأكثر منطقية: (ماذا فعلنا كي يكرهنا البعض بهذا الشكل؟)، وسؤال آخر: (لماذا يعتقد الأوروبيون - ناهيك عن مواطني الشرق الأوسط - أن بلادنا وإسرائيل تمثلان الخطر الأكبر الذي يهدد السلام العالمي؟ وسؤال آخر يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية ودورها في إثارة الحنق والكراهية الذي يدفع إلى ذهاب البعض إلى نهاية المطاف لمهاجمة الأهداف الأمريكية.
أسئلة مشروعة يطرحها بريجنسكي.
ومن ناحية أخرى أثار فيلم مايكل مور (الحادي عشر من سبتمبر) جدلاً كبيراً، وفتح الباب أمام تساؤلات أكثر حيث يقول: إن الأمريكيين باتوا يسألون ويهتمون بالقضايا الخارجية والحرب على الإرهاب والعراق، وأن الأمر لم يعد مثلما كان في السابق.
والسؤال الذي يثور هو: هل الذي جرى في الحادي عشر من سبتمبر مع التسليم ببشاعته يضع أمريكا في خانة ضحايا الإرهاب؟ يقول (أرنوجي ماير) أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة (برنستون) في مقاله (الوثيقة) الذي لم يسمح بنشره داخل أمريكا في إطار المناخ الاستثنائي الذي عاشته أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر، ونشرته له صحيفة (لوموند) الفرنسية تحت عنوان (التوقعات المبكرة):
(حتى الآن في عصرنا المتحضر فإن الأعمال الإرهابية التي تصدر من أشخاص كانت تمثل سلاح الضعفاء والمعوزين، بينما الأعمال الإرهابية والاقتصادية التي تصدر من الدول هي سلاح الأقوياء)، ويمضي البروفيسور (ارنوجي ماير) قائلاً: (إنه من كلا النوعين من الإرهاب فإن من الأهمية التفريق بين الهدف والضحية، وهذا التمييز كان واضحاً جداً في الضربات المميتة التي استهدفت مركز التجارة العالمي، فالهدف هنا كان رمزاً مهيمناً، ومحوراً من أهم محاور القوة المالية والاقتصادية في العالم، والضحية هي سيئو الحظ ومن كان مثلهم من القوى العاملة)، ويشرح (أرنوجي ماير) فكرته بقوله: (إن هذا التمييز في حالة مركز التجارة العالمي لا ينطبق على ضربات مقر وزارة الدفاع (البنتاجون) لأنها استهدفت القيادة العسكرية العليا لأصحاب العولمة الرأسمالية، الذين تهمهم مصالحهم، ولا يعنيهم ما سوف يلحق بالإنسانية من أضرار).
ويشير (أرنوجي ماير) إلى السلوك الأمريكي في استخدام حق الفيتو - مراراً - ضد كل الجهود التي بُذلت لوقف انتهاكات إسرائيل من أسوأ أشكال إرهاب الدولة ضد الفلسطينيين، وضد أي شخص في العالم تعتبره خصماً لها، وخطراً عليها).
ويضيف (أرنوجي ماير) أن أمريكا وإسرائيل ترفعان ما يسمى راية الحرب ضد الإرهاب لكي تبررا ما تريدان تنفيذه.
ولذلك يقول (جور فايدال) الصحفي والكاتب الأمريكي الشهير في كتابه الأخير (حرب أبدية لسلام أبدي): إن ما يحدث الآن يبعث على الشؤم، ويشير إلى أن الحرية الأمريكية في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر في حالة خطر.
إن حديث الإرهاب وشبحه أنهى الاستثناء الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر، وسوف يظل يطارد الشعب الأمريكي لفترة ليست بالقصيرة، الأمر الذي يعني أن الأسئلة لن تتوقف، ومحاولات الإجابة أيضاً..!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد