بسم الله الرحمن الرحيم
ترد في القاموس من معاني (طرف) [الطَرَف] بمعنى الناحية من النواحي والطائفة من الناس، وطرف الشيء: أقصاه من اليمين أو اليسار، وهو أبعد الناحيتين، ومن ذلك (طرف الحبل) و (طرف الصف).
وللكلمة معانيها الأخرى التي سردتها معاجم اللغة.
ظلّت هذه الكلمة ساكنة مستقرة في مواقعها من كتب اللغة، وفي أماكنها من أساليب الناس، ومرَّت عليها قرون طويلة وهي تنعم بهذا السكون وذلك الهدوء، ولكنّ دوام الحال من المحال، والأيام مداولة بين الناس، وقد جرى لهذه الكلمة من تغير الأحوال ما أزال هدوءها، وقضى على سكينتها وملأ حياتها قلقاً واضطراباً، وقد استيقظت ذات يوم على صدى حروفها يتردد على الألسنة وتتناقله وسائل إعلام عصر (العلمانية) ومنذ ذلك الوقت فقدت راحة البال، وأصبحت مسكونة بالجنون لا يقرٌّ لها قرار، وهي شقية بذلك كل الشقاء، صحيح أنها تغيظ جاراتها في قواميس اللغة لأنها أصبحت (على كل لسان)، بل أنها أصبحت من الشمولية والانتشار بمكانة لم تحظ بها أهم كلمات القاموس وأشدها وطأة وأسماها مكاناً، صحيحٌ كل ذلك، ولكن هذه الكلمة شقية كل الشقاء لأنها حُمَّلت ما لا تطيق من المعاني التي لم تكن تخطر على بال.
(التطرف)..
مصطلح جديد أضيف إلى هذه الكلمة الحزينة، وهو محدَّد المعنى، إنه يعني المبالغة في الاتجاه إلى أحد الطرفين مما لا يمكن أن يتم معه الالتقاء بينهما.
وقد دار هذا المصطلح وطار، حتى استقر أخيراً على رؤوس الملتزمين من أبناء الإسلام - أعانهم الله - فأصبحت الكلمة - في عرف علماني هذا العصر - حكراً على المتدينين من أبناء الإسلام لا تكاد تتجاوزهم إلى سواهم، فهم المتطرفون أي المبالغون في الاتجاه إلى أحد الطرفين فما يدعون مجالاً للالتقاء بالطرف الآخر، وكاد الأمر يهون على هذه الكلمة لولا أنها أصبحت تعاني أشدَّ المعاناة من ملاصقة كلمة أخرى لها صارت بالنسبة إليها الشبح المخيف الذي لا يفارقها ألا وهي كلمة (الإرهاب) وقد آلم كلمة التطرف هذا الاقتران المفروض عليها بكلمة (الإرهاب) بالرغم من تباعد مكانهما في القاموس لفظاً ومعنى تباعداً لا يؤهلهما للاجتماع، ولكنَّ علمانية العصر (المتطرفة) تأبى إلا أن تجمع بينهما.
ولا بد لنا - بعد هذا العرض المأساوي - لحياة هذه الكلمة من الوقوف قليلاً أمام كلمة (التطرف الديني) هل هي صحيحة بهذه الصورة من التركيب، وهل مصطلح التطرٌّف موقوف على أبناء المسلمين الملتزمين به؟؟ هنا يكمن الخلل في نظري..
فالمعروف أن (التطرٌّف) يعني الانحياز إلى أحد الطرفين، فهل انحاز أبناء الإسلام إلى أحدهما؟
أولاً: الإسلام دين شامل وهو دين (الوسطية) بمعنى أنه يراعي جوانب الحياة البشرية كلها دون انحياز إلى طرف منها على حساب الآخر، فالعقل والروح والقلب، وجوانب النفس البشرية الأخرى لها وجودها في الرؤية الإسلامية لا تطغى في ظل شرع الله واحدة منها على الأخرى، وهو بهذا يختلف عن الديانات الأخرى التي عالجت جانباً من الجوانب، وتركت الجوانب الأخرى، ومن هنا فإنَّ كلمة التطرف بعيدة كل البعد عن حقيقة الإسلام.
ثانياً: شباب الإسلام الذين التزموا به حملوا مبادئه وأخلاقه بما فيها من شمولية ووسطية واعتدال، وإنما تطرَّف غيرهم ممن ابتعد عن هذا الموقع الإسلامي الفريد، فغرقوا في شهواتهم وأهوائهم، واغتروا بعقولهم واختراعاتهم، وطال عليهم أمد هذا الانحراف حتى ظنوه اعتدالاً، وظنوا الالتزام بالإسلام تطرفاً، وأوغلوا في هذا الظن السيء حتى أصبحوا يرون كلَّ مخالفة لما هم عليه (تطرفاً وإرهاباً).
ثالثاً: بناءً على هذا الفهم الصحيح يصبح (العلماني) [*] هو المتطرف، والقومي هو المتطرف، واليساري هو المتطرف، والحداثي هو المتطرف، أما الإسلامي فهو الذي يقف في منطقة الشمولية والاعتدال، ألا فليفهم المخدوعون هذه الحقيقة، وأعان الله كلمة (التطرٌّف) على ما تعانيه من قلق واضطراب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) إن كلمة علماني هي ترجمة غير صحيحة للكلمة الإنكليزية " Secularism " ومعناها: الدنيوية، عدم المبالاة بالدين، أو بالاعتبارات الدينية، ويروج العلمانيون هذه الأيام لمصطلح جديد هو " العالمية " أو " العالمانية " وهذا مصطلح مغلوط أيضاً، وأفضل ترجمة بنظرنا إلى هذه الكلمة هي " الردة " و " المرتدون " وهو أكثر تعبيراً وأدقٌّ وصفاً لنابتة السوء هذه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد