بسم الله الرحمن الرحيم
تحول الإرهاب والحديث عنه إلى قضية مؤرقة صارت بمثابة ليل كموج البحر أرخى سدوله، ولكن لا بد لهذا الليل من إصباح، ولا بد للنفق من آخر. فرجال الأمن بذلوا - وما زالوا يبذلون - جهدا عظيما في التعامل مع تلك القضية، وهم يشكلون رأس الحربة في هذا الموضوع، وما يفعلونه واجب وطني وجهد مقدر فالحل الأمني هو الخيار الأول ولا شك، ولكنني أحسب أنه ينبغي ألا يترك وحيدا في الساحة رغم نجاحاته النوعية، فالقضية التي نحن بصددها ليست عبارة عن حوادث جنائية محضةº وإنما هي قضية ذات غطاء فكري لها منظورها ولها رؤاها الفكرية، ومن هنا فإن الجهد الفكري ينبغي أن يجيء متساوقا مع الجهد الأمني لنصل معا إلى (الأمن الفكري) المنشود، فمنطق الحالة الراهنة يقتضي مقارعة السنان بالسنان واللسان باللسان والحجة بالحجة والكلمة بالكلمة عسى أن يستقيم الاعوجاج ويفيء من ضل وتفرقت به السبل.
والحق أن هناك جهودا فكرية مبذولة تذكر فتشكر، فقد بثت حلقات متلفزة، وعقدت ندوات إذاعية، وكتبت مقالات في الصحافة، وشارك فيها علماء وأكاديميون ومثقفون وغيرهم من فئات المجتمع، وكلها جاءت بغرض توصيف هذه الظاهرة والتنبيه على خطرها الماحق. ولقد كان للجامعة أيضا دورها في هذا الميدان حيث شهدت أروقتها حلقات نقاش حول هذه القضية، ولعل آخرها ندوة نظمتها كلية الآداب بجامعة الملك سعود بعنوان: (الإرهاب وأثره على المجتمع) في شهر ذي القعدة المنصرم. وفيما أعلم فإن جامعة الملك سعود ممثلة في عمادة شؤون الطلاب سوف تنظم مهرجانا ثقافيا للطلاب والطالبات ضمن حملة التضامن الوطني ضد الإرهاب في أواخر شهر ذي الحجة، ولعله يكون متزامنا مع المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي تستضيفه المملكة.
ورغم هذا الجهد الفكري المتنوع، إلا أنني أسجل بعض الملحوظات حول ما يرد أحيانا في مضامينه، فقد نزع بعض الكاتبين والمتحدثين - أحيانا- إلى وصف الإرهابيين بـ (الخوارج)، ولا مشاحة في كون هؤلاء المخربون العابثون قد خرجوا عن طاعة ولي الأمر كما خرجوا على إجماع مواطنيهم، لكن تسميتهم بالخوارج قد تصرف الذهن إلى أن هؤلاء يشكلون امتدادا لأسلاف سبقوهم في منهج العنف والتدمير عبر عصور الإسلام المتتابعة، ومثل هذا التصور قد يشرعن للعنف في البيئة الإسلامية، وقد يؤصل لهذا الهوس الجنوني والعبث المجاني، علما أن مدارس العنف في الخوارج لم تعش طويلا، فقد زالت واضمحل شأنها ولم يبق من الخوارج إلا من كان أقل تطرفا وأكثر اعتدال. ثم إن مدونات التاريخ وكتب الملل والنحل حدثتنا عن فرق متعددة للخوارج ربما بلغت نحوا من عشرين فرقة تتمايز في منظومتها الفكرية مع بعضها البعض، فتحت أي فرقة من فرق الخوارج يمكن تصنيف العابثين بأمن وطننا؟!
وأمر آخر، وهو أن بعضا من الخوارج كانوا يقتلون الملي (من أهل الملة) إذا كان مخالفا لرأيهم ويتركون الذمي، إذ روى (المبرد) في الكامل أن واصل بن عطاء (زعيم المعتزلة) وقع هو وبعض أصحابه في يد الخوارج، فقال لأصحابه: اعتزلوا ودعوني وإىاهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك، فخرج إليهم فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، فقالوا له: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم، قال الله - تعالى -: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه..} [التوبة: 6]، فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم، فساروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن.
ووجه الاستشهاد بتلك الرواية هو التأكيد على أن الخوارج يميزون في اختيار أهدافهم - وإن كانوا خاطئين أصلا - بينما امتدت يد الإرهاب لتضرب الجميع دون تمييز، فأين التماثل بين الفريقين؟ وأحمد لوسائل الإعلام المحلية أن أعرضت عن استعمال مصطلح الخوارج واستعاضت عنه بمصطلح (الفئة الضالة) فهو أدق وأضبط.
وملحوظة أخرى أسجلها في هذا السياق، وهو ما يراه بعض الكاتبين من ضرورة التوقف عن دعوة الإرهابيين إلى الفيئة والتوبة وإلقاء السلاح، فطالما أن تفجيراتهم ضربت في أنحاء البلاد طولا وعرضا فإنه لم يعد ثمة مجال للحوار والإقناع، وأحسب أن هذه رؤية عاطفية لا تصب في تعزيز الجهود المبذولة للتعامل مع ظاهرة الإرهاب، ولا تمت إلى الواقع بأدنى صلة، لأننا وببساطة لا نستطيع شخصنة جماعات التخريب والإرهاب، فنحن بإزاء عدو غير منظور ويعمل تحت الأرض، وتجارب الآخرين في التعامل مع مثل هذه الحركات بوسائل متنوعة جاءت بنتائج جيدة، وما المراجعات الفكرية التي أصدرها بعضهم في مصر إلا نتيجة لحوار فكري مباشر أو غير مباشر. ولماذا نذهب بعيدا وقد لمسنا أثرا إيجابيا في الدعوة التي وجهتها قيادتنا المباركة إلى المطلوبين أمنيا بتسليم أنفسهم خلال فترة العفو الممنوحة لهم.
إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فتلك قاعدة شرعية ومنطق إنساني، ويحسن بأهل الفكر وأرباب القلم تبليغ هذه الرسالة إلى زارعي الإرهاب ومثيري الفتنة لعلهم يرجعون.
إننا نتطلع إلى مواجهة الظاهرة الإرهابية بخطاب فكري متناسق متناغم، فذلك من شأنه حسم ما قد نقع فيه من بلبلة فكرية تشرق حينا وتغرب حينا آخر.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد