الإرهاب الفكري وخطره على الأمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عانت الأمة الإسلامية طويلاً من أزمات حضارية متعددة، كانت سبباً رئيساً في تخلفها وضعفها، وهيمنة أعدائها عليها، وجوهر هذه الأزمات الحضارية الخانقة تكمن في الفكر لا في الوسائلº إذ إن الأمة الإسلامية تمتلك من وسائل النهضة، وأدوات الحضارة ما يؤهلها لقيادة العالم كما كانت سابقاً، وهذا التشخيص للأزمة الحضارية في العالم الإسلامي، هو ما أفصح عنه المفكر الإســلامي الجــزائري مالك بن نبيº إذ يقول: «إن أزمة العالم الإسلامي منذ زمن طويل لم تكن أزمة في الوسائل، وإنما في الأفكار...»(1).

ومن أعظم الأزمات الفكرية الضاربة بجذورها الغليظة في عمق الحضارة الإسلامية هي مسألة «الإرهاب الفكري»، ذاك الناب الحاد الذي مزق فكر الأمة، والمخلب البشع الذي جرَّح وجهها الحضاري، وما تزال الحضارة الإسلامية مثخنة بالجراح من جراء آثاره الخطيرة الذي ذاقت منه الأمرَّين.

إنه «الإرهاب الفكري» الذي قمع كل قول يخالف سلطته الدينية، أو ينازع قوته السياسية، كما مارسه الإرهابيون الأُوَل بقولهم: {لَئِن لَّم تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الـمَرجُومِينَ} [الشعراء: 116].

إنه ذلك الأسلوب نفسه الذي يمارس تسفيه وتحقير كل رأي لا يوافق هوى آبائه أولاً، أو لا يناسب ذوق أجدادهº إذ قد قال أصحابه قديماً: {أَجِئتَنَا لِتَلفِتَنَا عَمَّا وَجَدنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78].

إنه الأسلوب الذي يغتصب العقول قسراً، ويرغمها على موافقة عقله، وتأييد رأيهº فلقد قال أستاذه سلفاً: {مَا عَلِمتُ لَكُم مِّن إلَهٍ, غَيرِي} [القصص: 38].

وما تزال معركة المصلحين مع مسألة «الإرهاب الفكري» قائمة لا يهدأ سُعارها، ولا يخبو شررهاº ذلك لأن «الإرهاب الفكري» شديد الصلف، كثير السرف، نزق طائشº فما من وسيلة قذرة إلا استعملهاº فها هو ذا يجيِّش جيوشه، ويجمع جموعه من المتملقين والمتمصلحين والغوغاء والرعاع لقمع الرأي الذي لا يراه، ولقطع اللسان الذي لا يعجبه، حتى يخيل للبسطاء السذج أن الناس قد أجمعوا على قوله، وما هو صنيعة إرهابه، وثمرة مكرهº وذلك مثل ما وقع في «فتنة القول بخلق القرآن» تحت دعوى «تنزيه الخالق» وما تفعله أمريكا الآن باسم «مكافحة الإرهاب» وما سيقع مستقبلاً تحت شعارات مبهمة مجملة لا خطام لها ولا زمام.

وإذا أخفق الإرهاب الفكري في تلك الوسيلة القذرة جرّب وسيلة السجن والتهجير والإبعاد والنفي، وما له ألاَّ يفعل وهو المطاول المختال البذَّاخ الشمَّاخ؟! وهذا عين ما حصل لبعض من قاومه من أئمة المسلمين المجاهدين: كابن تيمية، وابن حزم، وابن الوزير، وأمثالهم ممن قبع في سجون «الإرهاب الفكري» ومعتقلاته.

فإذا كبرت غلظته وعظمت شراسته، وضاقت به حيله جرب وسيلة للقمع بالغة الحقارة والدناءة، وسيلة القتل والتصفية الجسدية، وما له ألاَّ يفعل وهو الكريه النفس، الغليظ الطبع، القاسي القلب؟! فالقتل آخر وسائله الدنيئة وأحقرها، القتل بأي كيفية وعلى أي صفة إما رجماً كما هُدد به نوح عليه السلام، وإما صلباً كما هُدد به سحرة فرعون المؤمنون، وإما حرقاً كما أُريد بإبراهيم عليه السلام.

إن العلماء الأحرار والمصلحين الأبرار هم من يتصدى لهذا الطوفان الهائج، والشيطان المارد، مستندين في ذلك إلى موقف الإسلام من الفكر الحرº فلقد كان أُسّه وأساسه تحرير العقول والنفوس من عبودية غير الله، وبناءً على هذا الأساس مع أتباعه بالحرية في كل قول، وفي كل فكر بنَّاءº فقواعده تقرر أصالة الإباحة في كل شيء، ومقاصده تؤكد على حرية الإنسان في فكره، ما لم يصادم ضرورة من ضرورات الإسلام القطعية، وهذا القيد قيد عادلº لأنه من لوازم العقد المبرم بين المسلم وربه، المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله  صلى الله عليه وسلم - º فالعدالة تحتم علينا الوفاء لهذا القيد، وعدم تجاوزه ما دمنا مسلمينº ولذلك جاءت السنَّة المطهرة مؤيدة لتلك الحرية الفكرية بقول النبي  صلى الله عليه وسلم - : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر»(2).

وقد استنبط العلماء من هذا الحديث قاعدة فقهية جليلة ترسخ مفهوم الحرية الفكرية بقولهم: «الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد»(3).

ولبشاعة «الإرهاب الفكري» في التعاليم الإسلامية نفَّر منه الإسلام، حتى مع المخالفين له جذرياً، وهذا القرآن الكريم مليء بالمناظرات العلمية مع خصومه في جو تسوده الحرية والأمن الفكريº إذ يقول الله ـ تعالى ـ: {قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلَى كَلِمَةٍ, سَوَاءٍ, بَينَنَا وَبَينَكُم أَلاَّ نَعبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ} [آل عمران: 64].

بل نهى الله المؤمنين عن أدنى درجات «الإرهاب الفكري» في مناظراتهم لأهل الكتابº إذ يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَينَا وَأُنزِلَ إلَيكُم وَإلَهُنَا وَإلَهُكُم وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

وهكذا سيرة المصلحين مع خصومهم، كما هـي ســيرة علي ـ رضي الله عنه ـ مع الخوارج لما ناظــرهم بنفـسه، وبواسـطة عبد الله بن عباس مناظرة تبعث الطمأنينة في النفوس على قاعدة «الأمن الفكري»، وهذا مع شدة صلف الخوارج وعنادهم، وحاشا أمير المؤمنين علياً أن يستعمل في حقهم وسيلة من وسائل «الإرهاب الفكري» فلم يقاتلهم لأجل فكرهم، بل قاتلهم لأجل اعتدائهم على المسلمين.

وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الموصوف بالشدة في الحق يناظر (قدامة بن مظعون) في مسألة قطعية ضرورية، مناظرة هادئة مسامحةº ذلك لما استباح قدامة شرب الخمر مستدلاً بقوله ـ تعالى ـ: {لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبٌّ الـمُحسِنِينَ} [المائدة: 93].

فقال له عمر: «إنك أخطأت التأويل يا قدامة! إذا اتقيتَ الله اجتنبتَ ما حرم الله! »(4). هكذا بكل طمأنينة وهدوء.

وقد ضرب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أروع الأمثلة في نبذ «الإرهاب الفكري» لما رغب أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بكتابه (الموطأ)، عندها قال الإمام مالك: «يا أمير المؤمنـين! لا تفعل! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم... »(5). وهذا موقف من إمام دار الهجرة يمثل صورة مشرقة في التعامل الحضاري الرفيع.

ويبلغ «الإرهاب الفكري» مداه حينما تحتضنه قوة التحالف المكونة من الاستبداد السياسي والديني، ذاك التحالف المشؤوم الذي أخاف السبيل، وهتك حرمة الدليل، وانتهك المحارم، وارتكَب العظائم، كل ذلك من أجل مصالحه الشخصية ومآربه الضيقة.

وكما كان في الغرب ممثلاً في الكنيسة والإقطاعيينº فهو اليوم عندنا ممثل في بعض العلماء، والحكـومات المستـبدة التي لا يقيدها قانون ولا يلجمها نظامº ففقهاء من ذلك القبيل يمثلون القوة التشريعية لـ «الإرهاب الفكري» وحكام الاستبداد يمثلون القوة التنفيذية له، حتى أصبح «الإرهاب الفكري» إحدى الأيدي الباطشة لأخطبوط الاستبداد، ولطالما طالت تلك اليد الغاشمة المجاهدين من العلماء والمصلحين، وما بروز مصطلح «الوشاية» في ثقافتنا العربية إلا من أثر هذا التحالف المقيت، بل أصبح هذا المصطلح محفوراً في ذاكرة تاريخ سير هؤلاء العلماء والمصلحينº فهذا الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أحد ضحايا لطمات تلك اليد القاسية، وذلك لما وُشِيَ به إلى أبي جعفر المنصور أنه لا يرى صحة إيمان بيعة السلطان بالإكراه، فجُرِّدَ من ثيابه، وضُرِب بالسياط، ومُدَّت يده حتى انخلعت كتفه(6).

وقد يكون الجهل المركّب حليفاً لهذا التحالف الظالم، فيلتقي معه في كراهية الدليل والبرهان والحجة، ويفترق معه في درجات الشيطنةº فشيطان «الإرهاب الفكري» قابع في أغوار نفس الجاهل جهلاً مركباً، يهيج عندما يُذَمٌّ التقليد أمامه، ويُزعَج عندما تحاول أن ترتقي به فكرياً بأسلوب العلم الرفيع، عندها يثور ذاك الشيطان من قمقمه، كما ثار على المجاهد المصلح المظلوم محمد بن إبراهيم الوزير، فاعتزل قومه وفي ذلك يقول:

أعاذل دعني أرى مهجتي *** أزوف الرحيل ولبس الكفن

وأدفن نفسيَ قبل الممات *** في البيت أو كهوف القنن(7)

وما زالت مسيرة البذل والتضحية في تمزيق هذا التحالف الجائر زاخرة بمواقف الدعاة المصلحين: كموقف أبي حنيفة، وأحمد، والبخاري، وابن حزم، وابن تيمية، وابن الوزير وأمثالهم، عليهم رحمة الله(8). إلا أن آثار ذلك التحالف الباغي على الفكر الحضاري للأمة مؤلمة لطول زمنه الجاثم على فكر الأمة وحضارتهاº فقد أضرم البلاد ناراً، وأسعرها بالجور إسعاراً، وأحوج أهلها إلى الجلاء والتفرق في البلاد، ولعلِّي في هذه العجالة أُعدد بعض آثار الإرهاب الفكري المدمرة على الحضارة الإسلامية، فمنها:

1 ـ ترسيخ مفاهيم الاستبداد في المجتمع المسلم، حتى تصبح ثقافة سائدة في السياسة والدين، والبيت، والشارع، والجامعة، وفي كل نواحي الحياة، وهذه أخطر آثاره المدمرة.

2 ـ ترسيخ المفاهيم المغلوطة في نفوس البشر، وتزويق الباطل، وتصويره بصورة الحق الذي لا يقبل النقاشº وذلك ما حصل في «فتنة القول بخلق القرآن».

3 ـ زرع الالتباس في أذهان الناس بين الأحكام الشرعية والأحكام الوضعيةº فأعلاها أن يلتبس على العوام الفرق بين الحاكم والإله، كما حصل لقوم فرعون، ولأتباع الحاكم بأمر الله العبيدي المعروف بالفاطمي، ومن صور هذا الأثر السلبي في أحكام «الإمامة العظمى» بين الحق الذي أراده الله، والباطل الذي أراده الاستبداد.

4 ـ قمعه للإبداع الفكري، وهذا ما حصل للفكر في أعقاب زمن الحضارة الإسلاميةº فقد مرت على الأمة قرون كان الاجتهاد فيها محرماًº ونودي فيها بإقفال بابه.

5 ـ ازدهار سوق النفاق والتملق في عهد ذلك التحالف المشؤومº إذ هو عدو لدود للصدق والصفاء والنقاء. كما كان هو الفلاَّح المشؤوم الذي زرع الجبن والخور والكذب في نفوس أُسرائه، ومن لطيف ما يرويه التاريخ لنا أن رجلاً دخل على المهدي (أحد خلفاء بني العباس) فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال حديثاً يتلمس به رضا سيده، وهو أن النبي  صلى الله عليه وسلم -  قال: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح» فزاد «أو جناح» كذباً ونفاقاً(9).

فقاتل الله الاستبداد والاستعباد الذي لا تكاد تفقده عند المطامع المردية والمآكل اللئيمة والمعايش المخزية، وإني في الختام أدعو علماء الأمة ومثقفيها وقراءها وحكماءها إلى المساهمة في مشروع نهضوي فكري، عنوانه «مكافحة الإرهاب الفكري».

وذلك بالسعي إلى الإصلاح الديني، وتنقية المفاهيم الشرعية من علائق وشوائب الاستبدادº فالإصلاح الديني أقرب طريق للإصلاح السياسي، والإصلاح السياسي هو المؤثر إيجاباً وسلباً على النواحي الحضارية الأخرى، مثل: الاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، كما أنني أدعو إلى تجديد ثقافة الحوار المبني على قاعدة «الأمن الفكري»º فما أجمل الإعذار والتسامح مع الفكر ما دام أنه يدور في فلك الشريعة، لا يصادم ضروراتها، ولا ينتهك قواعدها القطعية!

وما أقبح «الإرهاب الفكري» حتى مع المخالفين لنا جملة وتفصيلاً!

 

----------------------------------------------------------------------

(1) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، دمشق، دار الفكر، سنة 1979م. ص 115.

(2) أخرجه البخاري صحيحه برقم (73520)، ومسلم في صحيحه برقم (1716).

(3) انظر: «الأشباه والنظائر في قواعد فروع الشافعية، مطبعة دار إحياء الكتب، مصر، ص 113.

(4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 9/546، والبيهقي في السنن الكبرى (8/135)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/154.

(5) أخرج هذه القصة ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» برقم (870) بتحقيق الزهيري، دار ابن الجوزي 1419هـ 1998م، والقصة وإن كان في سندها «محمد بن عمر الواقدي» وهو متروك إلا أن الذهبي قال بعد إخراجه للقصة برواية أخرى: «هذا إسناد حسن» انظر سير أعلام النبلاء 8/62.

(6) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط وآخرين، ط 2 بيروت، مؤسسة الرسالة 1401هـ ـ 1981م. 8/61 ـ 62.

(7) الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وكتابه العواصم والقواصم «للقاضي إسماعيل الأكوع، مطبوع في مقدمة كتاب «العواصم والقواصم» تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، 1/63.

(8) ومن الجهود التي تذكر ولا تنكر في تمزيق هذا التحالف المشؤوم، جهود الشيخ عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ويلاحظ أن الكواكبي لديه بعض الانحرافات الفكرية التي تقربه من العلمانية انظر كتاب: (جذور الانحراف في الفكر السياسي) للأستاذ جمال سلطان.

(9) تلك القصة في «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» للذهبي، دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، ط الأولى، 1416هـ ـ 1995م، 5/407 في ترجمة غياث بن إبراهيم النخعي، والقصة في مصادر كثيرة

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply