بسم الله الرحمن الرحيم
ألبانيا دولة فقيرة جدا، فالشيوعية ـ كما يقال ـ لا تصنع شيئا سوى توزيع الفقر في الشعوب، وهكذا صنعت في ألبانيا، يقول ممثل جمعية النجدة الخيرية وهي جمعية خيرية للإغاثة الصحية مقرها الرئيسي في أمريكا ولها مقر في تيرانا، يقول: أول ما جئنا إلى ألبانيا قبل نحو عشرة أعوام لم يكن في شوارعها من وسائل النقل سوى البغال والحمير، كان الناس يتنقلون بالنقل الجماعي في باصات بائسة عفى عليها الدهر، ولم يكن يملك السيارة إلا الآحاد من الناس لدرجة أنهم معروفون بأعيانهم، فيقول الناس هذه سيارة فلان، وفلان، و لا تعجب بعد ذلك قط أن يكونوا من المتنفذين في الحزب الشيوعي.
ولم تهرع الدول الأوربية الغنية لمساعدة ألبانيا على النهوض بعد سقوط الشيوعية البغيضة إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، كما فعلت مع غيرها، لم تفعل ذلك لأنها دولة ذات أغلبية إسلامية، فتركت في فقرها حتى تكون فريسة سهلة لحملات التنصير التي تستغل حاجة المسلمين وفقرهم، وهذا فعلا هو الذي يحدث في ألبانيا هذه الأيام، فالأنشطة التنصيرية ماضية بجهود حثيثة لتنصير المسلمين.
وقد رأيت بأم عيني مدينة ألبانية يقطنها المسلمون بنسبة 90%، وفيها نحو ثلاثة أو أربعة مساجد فقط، وقد بني فيها عشرون كنيسة، لا يدخلها أحد سوى الأشباح، وإنما بنيت بقصد إثبات الوجود، ولمحاولة طمس الهوية الإسلامية للمدينة، ولهذا فهي ـ أي الكنائس ـ لا تفتح إلا ساعة واحدة يوم الأحد، سوى مركز واحد قد أعد فيه أنواع الملاهي والملاعب وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت في بلدة لا يكاد يملك فيها خط الهاتف إلا النزر القليل من الناس، ويهرع الشباب الألباني المسلم إلى هذا المركز الذي ظاهره يناقض باطنه، فظاهره للهو واللعب، وباطنه للتبشير بالنصرانية.
وكم تألمت لأموال المحسنين في بلادنا التي تضيع هدرا في بناء مساجد تكلفتها أحيانا أكثر من مائة ألف دينار، ثم يذهب معظمها في الزينة والزخارف ومظاهر الترف عديم الفائدة، بينما يمكن بناء عشرين مسجدا في ألبانيا بهذا المبلغ، فعل الله ييسر لكم ذلك بتوفيقه.
وقد رأيت كيف أن المسجد في ألبانيا يتحول فور الانتهاء من بنائه إلى مأوى يحفظ الشباب الألباني الملتزم بدينه، يقيمون فيه صلاة الجمعة والصلوات الخمس، ويحفظون القرآن، ويتعلمون مبادئ الإسلام، ويجتمعون على الخير، فتزيد روح الجماعة إيمانهم، وتقوي يقينهم بدينهم، إنه ليس مجرد مسجد لأداء الصلاة، بل مركز للعلوم الشرعية، والدعوة الإسلامية.
في إحدى المدن الألبانية زرنا مسجدا صغيرا لازالت تقام في الصلوات الخمس، غير أنك تخاف من المكث طويلا فيه خشية أن يهوى عليك سقفه، فتح لنا باب المسجد مؤذنه الذي يذكرك مظهره الذي يتلاءم جدا في كبر سنه وتجعد خطوط وجهه، وانتفاض يديه وهو يحدثك، مع شكل المسجد في قدمه وتصدع جدرانه.
قال لي المترجم: كانت في هذا المسجد حلقة لتحفيظ القرآن للأولاد والبنات الصغار، وكان المحفظ رجلا صالحا باكستانيا، حافظا للقرآن، وكانت جمعية خيرية صوفية في بريطانيا ترسل له نفقته، ثم قطعوا عنه النفقة لاختلافه معهم في أمور أبى أن يوافقهم فيها إذ كان هو من أهل الحديث السلفيين، فكيف يجتمع والصوفية الطرقيين؟!، فتعطلت حلقات القرآن، فقلت: كم يحتاج هذا المحفظ ليتفرغ لعمله، قال: ثمانين دينارا في الشهر فقط، هل يمكنكم في الكويت توفيرها له؟ فقلت: في أهل الكويت خير كثير، وهم معروفون بين الناس بحب الإحسان والإنفاق الخيري، ويمكن توفير أضعاف هذا المبلغ بيسر وسهولة إن شاء الله - تعالى -.
وقد لمست في الشباب الألباني الملتزم حبا للعلوم الشرعية وشغفا في تحصيلها، كأنهم استلهموا هذه الروح من المنزلة العالية التي تبوءها العلامة المحدث ناصر الدين الألباني في العلم، وسمعت من بعض طلبة العلم أن الشيخ الألباني - رحمه الله -، قد أوصى في آخر حياته بعد تحرر ألبانيا من الشيوعية، بالعناية بدعوة الشعب الألباني للرجوع إلى دينه، ولا لوم عليه في حبه لقومه، ولا لوم عليهم في حبهم لمن فيه ذكرهم وشرفهم، وللحديث بقية نواصل فيها ذكريات الرحلة التي لازلنا في أولها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد