موريتانيا بين العروبة والتغريب


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 نجح الاستعمار في تفتيت الأمة الإسلامية لدويلات عبر حدود مصطنعة قصد منها إضعاف قوتها، والنيل من وحدتها، ولم نحاول نحن - رغم علمنا بما يراد لنا وبنا - أن نبذل جهوداً حقيقية في الوحدة والتوحد، واتسمت جهوداً بذلت في حقبة الجمهورية الناصرية نحو الوحدة بالتسرع والغموض، والاعتماد على القومية دون الهوية الحقيقية وهي الإسلام، فلم يتحقق لها نجاح يذكر دون أن أغفل تربص قوى الاستعمار بكل تلك المحاولات، وسعيه لإفشالها، ورغم مساعي أوروبا العودة لتوحدها، وأصبح الاتحاد الأوروبي حقيقة قائمة تتكون الأطر القانونية والواقعية لها يوماً بعد يوم ضمن خطط واعية، وتحركات مسؤولة تعرف ماذا تريدº لكن العدوى لم تنتقل إلينا، وما زلنا نرزح تحت وطأة الانقسام والرضا بتلك الحدود الوهمية، دون أن نبذل مساعي جدية لإلغائها، أو البحث عن صيغة ملائمة متوازنة للتكامل والتنسيق، ومع غياب الرؤية لدينا عن التوحد والتكامل داخلياًº غابت الرؤية الاستراتيجية عن التواصل مع أجزاء هامة تكون إطاراً عاماً لسياج الأمة الإسلامية سواء إقليمياً أو دولياً

فها هي مصر غابت عن السودان وغاب معها العالم العربي بأغنيائه، فعرضوا ذلك البلد الأفريقي العربي المسلم لمخاطر الفقر والتقسيم والابتزاز، ثم غابت عن دول أفريقية عديدة كانت تسعي للانحياز للجامعة العربية اختياراً، وتكون بعداً استراتيجياً مهماً للعالم العربي في قضاياه وفي مؤازرة حقوقنا في المنتديات الدولية، وكانت الفرصة سانحة للتغلغل الصهيوني في أفريقيا، وتبذل مصر والسودان جهداً جهيداً من أجل الحيلولة دون طرح اتفاقية تقسيم حصص المياه للتفاوض مجدداً.

ومن هذه الدول الأفريقية العربية المسلمة جمهورية موريتانيا الإسلامية هكذا اسمها وفقاً لدستورها، والتي كافحت من أجل التحرر والاستقلال عن الاستعمار الفرنسي عام 60 وقت رفع جمال عبد الناصر لواء التحرر الوطني عن الاستعمار الأجنبي، وألهب مشاعر الشعوب العربية والأفريقية والأسيوية، وعمل على تأجيج المد القومي آنذاك، ومنذ ذلك الحين وموريتانيا تشكل جزءاًس من الأمة العربية، وعضواً كامل العضوية بجامعة الدول العربية، وبموجب انقلاب عسكري تولي السيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع مقاليد الحكم عام 84 وهي على حالها عربية أفريقية إسلامية، وقام بإعلان حركة إصلاحية واسعة، وأعلن دستوراً جديداً للبلاد طرحه للاستفتاء، وصادق عليه الشعب الموريتاني، وتم انتخابه عام 1992، ثم أدخل النظام الحزبي للبلاد، وتم انتخابه مرة أخري في عام 1997م.

وهكذا كان العقد الأول من حكمه شهد تواؤماً طبيعياً حسبما نرصد من دفاتر التاريخº غير أن تغييرات عديدة تجري خلال العقد الثاني من حكمه على نحو من التأثير في تلك العروبة التي اتجهت لها بقوة منذ عقود طويلة، وتتردد ادعاءات عن تفريط النظام السياسي في ثوابت إسلامية وقومية عليا للأمة، ومما أثار المخاوف لدى الكثيرين من أمثالي الذين يجهلون حقيقة الأمور هناك لندرة المعلومات الموثقة تكرر محاولات انقلابية، وتوسع المعارضة الشعبية، وحمل لوائها قوى إسلامية ووطنية، وسبق أن التقيت بأحد القضاة من موريتانيا أثناء وجودنا بقطر لحضور أحد المؤتمرات العام الماضي أثناء الاضطرابات التي أحاطت بالانتخابات الرئاسية هناك في نوفمبر 2003، وأدت إلى القبض علي الرئيس السابق ومرشح المعارضة بها محمد خونا هيداله، وسألته عن حقيقة ما يجري هناك، لكنه ابتسم معلقاً: لا تنس إنني قاض!! وأعلنت وزارة الداخلية الموريتانية فوز الرئيس!! لكن المعارضة طعنت في الانتخابات، وتحدثت عن تزوير فاضح.

وشهدت الساحة الموريتانية الكثير من الاضطرابات خلال عام 2003 مما جعل السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية ) في حالة استنفار دائم، وتحالف مستمر للحفاظ علي استقرار الأوضاع، وحدثت موجة اعتقالات غير معترف بها رسمياً شملت كوادر وأئمة ودعاة من صفوف الإسلاميين.

ثم تم الإعلان عن محاولة انقلاب دموية فاشلة للإطاحة بنظام معاوية ولد الطايع في 8 و 9 يونيو، مات خلالها قائد أركان الجيش محمد الأمين ولد انجيان، وقاد المحاولة الرائد صالح ولد حننا الذي نحي عن الجيش عام 2000 بسبب مواقفه الناقدة للنظام، ورفضه تبني حكومة ولد الطايع سياسة التطبيع مع إسرائيل، وتذكر الإحصائيات الرسمية أن حصيلة المحاولة الانقلابية كانت 15 قتيلاً و60 جريحاً، وقد أسفرت هذه الاضطرابات عن تغيير رئيس الوزراء الوليد ولد داده، وتعيين ولد مكيه أميناً عاماً للحزب الجمهوري الحاكم، ثم صدر قرار غريب يقضي بتأميم المساجد وتحويلها إلى مؤسسات حكومية، أعقبه حملة ضد الإسلاميين بعد تفجيرات الدار البيضاء في المغرب، ومنذ ذلك التاريخ يبدر في الأفق احتقاناً يؤثر علي سلامة الحياة السياسية في موريتانيا، وصودرت حقوق دستورية تسمح بحرية تكوين الجمعيات والمؤسسات، وجري إغلاق بعض الصحف المعارضة وكثير من المؤسسات والجمعيات الأهلية.

ورغم أن الإعلان عن القبض علي الضابط الثائر صالح ولد حننا من المفترض أن يكون نهاية المطاف بالنسبة لنظام ولد الطايع، أو فرصة لتخفيف الاحتقان الذي يغلف الحياة السياسية الموريتانية بالضبابية، غير أن الأوضاع لم تزل توسم بالتوتر، وعلي الرغم من مبادرة بعض قيادات التيار الإسلامي الفاعلين مثل: العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو والأستاذ محمد جميل بن منصور وغيرهما من قادة التيار الإسلامي إلى مصالحة وطنية شاملةº غير أن الرئيس ولد الطايع بادر باعتقال هؤلاء القادة المعتدلين، واتهم قيادات المعارضة بالخيانة.

إن أسباب تغير الرئيس ولد الطايع غير واضحة المعالم ربما لتقصيرنا في فهم واقع وحركة الشعوب القريبة منا، وضعف المعلومات، وتقصير النخب الثقافية في دراسة ما يجري في مثل تلك الدول الأفريقية المسلمة، لكن سياسته خلال العقد الأول من حكمه من عام 84 حتى 92 حينما انقلب على ما وضعه من دستور ونظم تعددية لم تكن سيئة، وأغرب ما بدا من انقلابه هو تعاونه الوثيق مع الحكومة الإسرائيلية على حساب العلاقات التاريخية بين موريتانيا المسلمة والعالم العربي، بل على حساب هوية موريتانيا وعقيدتها.

توقفت أمام عبارة مهمة نقلها محمد المختار الشنقيطي، وصاغها عن الدكتور برهان غليون: فإن ما تحتاجه موريتانيا اليوم أكبر من مجرد تغيير الوجوه، بل أكبر من تغيير السياسات، إن ما تحتاجه موريتانيا اليوم هو ما تحتاجه كل الدول العربية، وهو تغيير منطق السلطة كما دعاه الدكتور برهان غليون، أي تغيير إجراءات وآليات بناء السلطة وانتقالها، والتوافق على صيغ عملية يحترمها الجميع، وتكفل حق الجميع في السلطة والثروة بناء علي التنافس النزيه الشفاف، وعلى منطق الإقناع لا منطق القوة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply