تاريخ الليبرالية في اليمن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقوم المذهب الليبرالي على تقديس حرية الفرد وحقوقه، والتمرد على كل القيم الدينية والاجتماعية وسواها والتي تجعل ضوابطا لحرية الفرد.

والليبرالية أول ما بدأت في أوروبا، وانتقلت للعالم أجمع، ولكنها لم تلق مواجهة كالتي وجدتها في البلاد الإسلامية التي صاغ عادات مجتمعاتها نظام إسلامي متكامل.

 

وقد تحولت الليبرالية في العالم الإسلامي إلى حركة متطرفة في أساليب تحقيق أهدافها، وهدم جميع القيم القائمة، وغدت معول التخريب الرئيسي لمظاهر الإسلام والتدين والتقاليد الأصيلة في المجتمعات بشكل عام، ويتضح هذا أكثر إذا علمنا أن العلمانية وليدة الليبرالية.

 

والليبرالية مذهب هلامي تختلف آراء أتباعه في كثير من الأشياء والتطبيقات، وربما وجد في البلد الواحد عدة أحزاب أو قوى ليبرالية متصارعة ولها مواقف متباينة من كثير من المسائل القديمة والحادثة، ولا تجتمع تلك التيارات والأحزاب والقوى إلا على محاولاتها لتغريب المجتمعات والسعي للتمرد على القيم جميعها.

 

وتنقسم القوى السياسية والاجتماعية جميعها في البلاد العربية والإسلامية بين ثلاث قوى رئيسية(الوطنية والإسلامية والليبرالية) مع ملاحظة التداخل الموجود عند بعض الأحزاب والتيارات والقوى.

 

كما أن التوجهات الليبرالية تتخذ أشكالا متعددة من يسارية اشتراكية وشيوعية، أو قومية ناصرية وبعثية أو سواها من الأشكال العلمانية.

 

وتشترك التيارات الليبرالية التي تصل إلى سدة الحكم في البلاد الإسلامية في إقصاء الحركات والأحزاب الإسلامية عن المشاركة في المعترك السياسي كما هو ماثل في العديد من الدول مثل تركيا وتونس وسوريا وغيرها.

 

ويلاحظ أن الأحزاب والقوى الوطنية هشة فكريا ولذلك فإنها تتأرجح بين الأفكار الإسلامية أو الليبرالية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك حزب (المؤتمر الشعبي العام) الحاكم في اليمن منذ أكثر من عشرين عاما.

 

كما أن القوى الليبرالية متفاوتة من ناحية التطرف والتطرف الأشد في طرح نظرياتها ومواقفها من الإسلاميين، وذلك لعدة عوامل أهمها حياة الشعوب، كما أن تلك القوى تتفاوت كذلك من زمن لآخر، وذلك يتضح بالمقارنة بين موقف اليساريين قبل وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وموقف الناصريين قبل وبعد النكسة سنة 67، وموقف البعثيين قبل وبعد سقوط بغداد بيد الأمريكيين.

 

كما أنه من الملحوظ في اليمن خصوصا- أن الليبراليين يتحالفون دائما ويلمعون رموز ما يمكن تسميته بالليبرالية الدينية تقوم على تحريف الدين بأساليب تكون متطرفة أحيانا- وهي المذاهب البدعية مثل الروافض وغلاة الصوفية.

 

نشوء التيارات الليبرالية في اليمن:

في الخمسينيات الميلادية من القرن المنصرم كانت اليمن دولتان شمالية تحكمها عائلة حميد الدين الملكية، وجنوبية مستعمرة من البريطانيين، وكانت هناك حركات وقوى شعبية لها مطالب سياسية متنوعة ففي الشمال تتفاوت بين مطالب إصلاحية عند البعض إلى مطالب بطرد العائلة المالكة وكان يمكن بوضوح لمس وجود تيار إسلامي يتقدم تلك القوى، وفي الجنوب تشكلت بعض القوى لمواجهة الاستعمار كانت وطنية التوجه.

 

وحينذاك بدأت تصل الأفكار والإيديولوجيات القومية إلى اليمن، ولكن بشكل متفاوت بين الشطرين بناء على النظامين السياسيين حينذاك، فكان التغلغل الأكبر في الشطر الجنوبي وذلك للتساهل الحكومي البريطاني مع الأحزاب والأفكار الواردة، بخلاف النظام الملكي في الشمال.

 

وقامت الثورتان اليمنيتان في الشمال والجنوب سنة 62و63 على التوالي وقد وجدت تلك الأرضية والخلفية المتفاوتة لليبراليين، ولكن الليبراليين وجدوا دفعة قوية في تلك الثورتين على النحو التالي:

 

أولاً: في الشطر الشمالي لليمن:

لم يكن الإسلاميون الذين كانوا يشكلون معظم المعارضة في اليمن يرغبون في أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه من اغتيال للملك اليمني (الإمام يحيى)، ولكن دخول مصر عبد الناصر وعملائها في الداخل أدى بالأحداث للتسارع إلى حصول الإنقلاب في الربع الثالث من 62وتم تشكيل مجلس أعلى للحكم تم تكوينه من أهم العسكريين الموجودين وبعض الشخصيات الوطنية، وضغطت مصر لتعيين البيضاني نائبا لرئيس ذلك المجلس رغم أنه كان يعيش في مصر وليس له أي دور في الثورة، وكان ذلك الرجل هو المحرك الرئيسي للمجلس ويد عبد الناصر في اليمن، ودفع ذلك الشخص والتيار الليبرالي الذي بدأ يتشكل بمواجهات وحروب استئصالية لأتباع الملكية اليمنية استمرت خمس سنوات، وكانت حربا طاحنة لم تنته إلا بالانقلاب المحلي ضد حكومة السلال من قبل القاضي عبد الرحمن الإرياني سنة 67م.

 

كانت تلك السنوات هي سنوات تشكل الليبرالية القومية الناصرية بجميع انعكاساتها في مصر ومنها العداء للإسلاميين الذي كان في قمته في مصر حينذاك.

 

بعد ذلك كمنت الناصرية في عهد الإرياني من 67 إلى 75وإن بدأت تتشكل الليبرالية القومية البعثية حينذاك.

ثم جائت فترة أواسط السبعينيات لتشهد ظهورا ليبراليا طاغيا في اليمن، وذلك بعد وصول المقدم إبراهيم الحمدي للرئاسة بانقلاب أبيض، والذي كان ضابطا وطنيا مال للإسلاميين قليلا في بداية عهده ثم انجرف مع الليبراليين الناصريين ومكنهم من المناصب الحساسة في الدولة وخاصة في مجال التعليم، وأصبح هناك تيار شعبي ناصري كبير، وتطرف الناصريون في شعاراتهم حينذاك واستهدفوا بعض الدعاة والعلماء، وكانت المظاهرات تخرج في بعض المدن يحمل بعض الموتورين فيها شعارات تحمل عبارة (لا إسلام بعد اليوم)، ويقصدون في مجال الحكم وذلك لإغاضة القوى الإسلامية حينذاك، كما أنهم عزفوا على وتر التفرقة المذهبية حينذاك ونشروا على نطاق واسع في المناطق الغربية والجنوبية والشرقية من اليمن الشمالي حينذاك والتي كان سكانها شافعية المذهب- أنهم مهمشون في وظائف الدولة ومظلومون وكسبوا تعاطفا كبيرا في تلك المناطق، وخاصة محافظة تعز مركز الناصريين في اليمن، وذلك بخلاف المناطق الشمالية والوسطى من البلاد التي سكانها على المذهب الزيدي والتي لم يكن للتيار الناصري فيها شعبية.

 

واستمر ذلك الوضع حتى اغتيال الحمدي سنة 77م وتولي الرئيس الغشمي للحكم ثم الرئيس الحالي العقيد على صالح بعد ذلك بسنة واحدة.

 

وقد قام الناصريون بمحاولة انقلابية على الرئيس صالح في أول سنوات حكمه مما أدى لعداء مستحكم بين الدولة والتيار الناصري، ومطاردة لقادته الذين سجن بعضهم وفر البعض الآخر خارج البلاد وعاد الناصريون في نهاية السبعينيات للعمل السري.

 

أما في مطلع الثمانينات فقد تكونت ما تسمى بالجبهة الشعبية في المناطق الوسطى، وهي حركة مسلحة ليبرالية ماركسية مدعومة من حكومة اليمن الجنوبي الماركسية حينذاك، وكانت تقوم بأعمال عسكرية تخريبية ضد المنشآت العسكرية والمدنية، ووجدت لها تعاطفا في المناطق الوسطى حينذاك بسبب المسألة المذهبية، ولكن كان لتحالف القوى الإسلامية مع حكومة علي صالح حينذاك أثره الكبير في كبت ذلك التمرد وإنهائه في حدود سنة 83م.

 

ثانيا: الشطر الجنوبي لليمن:

أما في جنوب اليمن فلم تنته الثورة التي بدأت في 63 إلا سنة 67 حين انسحبت بريطانيا تاركة للجبهة القومية حكم البلاد، وكانت جبهة ليبرالية وتتنافس مع جبهة التحرير الليبرالية هي الأخرى، وفي فترة حكم الرئيسين الأولين قحطان الشعبي وسالمين المتأثرين بالمد الناصري حينذاك بدأ يتشكل توجه ليبرالي ماركسي متطرف داخل الجبهة الوطنية حتى انقلب عبد الفتاح إسماعيل الماركسي المتشدد على سالمين سنة 78، وتم إعلان الحزب الاشتراكي اليمني، وبدأت عمليات إفساد منظمة للمجتمع ورفعت شعارات شيوعية مستوردة من الاتحاد السوفيتي الذي دارت اليمن الجنوبية حينذاك في فلكه، وبخلاف الشطر الشمالي من اليمن فقد أصبحت الليبرالية في الجنوب مذهبا حاكما مسيطرا على الحياة السياسية منذ الاستقلال.

 

ولم يتغير شئ عند انقلاب الماركسي البعثي (الجناح السوري) علي ناصر محمد في مطلع الثمانينات، ثم انقلاب علي سالم البيض سنة 86م.

 

ثالثا: اليمن الموحدة:

قامت الوحدة اليمنية سنة 90م، ورافقها إعلان التعددية السياسية التي كانت ممنوعة في الشطرين منذ الثورات اليمنية، وأشهرت الأحزاب الليبرالية نفسها، فإضافة إلى الحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب، تكونت عدة أحزاب ناصرية وبعثية وغيرها.

 

كما أنشأت تلك الأحزاب صحفا ومجلات تابعة لها، كما ظهرت كذلك جمعيات نسوية ليبرالية تنشط في المجال النسائي، وتدعو لحقوق المرأة بأجندة ليبرالية واضحة.

كما نشأت مراكز بحوث ودراسات وسواها أخذت بعضها الطابع الليبرالي.

 

وبدأت تظهر في المعاقل اليمنية المحافظة مثل العاصمة صنعاء كتابات صحفية تستهزئ بالدين والمتدينين، وتطعن في ثوابت الأمة، وتباع تلك الصحف والمجلات المحلية بشكل علني وفي الأكشاك والمكتبات، وكذلك كانت تقوم ندوات ومحاضرات وغيرها من المفاسد الليبرالية.

 

وكان للأحداث المتسارعة في تلك السنين دورها في تحييد الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يعتمد على نفوذه الجنوبي، وقامت حرب 94 التي تحالف فيها حزب الرئيس علي صالح (المؤتمر الشعبي الحاكم) مع الإسلاميين في حزبهم الرئيس (التجمع اليمني للإصلاح) ضد الحزب الاشتراكي اليمني، والذي خسر الحرب وانهار وتفكك بعدها، مما دفع عن اليمن شرا عظيما، وخطرا ماحقا.

 

ثم حاول الليبراليون بعد ذلك العام لملمة أوراقهم، ورمم بعض الاشتراكيين المتبقين حزبهم، كما أن بعضهم انشق عن الحزب الاشتراكي وانضم للمؤتمر الشعبي الذي انفرد بالحكم بعد سنوات، وقد سارع لقبول كثير من الاشتراكيين لمكانتهم الاجتماعية أو القبلية، مما أدى لتغلغل ليبرالي في صفوف الحزب الحاكم.

 

كما أن الأحزاب الأخرى من ناصرية وبعثية بقت على ليبراليتها، رغم كونها غدت ضعيفة الامتداد الشعبي.

 

وكان لدور بعض القيادات الليبرالية في الحزب الحاكم وخاصة أمينه العام عبد الكريم الإرياني دوره في

 

 الترتيب التنظيمي الجديد للمؤتمر الشعببي العام، والذي تم إقصاء كثير من الإسلاميين منه، وحاول تحويل الحزب للاتجاه الليبرالي، لكن لم يكن هناك تأييد شديد من رئيس الحزب الذي هو رئيس الجمهورية لذلك التوجه.

 

وكان لدور الإرياني هذا الذي يتهمه خصومه الإسلاميون أنه من عائلة باطنية معروفة في اليمن- أثره الكبير في تغلغل الليبراليين الاشتراكيين المنشقين في الحزب الحاكم.

 

وفي الفترة الحالية يمر الليبراليون بفترة عصيبة لنمو التعاطف الشعبي مع القوى الإسلامية مثل حماس وحزب الله وطالبان والمقاومة العراقية، وكذلك نمو الكره في الأوساط الشعبية ضد بعض الممارسات الليبرالية في مثل تركيا ومصر، وانحصر نشاط الليبراليين في اليمن بالكتابة في الصحف الحزبية والأهلية وخاصة جريدة الثقافية الأسبوعية، والتي غدت مستنقعا آسنا للكتابات الليبرالية البالية والطاعنة في الثوابت المجتمعية، والمجملة للوجه الكالح للفساد الاجتماعي، وهي تتبع مؤسسة حكومية.

وكذلك صحيفة مايو التي يصدرها الحزب الحاكم من عدن ويديرها ليبراليون بعضهم من الاشتراكيين المنشقين.

وهناك أيضا جمعيات المرأة مع ما تقيمه من ندوات، وما تنشره من صحفº وإن كانت لا تجد رواجا كبيرا.

 

ختاما ينبغي التأكيد أن الأحزاب الليبرالية في اليمن أصبحت أحزابا نخبوية لا قيمة اجتماعية مهمة لهم في العشر سنوات الأخيرة بعد حرب 94، يدل على ذلك مقاعدهم الضئيلة في مجلس النواب، وتهافتهم للتنسيق مع حزب الإصلاح الإسلامي للتصدي للفساد المالي والإداري لحكومات المؤتمر الشعبي العام الحاكم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply