بسم الله الرحمن الرحيم
يعد تقرير راند 2007م نموذجاً لحرب فكرية جديدة بين أميركا والعالم الإسلامي تحاول من خلاله أميركا إشاعة البلبلة المفاهيمية في أوساط المسلمين، خاصة من خلال أمركة مفهوم الاعتدال، وكذلك تفكيك وحدة الصف الإسلامي باستخدام منهج " فرق تسد"، والاستفادة من دروس الحرب الباردة، وتطبيقها على الصراع ضد الإسلام.
في إطار الكشف عن خطورة هذا التقرير والتحذير منه، بل ووضع مشروع إسلامي مضاد للأجندة الأميركية الفكريةº صدر حديثاً عن دار المركز العربي للدراسات الإنسانية كتاب "استراتيجيات غربية لاحتواء الإسلام.. قراءة في تقرير راند 2007" لمؤلفه د. باسم خفاجي، وهو من الكتب النادرة التي سلطت الأضواء على ماهية تقرير راند وتحليله، بل ووضع مقترحات وتوصيات وبرنامج عمل للحد من آثار هذا التقرير، وإفشال أهدافه.
يؤكد الكاتب في مقدمته أن المراكز الفكرية الأميركية المهتمة بالشرق الأوسط تسعى إلى تقديم العديد من التوصيات للإدارة الأمريكية لتوجيه المعركة الفكرية مع العالم الإسلامي، وأظهرت الأعوام الأخيرة وجود اتجاهين فكريين بين هذه المراكز فيما يتعلق بتوجيه سياسة الولايات المتحدة تجاه العالم الإسلامي، كلا الاتجاهين يؤكدان على المواجهة مع التيارات الإسلامية، ولكنهما يختلفان حول طريقة إدارة هذه المواجهة.
يرى الاتجاه الأول أنه يمكن إشراك بعض الإسلاميين من المعتدلين ضمن آليات الحكم والتأثير في العالم العربي والإسلاميº بشرط موافقتهم الكاملة على اللعبة الديمقراطية واشتراكهم بها، والتأكيد على التسليم بقواعد تلك اللعبة ونتائجها، ومن المراكز الفكرية الهامة التي تتبنى هذا الاتجاه مركز كارنيجي Carnigie، وكذلك مركز بروكينجز Brookings.
أما الاتجاه الثاني فيرى ضرورة مواجهة الخطر الإسلامي من خلال تحجيم مؤسسات العمل الإسلامي، ووصمها بالإرهاب والتطرف، وإقصائها - ما أمكن - عن الحياة العامة وقنوات التأثير الفكري والإعلامي، ومن أهم المراكز الفكرية التي تتبنى هذا التصور مؤسسة راند RAND Corporation وهى أكبر مركز فكري في العالم، وأحد أهم المؤسسات الفكرية المؤثرة على صناعة القرار في الإدارة الأميركية الحالية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، ولذلك تميل الإدارة الأميركية الحالية إلى تبني مقترحات مؤسسة راند، وهو ما يجعل لإصداراتها أهمية كبيرة في هذه المرحلة.
ما هي مؤسسة راند؟
تعد مؤسسة راند أكبر مركز فكري في العالم، مقرها الرئيسي في ولاية كاليفورنيا الأميركية، تقوم مؤسسة راند - التي اشتق اسمها من اختصار كلمتي "الأبحاث والتطوير" أي (Research and Development) - بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، ومن ثم تحليلها، وإعداد التقارير والأبحاث التي تركز على قضايا الأمن القومي الأميركي في الداخل والخارج، يعمل في المؤسسة ما يقارب 1600 باحث وموظف يحمل غالبيتهم شهادات أكاديمية عالية، وميزانيتها السنوية تتراوح بين 100 - 150 مليون دولار أميركي.
تعد مؤسسة راند إحدى المؤسسات الفكرية المؤثرة بشكل كبير على المؤسسة الحاكمة في أميركا، وهى تدعم توجهات التيار المتشدد في وزارة الدفاع، وتتولى الوزارة دعم كثير من مشروعاتها وتمويلها، كما ترتبط بعلاقات ومشروعات بحثية مع وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وتصب كثير من الدراسات والبحوث الصادرة عن هذه المؤسسة في خانة أنصار مواجهة الإسلام والمسلمين.
ساهمت مؤسسة راند في رسم خطة الحرب الأخيرة على ما تسمية أميركا الإرهاب، وفرع المؤسسة في قطر تعمل فيه الباحثة شيريل بيرنارد زوجة مهندس الحرب على أفغانستان "زلماى خليل زاده"، وهى التي قامت بكتابة مشروع الإسلام الديمقراطي وهو ما عُرف لاحقاً باسم تقرير راند، ويعتبر فرع راند في المنطقة العربية بقطر مركزاً مهماً للمساهمة في إعادة تشكيل المنطقة وفق الرؤية التي تطرحها الإدارة الأميركية.
تقرير راند 2007م:
أصدرت مؤسسة راند تقريراً في نهاية شهر مارس من عام 2007م (ربيع الأول 1428هـ) بعنوان "بناء شبكات مسلمة معتدلة" وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري في إصدارها لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث سبتمبر.
يقدم التقرير توصيات محددة وعملية للحكومة الأميركية بأن تعتمد على الخبرات التي اكُتسبت أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر عن طريق دعم قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي، لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل على أنها تيارات متطرفة، كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفهوماً أميركياً غربياً وليس مفهوماً إسلامياً.
تركز تقارير مؤسسة راند - وخاصة تقريرها الأخير في عام 2007 - على فكرة المواجهة مع التيار الإسلامي بالعموم من أجل تهميش دوره، واحتواء تأثيره، وأحياناً تميل هذه التقارير إلى الإشارة إلى القضاء على بعض عناصر هذا التيار ومكوناته، وخاصة تلك العناصر التي تستخدم الخيارات العسكرية في التعامل مع الاعتداءات الأميركية والغربية على العالم الإسلامي، كما أن تقارير مؤسسة راند ترسخ باستمرار فكرة الفوائد التي يمكن أن تجنيها الاستراتيجية الأميركية من إشعال الصراعات داخل العالم الإسلامي وتقسيمه، وكذلك فوائد تقسيم شعوب المنطقة إلى معتدلين في مواجهة متطرفين، وتقليديين في مواجهة عصرانيين أو أنصار الحداثة، وشيعة في مواجهة سُنة، وعلمانيين في مواجهة مسلمين، وعرب في مواجهة غير العرب، وغير ذلك من التقسيمات التي تسعى إلى شق وحدة الأمة في مواجهة الهيمنة الأميركية، والتدخل في شئون دول المنطقة من قبل بعض دول الغرب.
أعد تقرير راند مارس 2007م مجموعة من الخبراء الأميركيين العاملين بالمركز ومن أبرزهم أنجل راباسا وهو باحث أكاديمي عمل سابقاً في عدد من المناصب المهمة في كل من وزارة الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع، وهو حاصل على الدكتوراة من جامعة هارفارد الأميركية، كما شاركت في إعداد التقرير الباحثة الأميركية شيريل بينارد - التي ذُكرت سابقاً - والتي عرفت من خلال تقرير راند لعام 2005م حول الإسلام الديمقراطي المدني، وهى تعمل ضمن فريق مؤسسة راند في العالم العربي "دولة قطر"، ولها مواقف وآراء سلبية تجاه الإسلام.
وقد استغرق إعداد هذا التقرير ثلاثة أعوام كاملة، وقام معدوه بالعديد من الزيارات واللقاءات مع الكثير من المفكرين والإعلاميين في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم الإسلامي من أجل إعداد ونشر التقرير في 217 صفحة، وقُسم إلى ملخص للتقرير، ومقدمة، وتسعة فصول.
مضمون التقرير:
يتعرض ملخص التقرير لمجموعة من القضايا أثارتها الدراسة ومن أهمها التركيز على دور المسجد في المعارضة، ومزايا التيار الإسلامي الذي يجمع بين توفير المال والقدرة التنظيمية الفاعلة، ثم يؤكد الملخص أن الطريق لتحجيم هذا التيار الإسلامي الذي يوصف بالتطرف من وجهة النظر الأميركية يكمن في دعم المعتدلين لمواجهة الإسلاميين، كما يرى التقرير ضرورة حماية المعتدلين من كل من الحكومات العربية والإسلامية وكذلك من الإسلاميين.
ويؤكد الملخص أهمية الاستفادة من الخبرة السابقة في الحرب الباردة، واستخلاص الدروس من تلك التجربة، ومن أهمها: إيجاد تيار مضاد للفكر الإسلامي داخل المجتمعات المسلمة، ويطلق التقرير على هذا التيار وصف المعتدل ممن يدعي الاعتدال وفق الرؤية الأميركية، يصف التقرير في الفصل الأول "مقدمة" واقع العالم الإسلامي من ناحية دور المسجد في المعارضة السياسية، وعدم تمكن التيار العلماني من استخدام هذا المنبر من أجل التعريف ببرامجه، ويرى التقرير أن التيار الإسلامي يتمتع بكل من المال والتنظيم، وهما العنصران الأكثر تأثيراً في المجتمعات الإسلامية.
وينتقل التقرير في الفصل الثاني إلى خبرة الحرب الباردة، وكيف تحولت المواجهة مع الاتحاد السوفييتي من مواجهة اقتصادية وعسكرية إلى مواجهة فكرية بالدرجة الأولى، ويوضح أن أميركا قد أدركت مبكراً أن طبيعة المعركة الحقيقية في ذلك الوقت كانت فكرية، وبالتالي قامت بوضع استراتيجية فكرية عامة للتعامل مع الخطر الشيوعي، وكيف تم تغيير القوانين والقواعد المعمول بها سابقاً من أجل تحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي، وكيف تم السماح لوزارة الخارجية الأميركية باستخدام كل الوسائل الإعلامية اللازمة لتغيير الرأي العام العالمي لخدمة المصالح الأميركية، وخاصة من خلال مشروع راديو ليبرتي وهى محطة إذاعية أميركية كانت موجهة لدول شرق أوروبا، ويشرح الفصل الثاني بالتفصيل كيف تم تحقيق الانتصار الفكري في الحرب الباردة، وكيف تم استخدام المهاجرين واللاجئين من المعسكر الشرقي لضرب الشيوعية والفكر الشيوعي من خلال الإعلام والنشر، والحرب الإعلامية، واستحداث قسم خاص في وكالة المخابرات المركزية في تلك الفترة كان هدفه الرئيسي هو العمل على تغيير مواقف المفكرين والطلاب والعمال في شرق أوروبا ضد الشيوعية.
حمل الفصل الثالث من التقرير عنوان "مقارنة بين الحرب الباردة وتحديات العالم المسلم اليوم"، وتوحي المقارنة في حد ذاتها بأن الولايات المتحدة الأميركية في حرب جديدة، وأن الخصم في هذه المرحلة هو التيار الإسلامي، وهى نقلة فكرية لافتة للنظر في خطاب المراكز الفكرية الخاص بالعلاقة مع العالم الإسلامي.
يبدأ الفصل الثالث بتوضيح أوجه الشبه بين الحرب الباردة والمواجهة الحالية مع العالم الإسلامي، ويلخص أوجه الشبه في ثلاثة أمور هي: حدوث أزمة جيوبوليتكية (جغرافية سياسية) ذات بعد أمني ومخاطر عسكرية واستراتيجية على المصالح الأميركية، وإنشاء جهاز إداري أميركي ضخم للتعامل مع هذه الأزمة، والأخير أن طبيعة الصراع فكرية وليست اقتصادية أو عسكرية فقط.
ويحاول التقرير إقناع القارئ بأن أحداث سبتمبر من عام 2001م مثلت خطراً حقيقياً على الأمن الاستراتيجي لأميركا، وهو ما يشابه الخطر السوفييتي في منتصف القرن الماضي، أما أوجه الاختلاف بين واقع الحرب الباردة وبين الواقع المعاصر فيتلخص أيضاً في نقاط ثلاثة هي: الحرب الباردة كانت دولة في مواجهة دولة، هناك إمكانية للتفاوض، ويمكن معرفة أهداف وأطماع الطرف المنافس، فبينما كان للاتحاد السوفييتي أراض وحدود وشعوب يجب حمايتهاº فإن التيارات المسلحة التي استهدفت الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة ليست كذلك.
وينتهي الفصل الثالث بالتأكيد على معضلة تواجه الإدارة الأميركية في تعاملها مع العالم الإسلامي، وتكمن المعضلة في الإشكاليات الزمنية التي يمكن أن ترتبط بالدعوة إلى الديمقراطية في العالم الإسلامي، وكأن التقرير يشير إلى أن الاستراتيجية الأميركية في العالم الإسلامي في المرحلة القادمة يجب أن تبتعد عن دعم الديمقراطية بشكل فعلي، لأنها ليست في صالح أمن أميركا.
أما الفصل الرابع "جهود أميركا في تقليل موجة التطرف" فيركز على تقييم ما قامت به الولايات المتحدة خلال الأعوام الماضية من خطوات عملية لتحجيم التطرف، والجهود التي تركزت في الأعوام الماضية على الدعوة إلى الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، وأن هذه الدعوات الديمقراطية قد تسببت في خسائر حقيقية للولايات المتحدة الأميركية لأنها أثبتت أنها قد تأتي بالإسلاميين إلى السلطة، وهو ما يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة كما يرى التقرير، وتحدث الفصل بعد ذلك بشكل مطول عن دور المال الأميركي في دعم ومساندة بعض منظمات المجتمع المدني في العالم الإسلامي من أجل تحقيق التحولات الفكرية التي تسعى إليها أميركا، وأهمية الالتفاف حول الدول عند الإنفاق أو تقديم الدعم المالي والتنظيمي لهذه الجمعيات والمؤسسات في الدول العربية والإسلامية وهو ما يعد خرقاً واضحاً وصريحاً لسيادة الدول على أراضيها ومؤسساتها، ويؤكد التقرير أهمية أن يتم تجاهل الدول لإنجاح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
وقدم الفصل الرابع في نهايته تقييماً خاصاً لمشروع قناة الحرة وإذاعة سوا، مؤكداً أن المشروعين قد فشلا فعلياً في تحقيق الأثر المرجو منهما، وأن الميزانية لهما في عام 2007م 0 وهى 671.9 مليون دولار، إضافة إلى 50 مليون دولار أخرى كاحتياطي للأزمات - تمثل إهدارا للمال الأميركي كما يذكر التقرير، وأنه يمكن إنفاق المال بشكل أفضل في العديد من البرامج الأخرى.
وجاء الفصل الخامس بعنوان "خارطة الطريق لبناء شبكات معتدلة في العالم المسلم"، وأوضح أن نقطة البدء الرئيسية التي يجب على الولايات المتحدة العناية بها في شبكات المسلمين المعتدلين تكمن في تعريف وتحديد هوية هؤلاء المسلمين، ويمكن التغلب على صعوبة تحديد ماهية هؤلاء المعتدلين من خلال اللجوء إلى التصنيفات التي وضعتها بعض الدراسات السابقة التي قام بها بعض باحثي معهد أو مؤسسة راند، ولهذا الغرض فقد وضعت الدراسة بعض الملامح الرئيسية التي يمكن من خلالها تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين أهمها القبول بالديمقراطية، والقبول بالمصادر غير المذهبية في تشريع القوانين، واحترام حقوق النساء والأقليات الدينية، ونبذ الإرهاب والعنف غير المشروع.
ووضع تقرير راند في الفصل الخامس اختباراً للاعتدال يضع مجموعة من الأسئلة التي يعتبرها مقياساً للاعتدال، والإجابة على هذه الأسئلة تحدد ما إذا كان الفرد أو الجماعة يمكن أن يوصف بالاعتدال أم لا وفق الرؤية والأهداف الأميركية، فيضع التقرير 11 سؤالاً من ضمنها الأسئلة الآتية: هل يتقبل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ هل تؤيد الديمقراطية؟ هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً؟ هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟ هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على نفس حقوق المسلمين؟ هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادىء تشريعية غير مذهبية؟ ومن يقرأ هذه اللائحة من الأسئلة يدرك على الفور أن تعريف الاعتدال بالمفهوم الأميركي لا يعبر إلا عن المصالح الأميركية الهادفة إلى تحويل المسلمين بعيداً عن الإسلام تحت دعوى الاعتدال العالمي.
ومن اللافت للنظر أن التقرير يؤكد أهمية استخراج النصوص الشرعية من التراث الإسلامي التي يمكن أن تدعم هذه اللائحة وتؤكدها، وأن يُستخدم الدعاة الجدد (أو الدعاة من الشباب كما أسماهم التقرير) لتحقيق ذلك، والقيام بهذا الدور.
ويوصي التقرير بأن تكون الدعوة للاعتدال بعيداً عن المسجد، وأن تستخدم البرامج التليفزيونية والشخصيات ذات القبول الإعلامي والجماهيري من أجل تحقيق ذلك، وحدد التقرير الأشخاص أو الفئات التي يمكن للإدارة الأميركية التعامل معها وهى العلمانيون والإسلاميون العصرانيون، والتيار التقليدي المعتدل، ويرى معدو التقرير أن التيار العلماني هو أهم التيارات التي يجب العمل معها من أجل بناء الشبكات المعتدلة في الشرق الأوسط.
ويناقش التقرير أيضاً كيفية إيصال الدعم المالي والمساندة الإدارية والتنظيمية إلى الأفراد والمؤسسات التي ستتعاون مع الاستراتيجية الأميركية لبناء الشبكات المضادة للتيار الإسلامي، وانتقل التقرير إلى تحديد الفئات المهمة داخل شريحة التيار العلماني الليبرالي التي يجب التركيز عليها كالتيار الأكاديمي الليبرالي والعلماني، والدعاة المعتدلون الجدد، والقيادات الشعبية، وجمعيات المرأة، والصحفيون، والكتاب والإعلاميون.
وخلص الفصل الخامس إلى أن استراتيجية بناء الشبكات المضادة للتيار الإسلامي أو الشبكات المسلمة المعتدلة يجب أن تعتمد على محورين: الأول هو التعاون مع المعتدلين من العلمانيين في دول الأطراف، أو الدول التي يمكن العمل فيها بحرية، والمحور الثاني هو عكس مسار الأفكار بحيث تكون من الأطراف نحو المركز.
أما الفصل السادس "الركن الأوروبي في الشبكة" فيذكر أن هناك على الأقل 15 مليون مسلم في أوروبا الغربية وحدها من بينهم 4 - 6 ملايين في فرنسا وحدها، وأكثر من 3 ملايين في ألمانيا، ومليون ونصف في بريطانيا، ومليون في إسبانيا، وما يقارب المليون في هولندا، ويذكر الفصل إحصائية لافتة للنظر هي أنه في عام 2004م كان عدد الكتب العربية التي نُشرت في بريطانيا وفرنسا أكثر من جميع الكتب التي نُشرت في العالم العربي.
ويبحث التقرير في هذا الفصل الصور المختلفة للتعبير عن الإسلام في أوروبا فيركز على ثلاثة تيارات رئيسية هي: تيار الاندماج في الحياة الأوروبية، تيار الاهتمام بالهوية الإسلامية داخل أوروبا مع عدم تفهم عدم إمكانية تطبيق بعض الشعائر الإسلامية، وتيار الاعتزاز بالإسلام بأكمله، ومحاولة تطبيق كافة تعاليمه، وهم بالعموم أنصار التيار السلفي، ويصف التقرير التيار السلفي هناك على أنه أخطر التيارات التي تواجه أوروبا، ويجب تحجيمه ومقاومته، والعمل على تقليص وجوده العملي في الحياة الفكرية للمسلمين في أوروبا.
ويشير التقرير إلى أن على أوروبا أن تدعم النوع الأول فقط - وهم أنصار الاندماج في الحياة الأوروبية - مع بعض الدعم للتيار الثاني، وعدم دعم التيار الثالث على الإطلاق.
وينتهي الفصل السادس بذكر أسماء العديد من المنظمات التي يمكن التعاون معها في أوروبا من أجل بناء شبكة الاعتدال التي يدعو لها التقرير، ويأتي الفصل السابع "الركن الخاص بجنوب شرقي آسيا في الشبكة" ليؤكد أهمية الاستفادة من التجربة الإندونيسية في إشاعة الليبرالية تحت مظلة الاعتدال، ومثال ذلك جمعية نهضة العلماء، والتيار المحمدي، ويرى التقرير أن كلاً من باكستان وماليزيا تمثلان التيار الأصولي من الناحية الفكرية، ويوصي التقرير بدعم التيارات العلمانية في جنوب شرقي آسيا - وخاصة في الجوانب التعليمية التي تحاول إعادة تقديم الإسلام بصورة أكثر تقارباً مع النموذج الحضاري الغربي -، وأن يتم حماية هذه المؤسسات والتيارات ودعمها ومساندتها لأداء مهمتها، ويذكر التقرير بالتفصيل الجامعات الكبرى، والمؤسسات التعليمية المهمة في إندونيسيا وغيرها من دول جنوب شرقي آسيا التي تتبنى تقديم العلمانية في إطار إسلامي.
ويحدد الفصل الثامن "المكون الشرق أوسطي" العائق الرئيسي أمام بناء شبكات معتدلة في الشرق الأوسط بأنه يتركز في عدم وجود حركة ليبرالية علمانية واسعة القبول، وفي غياب الحركة الليبرالية يصبح الإسلاميون والمساجد هم القنوات الوحيدة للتعبير عن المعارضة السياسية.
ويذكر التقرير أن هناك تركيزاً في بعض الدول على دفع التيارات الليبرالية للتوحد والعمل سوياً، ويهتم هذا التقرير بشرح العديد من مشروعات دعم وبناء التوجهات الديمقراطية في المنطقة العربية، ووجود مؤسسات دولية ترعى تلك الأنشطة في المنطقة فيذكر التقرير على سبيل المثال مركز "ابن رشد"، ومركز "الإسلام ودراسات الديمقراطية" الموجود بالولايات المتحدة الأميركية الذي يقوم بإعداد قاعدة بيانات عن المسلمين الديمقراطيين في العالم الإسلامي للتعاون معهم، وعقد الورش والبرامج التدريببة لهم، وإيجاد فرص تعليمية وحركية لدفعهم إلى المزيد من المشاركة السياسية في دولهم.
أما الفصل التاسع "المسلمون العلمانيون .. البعد المُهمل في حرب الأفكار" فيركز على أهمية أن تعيد الولايات المتحدة الأميركية النظر في سياساتها ورؤيتها لدور التيار العلماني الليبرالي في الشرق الأوسط في خدمة بناء الشبكات المعتدلة، ويهتم التقرير بشكل خاص بالنوع الأول من التيارات العلمانية وهى التيارات العلمانية التحررية التي تعتبر النموذج الأميركي قدوة لها.
ويذكر هذا الفصل أن العلمانيين التحرريين من المسلمين لم يتم دعمهم مالياً بدرجة كافية، ويعانون من عدم وجود أرضية منافسة مع التيار الإسلامي، وأكثر من ذلك أنه كان يُنظر إليهم بعين من الشك من قبل الحكومات الغربية، ويقدم هذا الفصل أمثلة للشخصيات التي يمكن التعامل معها في هذ السياق ومن بينها: وفاء سلطان، إيان هيرسي على، الكاتب السوري محمد شحرور، الشاعر أدونيس، الدكتور نصر حامد أبو زيد، مارسيل خليفة، شاكر النابلسي، وطارق حجيº وغيرهم كنماذج للتحرر والعلمانية المسلمة، كما يتناول الفصل تحديد أسماء المؤسسات العلمانية المسلمة وشخصياتها القيادية في مختلف مناطق العالم الإسلامي وخارجه في أوروبا وأميركا، وأهمية التعاون معها.
ويقدم الفصل العاشر والأخير من تقرير راند جملة من التوصيات التي تؤكد أهمية التركيز على الأطراف في الصراع مع التيار الإسلامي، والبعد عن المركز لصعوبة تحقيق انتصارات حقيقية في هذه المرحلة في المركز، ويعني به العالم العربي، وأن يتم عكس مسار الأفكار الحالي الذي يتحرك من المركز نحو الأطراف، ويؤكد التقرير أهمية استخدام الترجمة والآلة الإعلامية من أجل تحويل مسار الأفكار لتكون من الأطراف نحو المركز، أو من الدول الإسلامية التي يرى معدو التقرير أنها أكثر اعتدالاً وانفتاحاً إلى المركز الذي يحدده التقرير بالعالم العربي، كما يؤكد هذا الفصل وسائل عملية مهمة كعقد ورش عمل مصغرة للعاملين على الساحة من الليبراليين والمعتدلين للمساهمة في تحديد احتياجاتهم ليكونوا أكثر فاعلية، وانتقاء مجموعة من البرامج الأولية الاختبارية على أساس هذه الاحتياجات، والإعلان عن شبكة دولية من المسلمين المعتدلين والليبراليين، وجمعهم في مؤتمر يُعقد في مكان ذي دلالة رمزية، وإعادة تخطيط البرامج للتركيز على المعتدلين الحقيقيين في المناطق التي بها أمل في التغيير أكثر من غيرها، والتأكد من الظهور الإعلامي، ووجود مساحات كافية للتعريف بالمعتدلين، فمثلاً يجب أن يتم دعوتهم في زيارات للكونجرس، وفي الاجتماعات مع الشخصيات الرسمية العليا لجعلهم معروفين بشكل أكبر لصناع القرار، وللحفاظ على استمرارية المساندة لجهودهم.
استراتيجيات احتواء الإسلام:
يتعرض الكاتب في الجزء الثالث من قراءته إلى استراتيجيات احتواء الإسلام فيوضح قيمة التقرير من الناحية الاستراتيجية، ويشير إلى أن تقرير راند يكشف عن تحولات ملموسة ومتصاعدة في الحدة فيما يتعلق بالرؤية الفكرية الأميركية حول التعامل مع الإسلام، وكذلك مع العالم المسلم، ورغم أن التقرير يقدم مقترحات، ولا يُملي أو يقرر سياسات بعينها لصانع القرار الأميركيº إلا أن هناك العديد من العوامل التي تجعل لهذا التقرير قيمة مهمة مثل: الجهد العلمي والبحثي المبذول في هذا التقرير الذي استغرق ثلاثة أعوام للانتهاء منه، وقوة أفكار التقرير، وسهولة تحويلها إلى برامج عملية، كما أنه من المعروف أن هناك مساندة فكرية قوية لأفكار مؤسسة راند داخل مؤسسة السياسة الأميركية بصفة عامة، والإدارة الأميركية على وجه الخصوص.
وتتمثل عناصر استراتيجية احتواء الإسلام في أن الصراع ليس صراع مصالح فقط بل الأهم أنه صراع أفكار، والمعركة لن تُحسم فقط بمقاومة الإرهاب وإنما الإسلام في حد ذاته، وأهمية تحول الولايات المتحدة إلى الدور القيادي في الصراع الفكري والصراع ليس مع التيارات المسلحة أو المتشددة إنما مع التيار الإسلامي، ونقل ساحة الصراع إلى داخل العالم المسلم بدلاً من أن يكون الصراع مع الغرب، ولابد من تغيير الإسلام أو احتوائه أو تهميش دوره، واختيار الاعتدال كمصطلح رئيسي في المواجهة الفكرية، وإعادة تفسير مبادىء الإسلام لتستجيب للمصالح الغربية، واستخدام الإسلام في مواجهة الإسلاميين، وإحياء ودعم وتقوية العلمانيين في مواجهة التيار الإسلامي، وتهميش سيادة الدول وتقليص قدرتها على التصدي للمشروع الأميركي، واتهام كل الخصوم بالسلفية، والوهابية، والتطرف، والتركيز على تحويل أطراف الأمة ضد مركزها، وعكس مسار الأفكار لتهاجم المركز بدلاً من أن تنطلق منه، وتحجيم نهضة بعض تيارات الإسلاميين من خلال الحوار معهم، وتوريط الإدارة الأميركية القادمة في سياسة عدائية فكرية ضد الإسلام، وجمع كل من لا ينتمي إلى التيار الإسلامي في جبهة موحدة ضد الإسلام.
إن النقاط السابقة التي توضح الاستراتيجية التي يقترحها تقرير راند تشكل خطراً حقيقياً ومباشراً يواجه العالم الإسلامي بمختلف توجهاته وعناصره الاجتماعية، ولا يهدد التيارات الإسلامية فقط، بل تمتد آثاره لتنال من نسيج الوحدة الوطنية، وسيادة الدول على أراضيها.
خطوات عملية تجاه التقرير:
يقدم الكاتب في الجزء الرابع من دراسته عدة مقترحات وتوصيات لمواجهة تقرير راند، والحرب الفكرية الأميركية على الإسلام، والعمل على إقامة مشروع إسلامي مضاد يُحد من الآثار السلبية التي قد تنتج من تبني بعض مقترحات هذا التقرير من قبل الحكومات الغربية، ومن أهم المقترحات والتوصيات المضادة:
• ترجمة التقرير، وإتاحته في أسرع وقت ممكن لصناع القرار في العالم العربي والإسلامي من العلماء والمفكرين والسياسيين، والتعاون من أجل فهم ما يعنيه هذا التقرير، وما يقدمه من توصيات للإدارة الأميركية.
• تحرير وضبط مصطلح الاعتدال بإعداد رد فكري يتناسب مع الطرح الذي قدمه التقرير فيما يتعلق بمفاهيم الاعتدال.
• التعريف الإعلامي بالتقرير، والتحذير مما تضمنه من أفكار.
• التصدي للمواجهة الفكرية الغربية، وتوضيح أن المواجهة الفكرية مع الغرب قد بدأت من قبل الغرب، وأن المراكز الفكرية هناك تقوم بحشد الآراء والتوجهات والموارد من أجل هذه المواجهة.
• الحث على حماية أطراف الأمة الإسلامية إضافة إلى حماية مركزها، وهو ما لا يجب أن يُترك لأنصار الهجوم على أطراف الأمة الإسلامية - كما يذكر التقرير، ويؤكد في أكثر من مكان -، وعلى الدول والمؤسسات والهيئات الخيرية العربية أن تضع نصب أعينها أن نُصرة جميع الدول الإسلامية ومساندتها وتقويتها هو حماية للمركز الإسلامي الذي حدده تقرير مؤسسة راند أنه العالم العربي تحديداً، وأن حماية الأطراف هي حماية حقيقية للمركز.
• الدفاع عن التوجهات والتيارات الراشدة في العمل الإسلامي، وعدم إنجاح مخطط أميركا من خلال قيامها بتبني أسلوب " فرق تسد" بين فئات وتيارات العمل الإسلامي.
• العلاقة مع الدول والحكومات: إن المواجهة الفكرية الأميركية المتوقعة لن تكون فقط مع التيار الإسلامي، وإنما مع الدول التي تتعاطف بأي درجة مع الإسلام، وكذلك تلك الدول التي تتحرج من معاداة الإسلام فعلياً، ويحتاج الفريق الإسلامي إلى تفهم مستقبل العلاقة مع تلك الدول، والتي مرت بالكثير من المشكلات طوال العقود الماضية.
• توازن الرسالة الإعلامية بأن يكون هناك إعلام متزن جاد مما يعد أحد أسلحة المواجهة الفكرية المضادة للدفاع عن حقوق الأمة المسلمة، وأن يبتعد ما أمكن عن مجرد الخطاب العاطفي غير المعلن، مع عدم التقليل من دور العاطفة المتزنة والمنضبطة شرعاً في تحفيز الهمم، وتقوية العزائم.
• عدم الاكتفاء بالمقالات الصحفية بل أن تكثف المراكز البحثية والفكرية والأكاديمية والعلمية في العالم العربي والإسلامي من دراساتها النقدية للفكر الغربي المعاصر.
• إقامة ورش عمل لوضع التصورات المقابلة، والمؤتمرات المصغرة.
• الحاجة إلى رصد الإمكانات الملائمة لمواجهة الهجمة الفكرية من الغرب.
• دفاع المسلمين عن دينهم، وعدم التفريط في هذا الواجب، ومواجهة الحملات الهادفة إلى المساس بالدين، ومواجهة خصوم الأمة فكرياً وحضارياً وثقافياً للدفاع عن الدين الإسلامي، ونصر الأمة، وحماية مصالحها، كما يجب على المسلمين الاعتزاز بأصول الإسلام، والعناية بالتعريف به بكل السبل الشرعية المتاحة والممكنة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد