بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلم على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن ولاه، وبعد:
فلن تفرح (أمريكا) بشيء يخص العالم الإسلامي بقدر فرحها بما يسمونه بـ(الإسلام الليبرالي)، أو (العصرانية)، أو (العقلانية)، أو ما نسميه نحن وهو أقرب (أهل الأهواء).
هذا التيار لم ينل حقه من الكشف والتعرية، بل واجه حياداً واضحاً من كبار العلماء بدعوى الانشغال بـ(العدو اليهودي)، ولا أدري أنسوا أم تناسوا أثر (النمل الأبيض) في تجويف جسد الأمة، وهي منشغلة بالعدو الخارجي اليهودي!
إن الأمة ستهوي حتماً أمام العدو اليهودي إن هي تركت عصاها تأكل العصرانيةُ من سأته، وعلى علماء الأمة أن يهبوا لوأد هذه المدرسة كما هبوا أيام الحداثة عندما كشف عوارها (عوض القرني)، ورفع من شأن رسالته تقديم الشيخ ابن باز، فخبت الحداثة بعدها، ولم تصبح سوى (حكاية) تروى على أرفف المكتبات!
وقد قرر غير واحد من أهل العلم أن قتال الخوارج أولى، وأهم من قتال الكفار الأصليين، إذ كيف تقاتل الكافر الأصلي وأمنك الداخلي مهدد من ثلة خارجية، وكذلك في مجال الفكر فإن تعرية الفكر الخارج على دين المجتمع وعقيدته، وجهاده بالحجة والبيان أولى من الانشغال بعدو خارجي يفرح بتشاغل الأمة به عن ذلك الجنين اللقيط من سفاح الفكر، ولئن استمر التغاضي عن هذا الفكر بدعوى عدم إعطائهم أكبر من حجمهم، والانشغال بالعدو اليهودي، فسيأتي ذلك اليوم الذي لن نستطيع فيه السيطرة على حجمه، ويستمر بالتعاظم يقع الفأس بالرأس، فلا ينفع صياح، ولا عويل على تفريطنا.
إننا بحاجة في مواجهة هذه المدرسة إلى جهد كبير أوله لا يقل عن كتاب عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام)، وآخره لا يقف حتى ندفن هذا الفكر في مزبلة التاريخ، وإلا فإن أضراره ستكون خارج السيطرة، خاصة والتيار العصراني ما زال في طور التشكل باجتماعاته في (الشقق)، و(الاستراحات)، و(الندوات الخاصة)، ويجذب الكثير من شباب الصحوة إليه.
ومن هذا الباب سأسرد بعض الفصول حول المدرسة العصرانية شاملاً تعريفها، ورموزها، وأفكارها، حسب ما يتوفر لي من المراجع، على أن أعزو ما انقل إلى مصدره قدر المستطاع.
سائلاً المولى - جل وعلا - أن يوفقنا وجميع الدعاة والعلماء إلى نصرة دينه.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فصل تعريف العصرانية:
قد كثرت عبارات التعريف بهذه المدرسة، ولكن كلها لا تخرج تصريحاً أو تلميحاً - عن أصالة العقل عندهم، وتقديمه على النقل.
فقد قيل في تعريفها: اتجاه يقدم العقل على النقل، ويجعل العقل مصدراً من مصادر الدين، ومُحَكَماً في النصوص. (انظر: الاتجاهات العقلية الحديثة، العقل ص17).
وقيل: إنها وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي، والثقافة المعاصرة تستلزم إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة. (أنظر: المدرسة العصرانية ص15، العصرانيون ص6، لمحمد بن حامد الناصر).
وقيل: هي مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي، أو التجربة البشرية، وإخضاع كل شي في الوجود للعقل لإثباته، ونفيه، وتحديد خصائصه. (انظر: الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب المعاصرة ص2/796).
وهذا التعريف الأخير تعريف للعصرانية التي ظهرت في أوربا بعد الثورة على الكنيسة في ذلك الحين حيث أن سرد الموسوعة للرموز والأفكار كلها متعلقة بتلك المرحلة.
إذن فالمدرسة العصرانية، أو العقلانية إن صحت العبارة هي اتجاه يعمد إلى تطويع أحكام الدين ونصوصه إلى حاجات العصر، وعمدتهم في ذلك ما تؤديه إليه عقولهم مما يعتبره مصلحة يوجب تقديمها بحجة روح الإسلام، ومقاصد الدين، وضرورياته..
فصل ألقاب هذه المدرسة:
كثرت الألقاب لهذه المدرسة، لكن أهلها يهيمون حباً وعشقاً في تسمية أنفسهم بـ(التنوير) فتجد التنوير مضافة إلى أشياء كثر، فهم (شباب التنوير)، وشقتهم الكائنة في شارع ابن خليفة المؤمنين!! (شقة التنوير) مشاكلة لـ(شقة الحرية)!!
ويسميهم خصومهم بـ(العصرانيين) نسبة إلى تطويعهم الدين لموافقة العصر.
و(المعتزلة الجدد) وذلك بسبب مشابهتهم للمعتزلة في تقديم العقل، واعتباره في وجه النصوص، وأيضاً لأنه يندر أن تجد عقلانياً عصرانياً لا يمجد المعتزلة، ولا يعلي من شأنهم ويرى أنهم دعاة الحرية، وإعمال العقل!
ولكن وإن شابهوا المعتزلة في ذلك إلا أن المعتزلة أفضل منهم حالاً، ففيهم تعظيم للشريعة، وعبادة ظاهرة وإن كانوا لا يخلون من زندقة في بعضهم أما هؤلاء فهم بلا دين فتجد أحدهم كان يحافظ على الصلاة جماعة، وما أن ينتهج هذا المنهج حتى لا تكاد تراه في المسجد، وتبدأ الآراء الغريبة تبدوا في (اختياراته)!!! فهو يرى سنية صلاة الجماعة، وسنية أخذ ما زاد عن القبضة من فوقها لا من تحتها!! وجواز إسبال الثياب لغير الخيلاء، وجواز كشف وجه المرأة، وغيرها من غرائب المسائل بدعوى التجديد، والتنوير!
ويسمون بـ(العقلانيين)، وهو مصطلح غير سديد!
إذ أن التسمية هذه تفترض أن هناك تعارضاً بين العقل الصريح، والنقل الصحيح، خاصة وأن مطلقي هذا المصطلح هم من يؤمنون بتوافق العقل مع النقل، ولأنه لم يرد في نصوص الشرع أن أحداً ضل بسبب عقله بل الذين ضلوا هم الذين لا يعقلون، ولا يتدبرون، ولا ينظرون! والمهتدين هو أصحاب العقول (أولو الألباب)! ولا يضل المرء إلا بسبب هواه، ولهذا سما السلفُ المعتزلةَ بـ(أهل الأهواء).
وكل أمر من أمور الدين يمكن الاستدلال بها عن طريق العقل، وعلى ذلك فالعقلانيون حقاً هم (أهل السنة والجماعة).
إضافة إلى أن تسميتهم بـ(العقلانيين) فيه فتنة لهم، وإعلاء من شأنهم، وانهم هم أصحاب العقل، وغيرهم هم المقلدة، الذين لا يفهمون، ولا يعقلون. (أنظر: مقالة جعفر إدريس "ليسوا عقلانيين.. إنما هم أهل الأهواء" مجلة البيان، العدد: 141).
فصل رموزهم في الماضي والحاضر:
نستطيع أن نقول أن رموز المدرسة العصرانية في الماضي هم: رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، ولذلك تجد أن رموز العصرانية في الحاضر يمجدون هذان الرجلان، ويحيون تراثهم، فهناك من أخرج المجموعة الكاملة لأعمالهم (محمد عمارة).
فأما رفاعة الطهطاوي والذي تغنى به، وبأبنائه أحد كتاب الصحف في بلاد الحرمين (انظر: أولاد رفاعة الطهطاوي، عادل الطريفي، جريدة الرياض 13680). له من الجهود في تغريب الإسلام والمسلمين ما يشيب له الولدان، وأول ما عرف كان إماماً لبعثة إلى فرنسا، ومنها تغرّب الرجل، فانبهر بالمدنية الفرنسية، وقرأ بنهم في علومها، وفلسفتها، حتى أبتلعها، ولم يستطع تقيئها!! وقد ذهب إلى هناك وعمره (25 سنة)! هل تظن أن أحداً بهذا العمر يستطيع الوقوف شامخاً أمام تلك الحضارة وهو عري عن العلم والعقيدة الصحيحة؟
في فرنسا اغتال فكره (الميسو جومار) الفرنسي، لما رأى من حرصه على تعلم الفرنسية، وإعجابه الشديد بأهلها، ومدنيتها!! وقضى فيها ست سنوات كانت كفيلة بتغريبه عن نفسه التي صحبها خمساً وعشرين سنة!
أنشأ بعد عودته (مدرسة الألسن) التي هي بحق قاصمة للتعليم الديني، والتي جعلها مدرسة تجتمع فيها علوم شتى، ويدرس فيها مجموعة من المستشرقين الذين تولوا تغريب 150 طالباً اختارهم رفاعة بعناية فائقة! وأحدث رفاعة بعدها صدعاً مبيناً في ثقافة الامة وقسمها إلى شطرين، الأزهر من جهة، ومدرسة الألسن من جهة أخرى! في وقت كان سلطان مصر يدمر أجنحة الأزهر بغباء فاضح! (انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، في كتاب "المتنبي"، تأليف: محمود شاكر، والرسالة قيّمة تحتاج لإحياء وإدمان نظر) وأيضاً (انظر: الاتجاهات العقلانية الحديثة، ناصر العقل، ص83، وأيضاً: العصرانيون، محمد حامد الناصر، ص127).
وأما جمال الدين الأفغاني فقد طلب الانضمام للمحفل (الماسونية) عام 1292هـ ثم اختير بعد ثلاث سنوات رئيساً لمحفل كوكب الشرق في عام 1978م بأغلبية الآراء! ثم اعتزله، وأنشأ محفلاً وظنياً تابعاً للشرق الفرنسي! ثم صدر أمر بنفيه من مصر عام 1296هـ.
ولم ينقطع نشاطه الماسوني أينما حلّ.
بل إنه تحالف مع الإنجليز ضد الخلافة الإسلامية! (أنظر: العصرانيون، لمحمد بن حامد الناصر، ص35).
وأما محمد عبده فحظوته لدى التيار أكبر وأشد، وانبهارهم به أعظم.. !
ومحمد عبده على أنه أبغض السياسة، ومقتها، إلا أن السياسة لم تتركه، بل أستغلته، واتخذته مطية، عن طريق المعتمد الإنجليزي كرومر الذي يرى أن دور محمد عبده له أهمية خاصة كونه يقوم بتقريب الهوّة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين، وأنه ومدرسته خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع!! وقد اشترك مع شيخه في المحافل الماسونية (انظر:العصرانيون ص39).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد