اللغة العربية وقضية التخلف ( 2- 4 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يتفق "الشوباشي"، مع هؤلاء الأجانب والعرب في أن الفصحى هي سبب تخلفنا، وأنها تحول بيننا وبين الرقيّ لما فيها من صعوبات وتعقيدات، واختلف معهم في أنه لم يدع إلى العامية صراحة، وإن كان قد دعا إلى ما يقود إليها، في نهاية المطاف.

لقد طالب بإلغاء المثنى ونون النسوة والمفعول به والتمييز وعدم استخدام التشكيل، كما طالب بإلغاء البلاغة العربية والمحسنات البديعية، ورأى أن كلمة "إللَّي" بالعامية تنوب عن اسمي الموصول: الذين واللائي!

ما طالب به الشوباشي، هو "كل" خطته لتطوير اللغة العربية، وهي خطة غير علمية وغير منهجية لأنه في الوقت الذي طالب فيه بإلغاء بعض المفردات النحوية، لم يقل لنا شيئاً عن مصير بقية المفردات، وكيف سيكون مصير الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر، والمثنى والجمع، والحال والصفة، والبدل وعطف البيان؟ إنه لم يتكلم عن ذلك أبداً لأنه يعلم أن بداية تحقيق مطلبه، تعني عملياً استخدام العامية، وانتهاء الفصحى، بل انتهاء العربية تماماً.

وقد كان هنالك سؤال وجيه لم يجب عنه "الشوباشي" في كتابه ولا في المداخلات الإعلامية أو الصحفية، هذا السؤال يقول: كيف نقرأ القرآن الكريم بعد تنفيذ مطالبه؟ ثم ما مصير المثنى وجمع المؤنث والمفعول والتمييز واسم الموصول؟ ثم من الذي سيقرأ القرآن الكريم والتراث بعد سيادة العامية في الكتابة والقراءة والحديث اليومي؟

 

إن تشخيص مشكلة التخلف في بلادنا العربية من خلال اتهام اللغة العربية بأنها السبب الأساسي الذي يمنع العرب من الإبداع، ويحول بينهم وبين التقدم، هو تشخيص خاطئ وغير سليم، كما أن تطوير الفصحى إلى العامية هو تطوير غير سليم أيضاً، ولا يمثل وعياً حقيقياً بحقيقة مشكلات اللغة العربية، فضلاً عن مشكلات الوطن والأمة، حتى إن ادّعينا احترام اللغة والحرص عليها والخوف من زوالها ومحوها.

إن التخلف في بلادنا العربية له أسبابه المعروفة التي يعرفها كل من له أدنى علاقة بالفكر والثقافة، وتتمثل في غياب الحرية والعدل والمساواة والكرامة وتقدير العلم والعلماء. إن العبيد والمظلومين والمقهورين والمهمَّشين والذين لا يجدون فرصة للمشاركة في تقرير مصيرهم ومصير أوطانهم، ويرون أن الراقصة والمطربة ولاعب الكرة أكثر أهمية وأكبر مكانة من العلم والعلماء والبحث العلمي، هؤلاء لا يستطيعون أن يتقدموا أو يبدعوا أو يخترقوا حجب التخلف والضياع والهزيمة.

 

لم يقترب الشوباشي من التشخيص الحقيقي لتخلف بلادنا العربية، كما لم يقترب أبداً من المشكلات الحقيقية التي تعانيها اللغة العربية في الواقع المعاصر.

إن الإحساس بالدّونية، هو الذي يجعل الناس يحتقرون لغتهم ويبحثون عن غيرها من لغات أهل التقدم والعلو في الأرض، ويجعل المسؤولين والمثقفين ورجال الصحافة والإعلام يحاولون دائماً التحدث بلغات أجنبية أو استخدام بعض الكلمات من هذه اللغات لتزيين كلامهم ظناً منهم أن ذلك يضعهم في خانة المتقدمين المتحضرين، ويبلغ الإحساس بالدونية مداه حين يصل الأمر إلى أعماق الأرياف والقرى، فنرى مثلاً الفتى "عوضين" صاحب كشك الحلويات والسجائر يتخذ عنواناً لكشكه مكوناً من كلمتين إحداهما أجنبية والأخرى عربية تحمل اسمه "بوتيك عوضين" أو سوبر ماركت عوضين، بعد أن رأى القنوات التلفازية والصحف اليومية تغص بالكلمات الأجنبية، بل إنه رأى أسماء أجنبية لقنوات عربية صميمة، وحروفاً لاتينية لبرامج أو مذيعين يشاهدهم على الشاشة الصغيرة، فضلاً عن السخرية والتهكم على مدرسي اللغة العربية، أو تقديمها من خلال التنطع والتشدق.

الدونية تنبع من الهوان والهزائم القومية، وقد تلبَّست كثيراً من المواطنين، وخاصة من الشباب الذين لم يتعلموا معنى المقاومة ضد العدو، ومعنى التمسك بالهوية وعدم الخجل منها.

 

وإذا كان الشباب يستشعر الدونية على وجه الخصوص فإن ذلك يرجع إلى تحقير لغته العربية من خلال نظام التعليم السائد، فهذا النظام ليس موحداً، ويقوم على الطبقية، فهنا مدارس لغات، ومدارس أجنبية، ومدارس خاصة، كلها تعلي من شأن اللغات الأجنبية، وتحقِّر ضمناً اللغة القومية، وفي الوقت نفسه نجد المدارس العامة التابعة للدولة تجعل اللغة العربية مجرد مادة ضعيفة لا تحظى بالاهتمام أو الدرجات التي تحظى بها مادة أجنبية يتم تدريسها في التعليم العام (الفرنسية في شهادة الثانوية العامة تدرَّس لمدة سنتين في المراحل الثلاث: الابتدائي والإعدادي والثانوي، ولها أربعون درجة. أما اللغة القومية فتدرس لمدة اثني عشر عاماً، ولها ستون درجة!!، والإنجليزية لها ستون درجة وتدرس لمدة تسع سنوات!!، ويلاحظ أن العربية لم تحظ بالستين درجة إلا بعد حملة صحفية عنيفة شنها المدافعون عن اللغة العربية ضد وزارة التعليم).

إن ضعف اللغة العربية أو مشكلات تعليمها يرجع إلى سوء المناهج وطرق التدريس والامتحانات، وهذا أمر يعلمه جميع المهتمين بشؤون التعليم في بلادنا، ويبدو ذلك أمراً مقصوداً، فاللغة العربية رمز لما هو مهم وأساس في حياة الأمة، أعني الإسلام الذي يعدٌّه البعض عقبة في طريق التماهي مع الغرب، ومصدراً للعديد من المشكلات معه، لذا فإن الغضّ من شأن اللغة يقطع الروابط التي تربط الأجيال بدينها: عقيدة (لدى المسلمين)، وحضارة وثقافة (لدى غيرهم).

 

وإذا عرفنا أن حفظ القرآن الكريم هو العنصر الأهم في مساعدة الطلاب على نطق الفصحى نطقاً صحيحاً، وعرفنا أيضاً أن القرآن الكريم يتم تغييبه عملياً في التعليم من خلال إلغاء مادة التربية الدينية واقعياً، أدركنا سراً خطيراً من أسرار انهيار اللغة العربية وصعوبتها، لقد تفوق "طه حسين" و"أمثاله" في اللغة العربية بسبب حفظه للقرآن الكريم، وتجويده له، مع أنه حمل على شيخ الكتاب ونائبه "العريف" حملة ضارية في سيرته الذاتية "الأيام" ولكنه ردد كثيراً أن "لغتنا يُسرٌ لا عسر"، مما يعني أن قضية تطوير اللغة التي يسعى إليها "شريف الشوباشي" بالأفكار التي قدمها، هي قضية خاسرة، أثيرت في وقت مريب، وفي ظل أحداث مريبة!. (3)

 

كان يفترض أن يطرح "الشوباشي" اجتهادات علمية لتطوير تعلم العربية وتيسير تدريسها وتعميمها في المدارس والمعاهد والجامعات وأجهزة الإعلام والصحافة والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتجارية، ولكنه واجه المسألة من خلال الهجاء والاتهامات الجزافية والأحكام العامة والأفكار الصادمة والمقدمات الخاطئة التي تؤدي إلى نتائج خاطئة، وتكاد كل صفحة من صفحات كتابه التي تقرب من المائتين تحمل واحداً من هذه العناصر غير العلمية التي لم يقدم دليلاً واحداً على صحتها أو صوابها، لقد اجتهد من سبقوا "الشوباشي" في التدليل على صحة ما يقولون حتى لو لم يكن مقنعاً. هذا ما فعله ويلكوكس والمستر ويلمور، وإسكندر معلوف، وسلامة موسى، وأحمد لطفي السيد، وعبدالعزيز فهمي، ولويس عوض، وأنيس فريحة، وسعيد عقل... وغيرهم.

 

بيد أن الشوباشي لم يكلف نفسه عناء البحث عن مسوِّغات حقيقية لدعواه، واكتفى بهجاء من "سماهم حراس الضاد وتراث السلف، وأنصار التجمد ورفض التجدد، وحراس القديم، وحراس الماضي، وأنصار الماضي، والمنافقين، والمزايدين، والتيار المحافظ"، والآخرين الذين وصفهم ب"الالتواء والنفاق والجمود والمزايدة واللعب على وتر الدين والتقاليد وتجارة الدين... " إلخ!

لقد انحرف الشوباشي عن موضوعه في أماكن كثيرة ليهجو من يرفضون بشدة أي تطوير ملموس في اللغة، ويصفهم بأنهم هم الذين "يرفضون بضراوة أي تجدد في كل مظاهر الحياة... وهم الذين يقفون في مواجهة كل محاولة جادة للخروج من مأزق التمسك بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، وهم أنفسهم الذين يفرضون مرجعيات سلفية لكل قضايا المجتمع ومشكلاته المستعصية، وهؤلاء يقحمون الدين الحنيف في كل شيء، ليس في السياسة فقط لكن في التعاملات اليومية والعلاقات الاجتماعية والقوانين وقواعد السلوك العام، وهم يعمدون إلى ترويع الناس معنوياً من أجل الحفاظ على القديم الذي يناسب مصالحهم". (ص120)

 

لم يقدم الشوباشي أي مثال على ما يقول، واكتفى بالتحريض على معارضيه فيما ذهب إليه بتهم عظمى، لا يدري أحد كيف سوَّلت له نفسه أن يوجهها إلى مجهولين قبل أن يظهر كتابه، ثم أخطأ خطأ فادحاً في تصويره للماضي والحاضر، والمستقبل والدين الحنيف. لقد صنع اليهود الغزاة في فلسطين نموذجاً فريداً للتمسك بالماضي في صناعة الحاضر والمستقبل. لقد بعثوا لغتهم الصعبة بعد أربعة آلاف عام، وجعلوها لغة حية يترجمون إليها علوم العالم، ويتخذونها وسيلة للبحث العلمي الذي غزوا من خلاله الفضاء، وصنعوا أسلحة الدمار الشامل، وراحوا يتكلمون في المحافل الدولية والسياسية والدبلوماسية، بلغتهم القديمة المهجورة لمدة أربعة آلاف عام.

إن ديننا الحنيف لا يقحمه أحد في أمور الحياة، لأنه ببساطة نظَّم أمور الحياة الإسلامية، ووضع لها الأسس العامة، التي تكفل للإنسان المسلم وغير المسلم، الكرامة والحرية والعدل والمساواة والمشاركة، وتدفعه إلى العمل والإنتاج والإبداع..ولا أعلم من معارضي تطوير اللغة العربية على طريقة الشوباشي من يسعى إلى ترويع الناس معنوياً من أجل الحفاظ على القديم الذي يناسب مصالحه! هلا ذكر لنا مثالاً واحداً على ذلك.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply