بسم الله الرحمن الرحيم
لا تعرف علوم النبات شجرة أكثر قدرة على الضرب بجذورها في أعماق الأرض وثباتاً في وجه الريح مثل النخلة، والتي تتميز عن جميع أنواع الأشجار بشموخها وارتفاعها والمنافع المرتبطة بكل جزء فيها من الجذع إلى الثمر.
وهي الشجرة التي شرفت بورود ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من موضع منها قوله - تعالى -: (والنخل باسقات لها طلع نضيد) يقول أئمة التفسير: إن النخلة هي الشجرة التي شبه بها الخالق - جل وعلا - الكلمة الطيبة في قوله - جل وعلا -: (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء).
وفي السنة النبوية المطهرة إعلاء من قيمة ثمار هذه الشجرة من التمور فهي غذاء ودواء ووقاية من السحر والحسد وبركة، وجاء في الحديث الشريف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بيت لا تمر فيه جياع أهله" أخرجه مسلم. كل هذه المزايا والمكانة والتي جعلت النخلة جزءًا من الثقافة العربية الإسلامية، جعلتني أشعر بشيء من الخوف وأنا أطالع غلاف كتاب بعنوان "الحرة وأمركة العقل العربي" لمؤلفه عبد العزيز بن زيد آل داود تظهر فيه صورة للنخلة وقد نحل جذعها وابيّض سعفها وشاطت أوراقها واختفت سباطات التمر، وحل محلها تفاحتان كبيرتان من ذلك النوع الذي يعرف بـ(الأمريكاني) بلونه الأحمر القاني.. فصارت مسخاً ليس فيه من النخلة التي نعرفها سوى بقايا ملامح باهتة.
وإذا كنا نعلم أن علوم الهندسة الوراثية والجينات والأحماض النووية الأمينية والتي يتفوق فيها الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص نجحت في إنتاج فاكهة وخضراوات أكبر بكثير من الحجم الطبيعي ولها أكثر من مذاق ولون، بل ونجحت أيضاً في تغيير الشكل المميز لأصناف من النباتات والحيوانات بعد تهجينها بأنواع أخرى أو حقنها بجينات تكسبها صفات وراثية جديدة.. يجدر بنا أن نتساءل هل تستطيع محاولات هندسة العقل أو إعادة تشكيل العقل العربي والتي يتم تنفيذها عبر وسائل الإعلام الأمريكي الموجه للعرب والمسلمين بهدف تهيئته لقبول أو بالأصح الإذعان- للسياسات والأفكار الأمريكية أن تجعلنا نرى أو نصدق أن نخلتنا يمكن أن تثمر تفاحاً؟ وأن هذا التفاح أفضل لنا، رغم كل ما ورد في فضل ثمار النخيل وبركته في القرآن الكريم والسنة النبوية، ورغم الارتباط التاريخي والمصيري للشعوب العربية المسلمة بالنخلة على مدار عصور طويلة كمصدر لطعام طيب ومنافع عديدة وباعتبارها مفردة بارزة في البيئة العربية والأهم من ذلك: هل نتقبل نحن العرب والمسلمين أن نستبدل تمر النخيل بالتفاح الأمريكاني المنشأ؟ وهل يغنينا هذا الأمريكاني الوافد عن ثمارنا القيم والأصيل؟ وإذا كنا نرفض هذا الاستبدال الذي يسلبنا خصوصيتنا الحضارية التي ترمز لها النخلة، فما هي مسؤوليتنا تجاه محاولات حقن عقول الأمة الإسلامية بجين التهجين الأمريكاني، والذي جعل النخلة مسخاً يثير الشفقة كما في غلاف الكتاب الذي أشرنا إليه؟ وهل نعرف الصورة أو الطريقة التي يأتينا بها هذا الجين ظاهرة أو مستترة، مفروضة علينا أو متسللة إلينا.. مدعومة بقوة عسكرية كتلك التي استهدفت نخل العراق وأفغانستان أم محمولة على موجات لا سلكية تبثها القنوات الفضائية بلغتنا العربية أو يروج لها بعض أبناء جلدتنا ممن استطعموا التفاح الأمريكاني وانبهروا بالقيم الأمريكية وانطلت عليهم دعاوى الديموقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان والمرأة، فراحوا يرددونها كببغاوات دون أن ينتبهوا إلى أهدافها الخبيثة في القفز على حضارتنا الإسلامية والسخرية من جميع مفردات تراثنا وحياتنا ومسخ الشخصية العربية المسلمة لاستيفاء فرض الهيمنة الأمريكية وتعميم النموذج الأمريكي.
وربما تكون هذه النذر أو المؤشرات على نشاط الجين الأمريكاني لإعادة تشكيل عقولنا لقبول القيم الأمريكية بديلاً عن قيمنا الأصيلة، التي تشكلت عبر قرون طويلة ما زالت لم تتجاوز أعراضها بعد الغلاف الخارجي للشخصية العربية، أو بتعبير أدق قشور الشكل والانبهار بمشاهير المجتمع الأمريكي الذين تلح وسائل الإعلام لفرضهم كنموذج يقتدى به، إلا أن الإهمال أو التأخر في تحصين عقول أبناء الأمة ضد هذا الغزو الجيني الفكري والذي بدأ يتسلل إلى بيوتنا عبر أجهزة التلفزيون والإذاعات الموجهة ومواقع الإنترنت، يُعجّل بوصوله إلى مجرى الدم وتلافيف المخ، فتصبح صورة النخلة التي تنبت تفاحاً ليست مدهشة أو مرفوضة من العقل العربي؟!.. ووقتها قد يصبح الحديث عن التمر وفوائده وبركته وفق ما جاء في القرآن والسنة، دعوة للرجعية والتخلف..ومتى حدث ذلك فلن يكون من الصعب بمكان اقتلاع هذه النخلة من جذورها، ليس بيد أعداء أمتنا وخصومهاº بل وحتى بأيدي بعض أبناء المسلمين..ذلك أن صورة النخلة المسخ لن نراها إلا إذا مسخت عقولنا وشخصيتنا العربية والإسلامية؟!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد