بسم الله الرحمن الرحيم
مَن منّا لا يعرف منظومة (دومينوز بيتزا) الشهيرة..؟!
قلَّة أولئك الذين لا يعرفون هذه المحلات الغذائية التي تنتشر في معظم أنحاء العالم، لكن قلَّة أيضًا الذين يعرفون أن البليونير الأمريكي (توم موناهان) صاحب هذه المجموعة التجاريةº أوقف معظم أمواله في مشاريع مختلفة تديرها الكنيسة الكاثوليكية، وأسس عددًا من المدارس والكليات التنصيرية، وأسس إذاعة تبث البرامج الدينية، ودعم عددًا كبيرًا من الأنشطة الكنسية في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وجنوب شرق آسيا.. ولكن هل ثمة أحد يجرؤ على اتهامه بتمويل التطرف..؟!
زرت مقر (منظمة اليونيسيف) في الخرطوم قبل عدة سنوات، ففوجئت بصورة معلقة على الحائط يظهر فيها بابا الفاتيكان رافعًا صليبه بيد، ويمسح بيده الأخرى على رأس طفل إفريقي، والمفترض أن اليونيسيف منظمة أممية إنسانية، وليست منظمة تنصيرية.. لكن من يجرؤ على الاعتراض..؟!
وفي زيارة أخرى لمناطق اللاجئين الصوماليين في كينيا التقيت أحد موظفي (منظمة غوث اللاجئين) (UNHCR) التابعة لهيئة الأمم المتحدة، وهو يوزغ نسخًا من الإنجيل المترجم إلى الصومالية في مراكز تغذية الأطفال والنساء الحوامل، فسألت شابًّا صوماليًّا يعمل معه: كيف يحدث هذا من منظمة دولية..؟ فقال هامساً: اسكت حتى لا يُخرج لك إنجيلاً باللغة العربية..!
أما الحديث عن المنظمات التنصيرية والإرساليات الكنسية فحديث يطول تفصيله، وحسبك أن تعرف أن موازنة بعض المنظمات التنصيرية وأوقافها، مثل (منظمة الرؤية العالمية) التي لها نشاط في 90 دولة في مختلف أنحاء العالم، ربما تفوق موازنتها المالية موازنة بعض دول العالم الثالث..!
الجدير بالذكر أن أبواب الدول فتحت مشرعة للمنظمات التنصيرية تصول فيها وتجول، حتى إن بعض المنظمات التنصيرية (الإنسانية!) وعلى رأسها مجلس الكنائس العالمي، ثبت أنها تمول بعض الميلشيات النصرانية الانفصالية بالسلاح والذخيرة الحية فضلاً عن الغذاء والدواء، كما حدث في جنوب السودان، وأوغندا، وتشاد.. لكن من يجرؤ على الكلام..؟!
ليس حديثي في هذا المقال عن التنصيرº فلهذا شأن آخر، لكن كل متابع للواقع السياسي يلاحظ بجلاء شديد الحملة الأمريكية المتشنجة على العمل الخيري الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي بدأت بالدعوة إلى تجفيف منابع الإرهاب المالية، ثم أصدرت عددًا من القوائم العشوائية التي تتهم عددًا من المؤسسات الخيرية، ورجال الأعمال المسلمين، بل وبعض المسؤولين الرسميينº بدعم الإرهاب دون أدنى أدلة أو اعتبارات موضوعية. فجمدت بعض الأرصدة، وصودرت بعض الممتلكات، وشنت وسائل الإعلام العالمية والعربية حملة جائرة للتشويه والتجريم، ثم تداعت الدول الواحدة بعد الأخرى لمراجعة الحركة المالية للمؤسسات الخيرية، وسُنَّ عدد من التشريعات والأنظمة الانفعالية المتسرعة التي محصلتها النهائية هي (تقزيم) العمل الخيري وقطع جذوره..!
لنستحضر ذلك كله ونحن نقرأ خبر تشكيل (هيئة سعودية أهلية للأعمال الخيرية والإغاثة في الخارج)، هذه الهيئة ستكون (حصريًّا!) هي الهيئة الوحيدة التي تجمع التبرعات وتوزعها.. فما معنى هذا القرار؟!
هذا القرار يعني: أن جميع المؤسسات الخيرية العاملة في السعودية سوف تُحل وتُدمج في مظلة واحدة يقال إنها (أهلية!!)، وتُحوّل جميع ممتلكات المؤسسات الخيرية إليها، وتشرف عليها لجنة مختصة مشكلة من عدد من قطاعات الدولة، كما جاء في نص النظام الصادر من شعبة الخبراء بمجلس الوزراء.
من حقنا أن نقلق من هذه الوصاية خاصة في مثل هذا التوقيتº لأن القرار ببساطة شديدة يعني إجهاضًا ووأدًا للعمل الخيري الذي كان شامة مشرقة لأبناء هذا البلد المعطاء، تظهر ثمراتها المباركة في كل أنحاء الدنيا.
وهب أن بعض العاملين في القطاع الخيري أخطؤوا أو قصَّروا، أليس الخطأ موجودًا في جميع المجالات والأنشطة البشرية؟! لماذا ننظر بعين جائرة لمثل هذه الأخطاء ونضخمها؟! لم لا نسعى لمعالجة هذه الأخطاء بحسن ظن وشفافية؟! ولم لا نضع من التنظيمات ما يرتقي بالعمل الخيري وينظمه ويعالج أخطاءه، بدل أن نسعى لترويضه ومصادرته..؟!
ولنا ها هنا تساؤلات في غاية الأهمية:
أولاً: هل هذا القرار اعتراف ضمني بتهمة تمويل الإرهاب وتأكيد لها، أم أنه قرار احترازي؟!
ثانياً: هل هذا قرار سيادي نابع من رؤية وحاجة داخلية، أم أنه قرار استعلائي فُرض على صانع القرار فرضاً..؟!
أحسب أن الجواب عن هذين السؤالين لا يخفى على ذوي الألباب، فالقرار له تبعات سياسية ليست في مصلحة البلد لا في العاجل ولا في الآجل.
والظاهر أن الدول تريد من المؤسسات الخيرية العاملة على أرضها أمرين رئيسين:
الأول: الانضباط الأمني، وعدم تسرب الأموال إلى مواقع لا ترتضيها.
الثاني: الانضباط الإداري، وتولية الأكفاء الثقات على الأعمال الخيرية.
لكن المعالجة الرسمية تركز على تحقيق الأمر الأول فقط، ولا تلتفت على الإطلاق إلى الأمر الثانيº فهل يمكن أن يؤدي مجرد الضبط الأمني بتذويب المؤسسات الخيرية إلى تحقيق الفائدة المرجوة..؟!
والجواب البدهي بكل وضوح: أن هذا لن يتحقق على الإطلاق، بل سوف تتفتح ثغرات كبيرة لا يمكن السيطرة عليها. وصناع القرار في هذه الدول يدركون أن بإمكانهم وضع إجراءات رقابية على أصول المؤسسات وممتلكاتها، مع بقاء استقلاليتها وخصوصيتها المؤسسية والإدارية بدلاً عن تذويبها، والمؤسسات الخيرية لا تأبى ذلك فيما أحسبº فالتنظيم والإشراف الإداري مطلب لا يعترض عليه أحد.
أما في حالة إلغاء المؤسسات الخيرية، وتكوين مؤسسة حصرية واحدةº فإن العامة والخاصة لن يثقوا بإعطاء أموالهم لتلك المؤسسة الجديدة، ولن يتعاطفوا مع أنشطتها وبرامجها، حتى لو كانت أسماء بعض أعضائها مقبولة بادئ الأمر، خاصة إذا عرفوا أن لجنة رسمية عليا ستشرف عليها. وسوف يؤدي ذلك بالتأكيد إلى أن يبحثوا عن قنوات فردية مأمونة عندهم.. فبدلاً من أن تتابع الجهات الأمنية عددًا محددًا من المؤسسات الخيرية واضحة الأنشطة، تتميز بالشفافية الإدارية والماليةº ستضطر إلى متابعة مئات الأفراد من هنا وهناك، وسيتسع الخرق على الراقع، ومن أين للجهات الأمنية السيطرة على مثل هذا أو رقابته..؟!
ولهذا فإنني أجزم يقينًا بأن القرار لن يؤدي إلى الانضباط الأمنيº بل سيؤدي إلى خلل كبير يصعب احتواؤه..!
إن العمل الخيري قطاع مستقل عن قطاعات الدولة، يمثل أرقى صور المجتمع المدني الذي يتنادى الجميع بتفعيل مؤسساته، وهو قطاع تكاملي يوظف طاقات الأمة الإنسانية في بناء مجتمعات متكافلة ومستقرة نفسيًّا واجتماعيًّا، فمتى تم احتواؤه من المؤسسة الرسمية فَقَدَ صدقيته وتعاطُف الناس معه، وتعاملوا معه كما يتعاملون مع أجهزة الدولة الأخرى!
والعاملون في القطاع الخيري نحسبهم والله حسيبهم لا يتطلعون إلى حمد الناس وشكرهم وثنائهم، ولا يتشوفون إلى مغنم أو جاه أو شرف دنيوي، ولا يتسابقون إلى الأضواء وتلميع ذواتهم، بل يُقبلون على العطاء والبذل تقربًا إلى الله - عز وجل - ، ويضحون بأوقاتهم سعيًا في حاجات الناس وتخفيف كرباتهم، وفي الوقت الذي يتنافس فيه أهل الدنيا على أهوائهم ومكاسبهم الشخصيةº يتسابق أولئك بأكف ندية إلى بذل المعروف وإغاثة الملهوفين والمنكوبين.
َأمثل هؤلاء يُخذلون، ويُسلَمون لاتهامات جائرة..؟!
أنضيق ذرعًا بإنسانيتهم، ونتبارى في تطويعهم وترويضهم..؟!
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد