الصفقة الذهبية في أفغانستان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بعدَ ستةِ أسابيعَ من الأزمة الدولية في أفغانستان، عَدَّتها طالبان وسيلةً من وسائل الجهاد لإخراج الاحتلال من أراضيها، وعدتها كوريا أزمةً دبلوماسية ألقت بثقلها على الحكومة، انتهت المفاوضاتُ بين الطرفين بنجاح، ضَمِنَ للكوريين المحتجَزين إطلاقَ سراح مأمون، وضمنت لطالبان خروجَ القوات الكورية من البلاد، دون قتال.

 

الرهائن التسعة عشر الذين احتجزتهم طالبان قبل ستة أسابيع تقريباً، عادوا بسلام، في حين بدأ الجيشُ الكوري الاستعداداتِ للخروج من البلاد، الذي أفقد التحالفَ العسكري بقيادة الولايات المتحدة فريقاً مهماً.

 

بداية الأزمة:

شهدت أفغانستان إثرَ الاحتلال من قبل الولايات المتحدة أواخر عام 2001، دخولَ الكثير من القوات الدولية إليها، فضلاً عن دخول مجموعات نصرانية في محاولة لنشر النصرانية في دولة باتت قيادتُها بيد الأمريكيين.

وكمعظم دول العالم الثالث، تنتشر الأميةُ والجهل في كثير من أرجاء أفغانستان، وقد أوجد ذلك بيئةً مناسبة لنشر النصرانية، بحجة الأعمال الخيرية، والدعم المالي، والخدمات الإنسانية والطبية. وذلك تطلّب وجودَ جهات قادرة على الوقوف في وجه هذه الجماعات.

 

وكقيادةٍ, تعمل على طرد الاحتلال من البلاد، واستعادة السيطرة على الحكم، بعد وصول جهات موالية للأمريكيين، عملت حركةُ طالبان على عدة اتجاهات، من بينها مواجهة الاحتلال وأعوانه عسكرياً، ومواجهة الجماعات التنصيرية في البلاد، والعمل على فتح قنوات دبلوماسية مع دول العالم المختلفة، لحشد التأييد والدعم للحركة، التي كانت تحكم البلاد وفق الشريعة الإسلامية لسنوات تلت الحرب ضد الشيوعيين وحلفاء الروس.

 

بتاريخ 19 من يوليو الماضي، احتجزت عناصرُ من طالبان مجموعةً تنصيرية من كوريا الجنوبية، تتكون من 23 شخصاً (18 امرأة و5 رجال)، خلال تنقّلهم بحافلة عامة من العاصمة كابل، إلى قندهار، التي تعد المعقلَ الأساسي لطالبان.

 

بُعَيد الكشف عن احتجاز الرهائن، طالبت طالبان بفتح باب المفاوضات مع كوريا الجنوبية، لإقرار اتفاقيةٍ, تضمن خروجَ القوات الكورية من البلاد، مقابلَ إطلاق سراح الرهائن المحتجزين. إلا أن الطريق المسدود، وعدم قبول (سيؤول) لمطالب الحركة الحاكمة السابقة، جعل الحركة تقتل اثنين من الرجال الرهائن..وذلك أثار استياء الشعب الكوري، وزاد الضغط الشعبي على الحكومة، للدخول في مفاوضات مع طالبان.

وخلال وقت سابق من شهر أغسطس، أفرجت الحركة عن اثنين من الرهائن من النساء.

 

لم يكن أمام (سيؤول) إلا قبول المفاوضات، التي عدّها الكثيرون على نطاق واسع تنازلاً أمام جماعة محظورة دولياً، قد تضُر بالموقف الأمريكي، الرافض دائماً لإجراء مفاوضات علنية على الأقل، مع الجماعات المسلحة المحظورة.

قبل إطلاق سراح الرهائن، أكد رجال القبائل الذين شاركوا في المفاوضات بين طالبان وكوريا الجنوبية، أن المحتجزين بصحة جيداً جداً، وهو الأمر الذي أكده مسؤولون في الصليب الأحمر، بعد أن سمحت طالبان بزيارتهم لعدد من المحتجزين في وقت سابق. الأمر الذي يؤكد أنهم كانوا يلاقون معاملة حسنة، وعناية جيدة.

 

المحتجزون التسعة عشر، أُطلِق سراح مجموعة منهم مكونة من 12 شخصاً يوم الأربعاء 28 من أغسطس، على ثلاث مراحل، في منطقة غازني وسط أفغانستان. بعد أن أبرمت طالبان والوفد الكوري الجنوبي المفاوضُ اتفاقاً نهائياً يوم الثلاثاء 27 من أغسطس، يقضي بإطلاق سراح الرهائن، مقابل خروج القوات الكورية الجنوبية من أفغانستان أواخرَ العام الحالي.

 

الصفقة:

مرت عدة أسابيع على خطف الكوريين الجنوبيين، الذين أكدت مصادرُ مختلفة أنهم كانوا يتبعون كنيسة صايمول (Saemmul Church)، وقدموا إلى البلاد ضمن فرق التنصير التي تسمح الحكومة الأفغانية الموالية للاحتلال بوجودها بالبلاد. خلال هذه المدة، طالبات حركة طالبان بإطلاق مجموعة من قادة الحركة، من السجون الأفغانية والأمريكية، مقابل إطلاق سراح الرهائن الكوريين. إلا أن الرفض المستمر، أرغم الحركة على قتل رجلين من بين الرهائن. وذلك أثار حفيظة الكوريينº إذ انتشرت المظاهراتُ في (سيؤول)، واضعةً الحكومةَ في موقف حرج. إذ كتبت صحيفة الهيرالد تريبون الأمريكية في تقرير نشرته يوم الأربعاء 29 من أغسطس تقول: "إن أزمة الرهائن وضعت حكومة الرئيس روه مو هيون في مأزق، وعُدَّت على نطاق واسع اختبارًا لعلاقاتها الدبلوماسية، في وقت تواجه فيه ضغوطاً متزايدة لإعادة الرهائن إلى ديارهم".

 

ومع إطلاق سراح رهينتين من النساء، جعلتها طالبان بادرة حسن نية، وافقت كوريا الجنوبية على إجراء مفاوضات رسمية مع طالبان، متغاضية عن الموقف الأمريكي والأفغاني الحكومي، الرافض للمفاوضات.

شارك في هذه المفاوضات حركة طالبان ووفدٌ حكومي كوري، شمل رجال دين مسلمين، من بينهم عبدالرحمن لي (نائب إمام أحد المساجد في سيؤول) وذو الفقار علي حسن (رجل أعمال كوري من أصل باكستاني).

بالإضافة إلى مسؤولين في الصليب الأحمر، ورجال قبائل في المنطقة، من بينهم حاجي محمد ظاهر، أحد زعماء القبائل، الذي صرّح لوسائل الإعلام يوم الأربعاء 28 من أغسطس، بصيغة الاتفاقية بين الطرفين الرئيسين. حسبما نقلت وكالة فرانس برس يوم الخميس. وقد شارك بنفسه في تسليم 12 محتجزاً من طالبان للدبلوماسيين الكوريين.

 

في المقابل، تعهدت كوريا الجنوبية بسحب جميع قواتها غير المقاتلة في أفغانستان، والبالغ عددها 200، أو 210 على ما ذكرت بعض وسائل الإعلام الأجنبية. كما تعهدت بسحب فوري لجميع الجماعات التنصيرية المنتشرة في البلاد خلال هذا الشهر، وسحب الموظفين والعاملين الذين يشاركون في عمليات إعادة الإعمار، من البلاد، مع نهاية العام الحالي.

ويعمل الجنودُ الكوريون ضمن فريق عسكري مؤلف من 8 آلاف جندي دولي. تقودهم قوة منفصلة عن الجنود البالغ عددهم 40 ألفا، التابعين لقوات حلف شمال الأطلسي، والموجودين في أفغانستان بقيادة أمريكية.

 

بالمقابل، تخلت طالبان عن مطالبها بإطلاق سراح قادة الحركة. وأطلقت سراح آخر الرهائن يوم الخميس 30 من أغسطس.

بعض وسائل الإعلام أشارت إلى أنه ربما تضمنت الصفقة مبلغا ماليا يقدر بنحو 10 ملايين دولار، كبند سري، إلا أن الحكومة الكورية الجنوبية أشارت إلى أنها كانت مستعدة لدفع مبلغ 500 ألف دولار لكل رهينة، ولكنها لم تدفع أي مبلغ لطالبان، التي قالت بدورها: "إن الصفقة لم تتضمن أي مبلغ مالي".

 

الموقف الأفغاني والأمريكي:

على الرغم من إعلانهما السابق رفضَ الدخول في أي مفاوضات مع حركة طالبان حول إطلاق سراح الرهائن الكوريين، إلا أن الولايات المتحدة والرئيس الأفغاني حامد كرزاي (الموالي لواشنطن) أكدا في وقت لاحق، أن المفاوضات طريق أساسي لإنهاء المشاكل العالقة مع الحركة الحاكمة سابقاً.

 

إذ ينقل تقرير نشرته وكالة الأسوشيتدبرس يوم الخميس 30 من أغسطس، عن اللواء روبرت كون (المسؤول عن تدريب القوات الأفغانية الحكومية) قوله: "إن القوة العسكرية لا تستطيع أن تهزم وحدها حركة طالبان"، مضيفاً أن "معظم حالات التمرد (!!) تنتهي بإيجاد حل سياسي".

 

وخلال إعلانه أن القوات الأفغانية ليست قادرة حتى الآن على مواجهة حركة طالبان المسلحة، قال كون: "أعتقد أن الحل الرئيس لا يكمن بالطريقة العسكرية على المدى الطويل.. معظم الحركات المسلحة تنتهي أزمتها بإيجاد حل سياسي"، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة وجدت نفسها أخيراً أمام خيار مفاوضة طالبان، بعد إخفاق المحاولات العسكرية معها.

 

وعلى السياق نفسه، نجد الرئيس الأفغاني، الذي أكّد خلال أزمة الرهائن الكوريين أنه غير موافق مطلقا على مبدأ إطلاق سراح أسرى من طالبان مقابل إطلاق سراح الكوريين، يعترف أنه ليس بمقدور أحد إجبار طالبان على إطلاق سراح الرهائن، دون مفاوضات تضمن للحركة مطالبها في كل مرة.

 

إذ يؤكد التقرير الخاص بالأسوشيتد برس أن كرزاي اعترف أنه دخل خلال وقت سابق من هذا العام، في مفاوضات مع قادة من حركة طالبان، في محاولة للتوصل إلى حل سياسي في البلاد، التي يتنازعها الاقتتالُ الداخلي ومحاولات التحرير سنوات طويلة.

 

وكانت صحيفة (آسيا تايمز) نشرت تقريراً حول الرهائن قالت فيه: "إن كوريا الجنوبية حاولت إقناع الولايات المتحدة للضغط على كرزاي في سبيل الموافقة على إطلاق سراح أسرى طالبان، إلا أنه وبتاريخ 21 من أغسطس، أعلنت وكالة الأنباء الأفغانية، أن حكومة الرئيس كرزاي ترفض مجدداً الإفراج عن أسرى طالبان، مقابل إطلاق سراح الرهائن الكوريين".

 

وبالنظر إلى المرات الكثيرة التي تم خلالها اعتقالُ أجانب في أفغانستان، نجد أن هذه الوسيلة لا تزال تتمتع بقدرة فائقة في تحقيق أهداف، ولو كانت محدودة، في سبيل طرد الاحتلال. خاصة وأن أفغانستان شهدت حتى الآن الكثيرَ من هذه الحالات، كأسر الصحفي الإيطالي دانييل ماسترو غياكامو مع مترجمه الأفغاني في مارس 2007، مقابل إطلاق سراح 5 من قادة وأعضاء طالبان. واختطاف امرأة ألمانية من قبل مجموعة مسلحة لا تتبع لطالبان، مقابل فدية مالية. وغيرها. وبالنظر إلى هذه المحاولات، نجد أن صفقة كالتي أبرمتها طالبان أمس مع كوريا الجنوبية، تعد الأفضل حتى الآن، خاصة وأنها شهدت أكبر عملية احتجاز، منذ احتلال البلاد أواخر العام 2001.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply