أيام في الهند


 

بسم الله الرحمن الرحيم

زرت الهند سنة1407 /1987 لقراءة الحديث على الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي - رحمه الله تعالى -، وكان الطريق إليه عسراً صعباً بل أكاد أقول إنه طريق خطر، وسائق السيارة كان متهوراً، ولما وصلت إلى الشيخ في بلدته أعظم جرا وجدته يعيش على الكفاف، ولم أستسغ البقاء طويلاً ففارقت من جئت معه- وهو شيخي الشيخ أيمن سويد وعدت إلى البلد، وإنما لم أستسغ البقاء لرداءة المكان وتغير نوعية الطعام مما لم تقبله نفسي، وعدت فمررت بلكنو، وكنت قد مررت بها في ذهابي إلى أعظم جرا وزرت ندوة العلماء، واجتمعت لمدة يسيرة بالشيخ أبي الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -، فلما مررت بها في طريق عودتي بتَ فيها ليلة، وكان الأستاذ سعيد الأعظمي الندوي هو من عُني بي ووقف على راحتي جزاه الله خيراً، وهو رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي التي ما زالت تصدر إلى الآن، فأخبرني بشيء عجيب وذلك أنه كان قدم للتو من التبت ورأى فيها معبداً فدخله فوجد فيه مجسمات ضخمة للأعضاء التناسلية المذكرة والمؤنثة، ووجد مجموعات من الضلال يعكفون عليها عابدين متمسحين باكين، وذلك لأنهم يرون أنها أصل الخلق والمنعمة عليهم فلذلك يعبدونها، قبح الله صنيعهم والحمد لله على نعمة الإسلام.

 

وندوة العلماء بناء ضخم فسيح، وهو أشبه بجامعة فيها تخصصات شرعية ولغوية، وكل من تخرج فيها يلقب بالندوي، ولذلك يكثر من يلقب بالندوي في الهند. ورئيسها الشيخ أبو الحسن الندوي الحسني وكان والده عبد الحي رئيساً لها من قبل. وللشيخ أبي الحسن - رحمه الله - مآثر كبيرة في الهند من حيث المحافظة على دين الأقلية وحمايتها من رياح الهنادكة العاتية.

 

وفي اليوم التالي أردت أن أذهب إلى دهلي- وهي دهلي وليست دلهي، فقد غير الإنجليز اسمها تخفيفاً فيما يبدو - فأمر الشيخ أبو الحسن الندوي - رحمه الله - أحد أتباعه واسمه خالد، أمره أن يأخذني إلى محطة القطار وأن يحرص على إجلاسي بجوار مسلمين، فلم أجد إلا مكاناً في الدرجة الثالثة، وكانت العربة قذرة سيئة، وجلست بجوار عائلة مسلمة، فمرَ القطار على نهر جانج المقدس عند الهنادكة فأشار الرجل لزوجه أن تعطيه شيئا فأخرجت له قطع نقود معدنية فرمى بها في النهر فعجبت لضلاله، لكني كنت أعلم أن المسلمين متأثرون بالعادات والتقاليد الهندوسية وهذا حادث من مئات السنين، وهذه مشكلة عويصة تؤثر في الأقلية المسلمة في الهند سلباً.

 

فلما سار القطار لأقل من ساعة والمسافة من لكنو إلى دهلي ثمان ساعات جاءني أحد الهنود فصرخ علي غاضباً، وكان لا يتكلم العربية ولا الإنجليزية فلم أفهم ما يريد، فذهب وجاء بالجابي ((الكمساري)) فأفهمني بالإنجليزية أن المقعد الذي أجلس عليه ليس مقعدي إنما هو مقعد الذي خاصمني، فأبرزت له البطاقة فأشار إلى رقم بجوار رقم الكرسي، وهذا الرقم يعني أن المسافر في العربة يقف بجوار هذا الكرسي والجالس عليه آخر!! فعجبت جداً من هذا النظام، ولم أستطع إلا أن أقوم وآخذ كتبي التي اشتريتها من ندوة العلماء، والتي أهديت إلي وهي ثقيلة، وآخذ متاعي لأبحث عن مكان آخر، فلم أجد مكاناً فالقطار ممتلئ عن آخره وقد بقي سبع ساعات تقريباً، والقطار لا يقف إلا مرةً واحده فقط!! وصرت أنتقل من عربة إلى عربة حتى وجدت مكاناً لا يتعدى عشرة سنتيمترات فوضعت جزءاً من أسفلي عليه وبقيت هكذا حتى وصلت دهلي!!

 

وفي دهلي استرحت قليلاً، وذهبت إلى منطقة المسلمين لأزور آثار المغول المسلمين التي تركوها بعد حكمهم الهند مدة تقارب ثلاثة قرون، وهي آثار جليلة، فمنها القلعة الحمراء، وهي قلعة ضخمة، ومنها الجامع الأحمر الكبير، وقد أخرج لي القيم مداسين زعم أنهما مداسا خير الخلق، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدري صحة ما زعمه فالله أعلم.

 

واللون الأحمر هو شعار المغول، وكان منهم الحاكم العظيم الذي لم يأت مثله في المتأخرين وذكّر الناس بالملوك والخلفاء العظام الذين كانوا في الصدر الأول، وهو أورانج زيب عالم كير، أي المحيط بالعالم، وكان عادلاً، زاهداً، عالماً، حكم الهند قرابة خمسين سنة، ثم إن الإنجليز أسقطوا هذه الدولة العظيمة بعد أن ضعف سلاطين المغول بعد ذلك، وسقطت دولتهم في القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي.

 

ولقد جُلت في دهلي فرأيت عجباً، فمظاهر الفقر الشديد بادية في أحيائها الفقيرة بل في بعض أحيائها الغنية، وذكرني هذا بما رأيته في بومباي من قبل، وإن كان الوضع في بومباي أسوأ من دهلي فقد رأيت بعض أرصفتها مقتسمة بين الفقراء وبين كل عائلة قطعة من الورق (الكرتون)، والعجب من الهند وهي دولة نووية، وفيها تقنية عالية وهذا حالها من الفقر والضعف لكنه التسابق على التسلط والهيمنة، وعدم الالتفات إلى الحاجات الأساسية لشعبها على وجه مناسب.

 

والمسلمون في الهند اليوم يواجهون مخاطر الذوبان في محيط الهنادكة الضخم، إذ الغالب عليهم الفقر والجهل بأحكام الإسلام وعظم شريعته، ويزيد الطين بلة أنك لا ترى جهة ما هي الحاكمة على المسلمين والمتولية لأمرهم، بل تجد المشايخ في جهة، والإسلاميين الحركيين في جهة ثانية، والإسلاميين التقليديين في جهة ثالثة، والعوام في جهة رابعة، هذا وهم أكبر أقلية في العالم يناهز عددهم ثلاثمائة مليون تقريباً، لكن إن نظر الناظر إلى أثرهم وقوتهم لن يجد شيئاً مكافئاً لهذا العدد، وإن بحث عن مشاركتهم لإخوانهم المسلمين في العالم ومشكلاتهم فسيعود الباحث بخفي حنين تقريباً، وهذه مشكلة كبيرة تحتاج إلى نظر من قبل قادة المسلمين في الهند، والتكاتف لوضع أسس قوية لبناء متين في تلك البلاد التي شهدت دخول المسلمين منذ القرن الأول الهجري وأضاء الإسلام ربوع تلك المجاهيل قروناً طويلة، والله الموفق.

        

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply