مسلمو أوكرانيا ينفضون غبار الشيوعية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أوكرانيا هي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والتي حازت استقلالها في الرابع والعشرين من أغسطس 1991 وتقع أوكرانيا شرق القارة الأوروبية بمحاذاة البحر الأسود بين بولندا وروسيا الاتحادية، ويبلغ عدد سكانها أكثر قليلا من 48 مليون نسمة

ويعد الإسلام الديانة الثانية بعد المسيحية الأرثوذكسية، وتحتضن أوكرانيا مليونين من المسلمين معظمهم من قومية التتار الذين يتمركزون في منطقة شبه جزيرة القرم، ويتراوح أعدادهم بين 370 ـ 500 ألف نسمة..أما باقي مسلمي أوكرانيا فهم من قوميات مختلفة وعلى رأسهم تتار القازان والأذاريين والطاجيك، ويتوزعون بين المدن الرئيسية في أوكرانيا..كييف العاصمة، أخادكوف دانيتسك أوديا، باروجيا ودنيروبتروفسك.

ويعود الفضل في انتشار الإسلام في أوكرانيا إلى اعتناق بركة خاني أمير القبيلة الذهبية في القرم الإسلام عام 1267، وبدخول هذا الأمير الإسلام بدأت مرحلة جديدة لهذا الدين وخروجه من مرحلة الانتشار عن طريق الأفراد والدعوات السرية إلى مرحلة أخرى تدعمها السلطة، وأسس خان دولة إسلامية امتدت من حوض الفولجا وحتى شبه جزيرة القرم.

 

تحويل المساجد إلى متاحف

وقد عاش مسلمو القرم خاصة ومسلمو أوكرانيا عامة حياة هادئة ومارسوا شعائرهم في حرية نسبية حتى عام 1917 وقيام الثورة البلشفية التي كانت أيديولوجيتها الأولى هي محاربة الأديان عموما والإسلام خصوصا، وقام النظام الشيوعي بإغلاق المساجد بصورة فجة وتم تحويلها إلى متاحف واسطبلات للخيل وفرض عقوبات صارمة لمن يضبط وهو يمارس الشعائر الدينية وعلى رأس هذه المساجد "المسجد الكبير" في مدينة سيمفروبل (عاصمة القرم) حيث تم تحويله إلى مقر لسلاح البحر الأسود السوفيتي، ولم يكن مصير مساجد تينستاف وربليونيا وبخشيسيري أحسن حالا حيث تم تحويلها إلى مخازن ومصانع للزيوت ومستشفيات للأمراض العقلية.

وكانت أبرز نتائج هذه السياسات القمعية أنه لم يبق مسجد أو مؤسسة إسلامية في أوكرانيا لم تطالها يد النظام الماركسي السابق بالهدم والتدمير والمصادرة واستمرت هذه الأوضاع طوال سبعين عاما إلى أن أعلنت أوكرانيا استقلالها عام 1991، ومنذ هذا التوقيت بدأ مسلمو البلاد يشعرون بنوع من الارتياح للتطورات التي حدثت في البلاد رغم أن السلطة نظرت للمسلمين إبان الاستقلال بشيء من الريبة ورفضت إعادة أملاكهم التي صودرت أثناء العهد السوفيتي، وبالغت في تجاهل حقوق المسلمين بالتردد في منحهم جوازات سفر أوكرانيةº إلا أن هذا النهج لم يستمر طويلا وتغيرت النظرة إلى المسلمين وبدأ المسئولون الحكوميون في مشاركة المسلمين في أعيادهم الرسمية أعياد الفطر والأضحى والاحتفال بقدوم شهر رمضان ونظمت مائدة مستديرة بين الحكومة الأوكرانية وممثلي المسلمين لبحث المشاكل التي تعاني منها الأقلية المسلمة والوصول إلى حلول مقبولة لها.

وقد استغل المسلمون هذا المناخ وحدثت طفرة في إنشاء المساجد والمراكز الإسلامية والاهتمام بالمشاريع الدعوية من مخيمات ودورات ومدارس، ومن أبرز معالم هذه الطفرة تأسيس ثلاث مراكز إسلامية. وينظر إليها مسلمو أوكرانيا باعتبارها مرجعية دينية بالنسبة لهم، ويعود الفضل في إنشاء هذه المراكز إلى الطلاب العرب المغتربين في أوكرانيا الذين توجوا جهودهم بإنشاء اتحاد المنظمات الاجتماعية الرائد، والذي يضم في عضويته عشر جمعيات إسلامية موزعة على مدن أوكرانيا الكبرى، ويتعاون اتحاد الرائد مع العديد من جمعيات الإغاثة الإسلامية في مقدمتها "رابطة العالم الإسلامي" و"الندوة العالمية للشباب المسلم" و"جمعية الإصلاح الكويتية" في تنفيذ العديد من المشروعات الخيرية والإغاثة مثل حفر الآبار وكفالة الأسرة الفقيرة وإقامة الإفطارات الجماعية وتوزيع الأضاحي على المسلمين وكفالة الأيتام في شبه جزيرة القرم نهاية عام 2002 والذي تلقى فيه نشاطاته الدعوية والتعليمية قبولا من جميع طبقات المجتمع الإسلامي في القرم.

 

مزاعم روسية

ورغم تحقيق المسلمين العديد من النجاحات إلا أن اندلاع الصراع في الشيشان منتصف وأواخر التسعينيات كان ذا أثر سلبي عليهم حيث تعمدت وسائل الإعلام التي تبث باللغة الروسية التحذير من تحركات مشبوهة في معسكرات أصولية في شبه جزيرة القرم، واستعداء السلطات الأوكرانية على التجمعات الإسلامية، لكن رد فعل السلطات كان عاقلا وردت بعنف على المزاعم الروسية وأكدت أنها تجمعات شبابية تتم وفق القانون حيث كانت روسيا تهدف إلى نقل النموذج العنيف في مواجهة مسلمي القوقاز إلى شبه جزيرة القرم، لكن مساعيها باءت بالفشل وفشلت في استغلال الحرب على الإرهاب للنيل من مسلمي القرم.

المحاولات الروسية الفاشلة ليست إلا نموذج من المشاكل العديدة التي يعاني منها مسلمو أوكرانيا حيث تستشري بين أوساطهم حزمة من المشكلات أتى في مقدمتها تردي الوعي الإسلامي لدى الأغلبية العظمى منهم نتيجة حملات التجهيل التي شنتها عليهم جحافل الشيوعية لمدة 70 عاما، وأوسعت هذا الشعب قتلا وتهجيرا ونفيا لتخفي الهوية الإسلامية لأهل المنطقة. وما يزيد الطين بلة أن هناك نقصا شديدا في أعداد الدعاة والكوادر الإسلامية لتوعية المسلمين هناك، وكذلك قلة الموارد المالية لدرجة أن الدعاة هناك متطوعون لا يتمتعون بالكفاءة العلمية التي تؤهلهم لنشر الإسلام ومبادئه وسط المسلمين.. وقد ساهم إهمال الدول العربية والإسلامية والغالبية العظمى لمنظمات العمل الإغاثي والخيري في ازدياد حدة المشكلة، كون هذه المنظمات لا تضع أوكرانيا على قائمة أولوياتها.

 

قلة الوعي والجهل بالإسلام يعد فقط واحدا من المشاكل التي تواجه مسلمي أوكرانيا والتي يشكل ضعفهم السياسي وعدم قدرتهم على لعب دور مؤثر في الخريطة السياسية للبلاد، وذلك بسبب تعدد قوميتهم من تتار وقازان وشيشان وأوزبك، ووجود اختلافات في المصالح بين هذه القوميات وكذلك حداثة التجربة الإسلامية في أوكرانيا، وقد ظهر ذلك جليا في الانتخابات الأخيرة حيث أيد حزب مجلس تتار مسلمي القرم يوتشينكو بينما أيد حزب مسلمي أوكرانيا مرشح السلطة يانوكوفيتش مما يعني تفتيت أصواتهم، وقد اتفقت الجالية العربية هناك مع حزب مسلمي أوكرانيا على تأييد مرشح السلطة ليس حبا فيه، وإنما كرها للنزعة الوطنية المتطرفة لزعيم المعارضة.

وقد أظهر المسلمون رغم ذلك نضجاً سياسياً عندما أبدوا قلقهم الشديد على مستقبل البلاد وذلك في بيان اتحاد المنظمات الاجتماعية "الرائد" حيث طالبوا الفرقاء بوضع وحدة أوكرانيا نصب أعينهم وإلا تدفعهم المصالح إلى تفتيت هذا الوطن بين شرقي وغربي. وقد قوبل هذا البيان بارتياح شديد لدى السلطة والمعارضة الذين امتدحا حرص مسلمي أوكرانيا على وحدة البلاد وعدم سعيهم لانتزاع تنازلات من الطرفين مقابل أصواتهم.

 

تزايد الوعي الإسلامي

وقد نجح المسلمون في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في احتلال أربع مقاعد في البرلمان الذي يبلغ عدد أعضائه 50 مقعدا ويتوقع المحللون السياسيون تضاعف هذا الرقم في أي انتخابات برلمانية قادمة في ظل تزايد وعيهم بأهمية الدور السياسي في تأمين وضع مريح يتيح مواجهة المشاكل التي يواجهونها، أما المشكلة الأبرز التي تؤرق المليوني مسلم الأوكراني فهي الأوضاع الاقتصادية المعقدة التي يعانون منها، وتفشي الفقر بين صفوفهم لدرجة أنهم عجزوا عن شراء أراض لبناء مساجد لهم حتى إنهم كانوا يستأجرون أي مكان لمدة ساعة واحدة لأداء صلاة الجمعة، وعندما توفرت الإمكانيات رفضت الدولة في البداية السماح بإنشاء مسجد إلا إذا كان صغيرا وبدون مئذنة، ولكن بعد مدة ونتيجة جهود المسلمين سمحت بإنشاء مركز إسلامي في العاصمة "كييف" يتضمن مسجدا كبيرا ومكاتب لتحفيظ القرآن، لكن هذه الأوضاع آخذة في التحسن نتيجة وصول بعض المساعدات من مؤسسات العمل الخيري وتكوين لجان للزكاة لدعم الأنشطة الإسلامية وساعد هذا الدعم في تأسيس الكلية الأوكرانية للعلوم الإسلامية لتغدو أبرز مؤسسات التأهيل الأكاديمي في أوساط المسلمين، وتقع هذه الكلية ضمن مسجد ابن فضلان بمدينة دانيسك ويلعب البرنامج الإذاعي "السلام عليكم" والذي يبث مرتين دوراً مؤثراً في تنمية الوعي الإسلامي حيث يقدم مادة شائقة عن مبادئ الدين الحنيف والتعريف بالثقافة مع تسليط الضوء على قضايا المسلمين في أوكرانيا، ويحظى البرنامج باهتمام متزايد، الأمر الذي يؤكده كثافة المستمعين الحية عبر الهاتف، وليس هذا النشاط الإعلامي الوحيدº فهناك صحيفة "الرائد" الأسبوعية الصادرة باللغة العربية التي تحمل الاسم ذاته وتتمعان بجمهور متزايد في الرد على الاتهامات التي تلفق للمسلمين. ولم يكن هذا النجاح الوحيدº بل إن كثيرا من الأوكرانيين اعتنقوا الإسلام نتيجة هذا الجهد المتميز.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply