هجوم في الظلام (1 - 2)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 
لقد مر نحو خمسة شهور منذ القصف الذي وجهته "إسرائيل" لموقع قيد الإنشاء بالأراضي السورية، إلا أن ذلك الاستفزاز العسكري لم يلق ردة الفعل الجديرة به من قِبل حكومة دمشق، كما لم تهلل به "إسرائيل"، وقد أثار ذلك العديد من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت الجانبين لتحري الحذر والسرية بشأن الحادث، ومن خلال التحليل التالي يحاول صحافي التحقيقات الأمريكي البارز "سيمور هيرش" البحث وراء ملابسات الهجوم، ووضع الافتراضات الممكنة، ومحاولة استقاء الحقائق التي أحجم عن إعلانها الطرفان، وجاء في تقريره:

في وقت ما بعد منتصف ليل يوم 6 سبتمبر 2007م اخترقت على الأقل أربع مقاتلات منخفضة التحليق تابعة لسلاح الجو "الإسرائيلي" المجال الجوي السوري، وقامت بتنفيذ عملية قصف سرية على ضفاف نهر الفرات على بعد نحو 90 ميلاً شمال حدود العراق، والقصف الذي يبدو بلا استفزاز مُسبق - والذي أتى عقب شهور من توترات متزايدة بين "إسرائيل" وسوريا بشأن تدريبات عسكرية، وحشد للقوات من جانب الطرفين على طول مرتفعات الجولان - كان تقريباً باستخدام أي تعريف "عملاً حربياً"، غير أنه في الأعقاب المباشرة للقصف لم يُسمع شيء من جهة حكومة "إسرائيل"، بعكس ما حدث عام 1981م عندما دمر سلاح الجو "الإسرائيلي" مفاعل أوزيراك النووي بالعراق قرب بغداد، حيث كانت الحكومة "الإسرائيلية" مبتهجة بالنصر، تنشر صوراً استطلاعية للضربة الجوية، وتسمح للطيارين بالمقابلات الصحفية على نطاق واسع.

وفي غضون ساعات من الهجوم اتهمت سوريا "إسرائيل" باختراق مجالها الجوي، لكن بياناتها الرسمية كانت ناقصة ومتناقضة، وهكذا أضافت إلى حالة الغموض، وقال ناطق عسكري سوري فقط: إن الطائرات "الإسرائيلية" قد أسقطت بعض الذخيرة في منطقة غير مأهولة بعد أن تصدت لها الدفاعات الجوية السورية "التي أجبرتهم على الفرار"، وعقب ذلك بأربعة أيام صرح "وليد معلم" وزير الخارجية السورية في خلال زيارة رسمية إلى تركيا أن الطائرات "الإسرائيلية" استخدمت الذخيرة الحية في الهجوم، لكنه أصر على عدم وقوع أية إصابات أو أضرار في الممتلكات، ولكن شيئاً لم يحدث حتى يوم 1 أكتوبر حين أقر الرئيس السوري "بشار الأسد" في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC أن الطائرات الحربية "الإسرائيلية" قد قصفت هدفها، والذي وصفه بأنه "منشأة عسكرية غير مستخدمة"، وأضاف الأسد: أن سوريا تحتفظ بحقها في الرد إلا أن تعليقاته تم التعتيم عليها.

وعلى الرغم من الصمت الرسمي في تل أبيب (وفي واشنطن) فإن الأيام التي أعقبت القصف اكتظ فيها الإعلام الأمريكي والأوروبي بتقارير تعتمد بصورة أساسية على معلومات من خلال مصادر حكومية لم تُسمَ، تزعم أن "إسرائيل" قد دمرت مفاعلاً نووياً وليداً كان يجري تجميعه سراً في سوريا بمساعدة كوريا الشمالية، وبناء مفاعل نووي بصورة سرية سيكون انتهاكاً لالتزامات سوريا في إطار معاهدة منع الانتشار النووي، كما يمكن أن يوفر عناصر لسلاح نووي.

وقد كانت الدلائل غير مباشرة، لكنها مُدينة على ما يبدو، وظهرت أولى التقارير بشأن تعاون نووي بين سوريا وكوريا الشمالية في 12 سبتمبر بصحيفة "التايمز" وغيرها، وبحلول نهاية شهر أكتوبر كانت التقارير الإعلامية المختلفة تتفق بشكل عام على أربع نقاط هي:

أن دائرة الاستخبارات "الإسرائيلية" قد علمت بصلة لكوريا الشمالية بموقع قيد البناء بمنطقة زراعية شرقي سورياº وأنه قبل القصف بثلاثة أيام وصلت "سفينة كوريّة شمالية" تسمى الحامد إلى ميناء طرطوس السوري على البحر المتوسطº كما أن اللقطات المأخوذة بالقمر الصناعي تفترض بقوة أن المبنى الذي هو تحت الإنشاء صُمم لاحتواء مفاعل نووي عند اكتمالهº وعلى هذا النحو تكون سوريا قد تخطت ما يعتبره "الإسرائيليون" (خطاً أحمر) على الطريق لبناء قنبلة نووية، ويجب إيقافها.

وقد كان هناك تقارير كذلك - لشبكة ABC News وغيرها - حول أن بعض المعلومات الاستخبارية "الإسرائيلية" تمت مشاركتها مسبقاً مع الولايات المتحدة التي لم تثر أية معارضة للقصف.

ولا تزال الحكومة "الإسرائيلية" ترفض إصدار أي بيان بشأن الواقعة، وقد فُرضت رقابة عسكرية على التقارير الصحفية حول الهجوم لعدة أسابيع، وقد لجأت الصحافة "الإسرائيلية" إلى إعادة معالجة التقارير التي تخرج بها الصحافة الأجنبية، وفي أول الأيام التي أعقبت الهجوم كانت هناك العديد من الروايات الحرجة بالصحافة "الإسرائيلية" تتأمل بشأن واقعة القصف، واحتمالية أنها يمكن أن يؤدي إلى نزاع مع سوريا، ووصف "لاري ديرفنر" كاتب عمود بصحيفة "جيروزاليم بوست" الهجوم بأنه "نوع من الأشياء التي تبدأ بها الحروب"، غير أنه بمجرد انتشار التقارير حول القضية النووية وتفاصيل أخرى أخذ الانتقاد الداخلي للقصف في الضمور.

 

الرئيس الأمريكي يرفض التعليق على حادث القصف:

وخلال مؤتمر صحافي يوم 20 سبتمبر سُئل الرئيس "جورج دبليو بوش" بشأن الحادث أربع مرات إلا أنه قال: "لن أُعلق على الأمر".

إن ندرة البيانات الرسمية أصبح جزءاً من القضية، وقد كتب "ديفيد إجناتيوس" في صحيفة "واشنطن بوست": إن "الصمت من قبل كافة الأطراف يصم الآذان"، مضيفاً: "ولكن الرسالة الموجهة لإيران" - التي طالما اتهمتها الإدارة بالسعي لحيازة سلاح نووي - "واضحة: إن أمريكا و"إسرائيل" يمكنهما تحديد الأهداف النووية، واختراق الدفاعات الجوية لتدميرها".

وكان من الواضح أن المسئولين في "إسرائيل" والولايات المتحدة على الرغم من عدم رغبتهم في النقل عنهمº تواقين إلى أن تكتب وسائل الإعلام الإخبارية بشأن القصف، وفي وقت سابق أطلعني ضابط سابق بقوات الدفاع "الإسرائيلية" تربطه صلات قريبة بجهاز الاستخبارات على نسخة من القصة الأساسية تضمنت تفاصيل ساطعة، ولكن كما اتضح غير مؤكدة: الاستخبارات "الإسرائيلية" تقتفي أثر السفينة منذ اللحظة التي غادرت فيها أحد موانئ كوريا الشمالية، الجنود السوريون يرتدون ملابس حماية بينما يفرغون الحمولة، الاستخبارات "الإسرائيلية" تراقب الشاحنات من أرصفة الميناء وحتى الموقع المستهدف.

بالرغم من ذلك فإنني خلال الشهور الثلاثة في الإعداد لهذا المقال أُخبرت مراراً عن طريق مسئولين استخباريين ودبلوماسيين، وتابعين للكونجرس حاليين وقدامىº أنهم لم يكونوا على دراية بأية دلائل قوية بشأن وجود برامج قائمة للأسلحة النووية في سوريا، ومن المحتمل أن "إسرائيل" قد رفعت المعلومات الاستخبارية مباشرة إلى كبار أعضاء إدارة بوش دون أن يتم فحصها من قبّل وكالات الاستخبارات. (هذه العملية التي تعرف باسم "دفع الفرن" أو Stovepiping، سيطرت على الاستخبارات الأمريكية قبل الحرب في العراق).

لكن "محمد البرادعي" مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية - الهيئة التابعة للأمم المتحدة التي تقع على عاتقها مسئولية مراقبة الالتزام بمعاهدة منع الانتشار النووي - قال: "إن خبراءنا الذين حللوا لقطات القمر الصناعي قالوا: إنه من غير المحتمل أن هذا البناء كان منشأة نووية".

وقد أخبرني "جوزيف سيرينسيون" مدير السياسة النووية بمركز التقدم الأمريكي، وهو مركز أبحاث في واشنطنº أن "سوريا ليس لديها القدرة التقنية، أو الصناعية، أو المالية اللازمة لدعم برنامج للأسلحة النووية، إنني أتابع هذا الأمر منذ 15 عاماً، وبين حين وآخر يطفو اشتباه، ونقوم بالتحري عنه، ولكن لا شيء هناك، لم يكن هناك، ولا يوجد تهديد أسلحة نووية من جانب سوريا، إن القضية برمتها سياسية".

وقد ظهرت رسالة مماثلة خلال تقارير موجزة قُدمت إلى أعضاء مختارين بالكونجرس في غضون أسابيع من الهجوم، وركزت التقارير - التي أجرتها وكالات الاستخبارات - على ما علمته واشنطن بشأن هجوم السادس من سبتمبر، وكان أحد المخاوف هو ما إذا كانت كوريا الشمالية قد فعلت شيئاً قد يدفع الولايات المتحدة للانسحاب من محادثات الدول الست المتعلقة ببرنامجها النووي، وقال فيما بعد مُشرع كان قد شارك بأحد تلك التقارير وفقاً لما ذكره أحد أعضاء طاقمه: إنه لم يسمع شيئاً يجعل "لديه أية شكوك" بشأن مفاوضات كوريا الشمالية، "لاشيء من شأنه أن يتسبب في توقف"، وأضاف عضو الطاقم أن المُشرع انتهى إلى أنه: "لا يوجد هناك شيء يثبت أي خداع يتورط فيه الكوريون الشماليون".

وأخبرني "مورتون أبراموفيتز" مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الاستخبارات والبحث أنه أدهشته ندرة ردود الأفعال، وقال: "أيما وقت تقوم فيه بتوجيه ضربة لدولة أخرى فتلك قضية رئيسة"، "ولكن أين الاحتجاج، وخاصة من قبل الدول المعنية والأمم المتحدة؟ إن هناك شيئاً ما غير صحيح".

إن "إسرائيل" يمكن بالطبع أن يكون لديها أدلة حرجة ترفض الكشف عنها، لكن هناك تناقضات جدية وغير معلوم صحتها بالتقارير المتعددة المنشورة بشأن قصف السادس من سبتمبر.

وكان الدليل الرئيس الذي أُطلق علنياً بشأن أن سوريا كانت تقوم ببناء مفاعل قد ظهر يوم 23 أكتوبر عندما كشف "ديفيد أولبرايت" من معهد العلوم والأمن الدولي - وهو مؤسسة بحثية مرموقة وغير ربحية - عن صور بالقمر الصناعي للهدف، وقد تم التقاط الصور عن طريق شركة تجارية للأقمار الصناعية شركة "ديجيتال جلوب" من لونجمونت بكلورادو في 10 أغسطس - قبل أربعة أسابيع من القصف -، وأوضحت مبنى مربع الشكل، ومحطة قريبة لضخ المياه، وانتهى أولبرايت - وهو عالم فيزيائي عمل كمفتش عن الأسلحة بالعراق - خلال تحليل ظهر في التوقيت نفسه إلى أن المبنى كما يُرى من الفضاء له تقريباً نفس طول وعرض مبنى لمفاعل في يونجبيون يُعد هو المنشأة النووية الرئيسة في كوريا الشمالية، وقال أولبرايت: "إن المبنى المرتفع في الصور ربما يأوي مفاعلاً تحت الإنشاء، وأن محطة الضخ على طول النهر ربما يُقصد منها توفير المياه الباردة للمفاعل".

وأوضح هيرش أن أولبرايت قبل إعلان وجهة نظره كان قد التقى بشكل سري مع مسئولين "إسرائيليين":

لقد أخبرني أولبرايت أنه قبل أن يتحدث علناً كان قد التقى بصورة سرية مع مسئولين "إسرائيليين"، وقال أولبرايت: "لقد أردت أن أتيقن في نفسي من أن "الإسرائيليين" يعتقدون في أنه كان مفاعلاً، وقد تأكدت"، وأضاف: "إنهم لم يقولوا على الإطلاق بصورة صريحة أنه كان مفاعلاً، ولكنهم استبعدوا احتمالية كونه موقعاً لصواريخ، أو أسلحة كيميائية، أو موقع رادار، وبإجراء عملية حذف لم يبق لدى سوى الخيار النووي".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply