عندما يستخف الحاكم عقولَ مواطنيه، فإن من يطيعه منهم، عليه أن يحجر على عقله، فلا يفكر إلا كما يريد هذا الحاكم، وأن يعتقل لسانه في فمه فلا يتكلم إلا وفق ما تمليه إرادة السلطان، وأن يضع على عينيه نظارتين، فلا يرى من خلالهما إلا منجزات العهد الثوري، وأن يضع في أذنيه الطين والعجين، فلا يسمع إلا ما يقوله الحاكم بأمره... ومن لا... فعليه أن يرحل إلى أرض الله، فليس له مكان في أرض السلطان إلا داخل المعتقلات، هذا إذا استطاع الخروج وروحه في بدنه.
ولذلك لم أعجب عندما نقلت الأخبار يوم الثلاثاء الماضي 28 آذار "مارس" الجاري خبر إنهاء مهمة مدير المركز الإعلامي السوري في لندن الدكتور "يحيى العريضي". وعللت المصادر القريبة من المؤسسة الرسمية القرار، بأنه بسبب عدم نجاح العريضي في عمله وانتهاء فترة ندبه من وزارة التعليم العالي. وقد نقلت مصادر إعلامية عن مطلعين أن سبب إنهاء خدماته هو إشادته خلال برنامج "حوار مفتوح" في قناة الجزيرة بـ"البيانوني" المراقب العام للإخوان المسلمين (والحديث معه وعنه بطريقة تنم عن استرضاء وليس من موقع الند، حيث قال عن البيانوني إنه شيخ جليل... وأشار إلى أن هناك شعبية للإخوان المسلمين في الداخل).
ولأن إنهاء خدمات الدكتور "العريضي"، ما هو إلا مثال نضربه لآلاف الأمثلة التي تحصل في سورية سنويا مع من لا ينسجم بشكل كامل مع ما يريده النظام في سورية، فمن المفيد أن نشير بإيجاز إلى التاريخ الوظيفي المتعثر له منذ أربعة أعوام على وجه التقريب.
قبل أن يندب مديرا للمركز الإعلامي السوري في لندن، كان "العريضي" مديرا للقناة الثانية في التلفزيون السوري. وشاء حظه العاثر أن يتم اختياره لمقابلة الدكتور "صبحي حديدي" —معارض سوري- في برنامج "مواجهة" على قناة "أبو ظبي" الفضائية. وقد كانت مواجهة ساخنة بين الاثنين، ظهر فيها الخلل واضحا لصالح "حديدي". ومع أن "العريضي" لم تكن تنقصه الحجة، فقد كانت تنقصه القناعة بسياسات النظام السوري التي يدافع عنها. وقد قيل في حينه إن نائب الرئيس السوري "عبد الحليم خدام" اختاره للمواجهة. وربما عاقبه، على ما اعتبر ضعفا في أدائه، بنقله إلى منصبه الهامشي في لندن.
وها هو الحدث يعيد نفسه مرة ثانية، ليجد "العريضي" نفسه في مأزق مشابه لما عاناه قبل أربع سنوات، ولكن بصورة أعنف. فالبيانوني لا يهبط بحواره إلى مستويات لا تليق، بل ويفرض احترامه على الآخرين، ما يجعلهم يضطرون لصياغة حديثهم بما يتناسب مع أسلوب الخصم المقابل، ما أدى بالعريضي أن يقول، في معرض رده على أسئلة "غسان بن جدو" الذي أجرى الحوار: (السيد البيانوني وهو شيخ فاضل ويريد الخير للوطن، وبالنسبة لي شخصيا، أقول إن هذا الإنسان يريد الخير لسوريا) (أُخِذ النص من موقع الجزيرة نت على الإنترنت). ولم يكن هذا التوقير ليمر بسلام عند حكام دمشق.
وبالرغم من الكم الهائل من العبارات التي هاجم فيها "العريضي" نائبَ الرئيس السابق "عبدَ الحليم خدام"، ونال الإخوان المسلمون نصيبَهم منها، ولكن بصورة أقل، فإن وزير الإعلام السوري لم يجد فيها ما يشفع للعريضي عن الجمل القليلة المتناثرة التي وردت في حديثه وتكلم فيها على سجيته في الحوار، فاستعمل مبضعه (وزير الإعلام طبيب جراح) ليستأصل يحيى العريضي من منصبه، وكأنه درنة زائدة في جسم النظام السوري.
بل إن المشاهد السوري ليؤكد أنه في كل الحوارات التي ظهر فيها "العريضي" مدافعا عن النظام السوري، لم يكن يُستشَفٌّ منها أنه يتكلم عن قناعة لديه، و"أن هذا الميت لا يستحق كل هذا البكاء".
هذه الحادثة ليست استثناء في أسلوب النظام السوري في التعامل مع الذين يخدمونه، بل هي قاعدة مضطردة، يندر أن يشذ عنها النظام مع "أزلامه" الذين يريقون ماء وجوههم في الدفاع عنه في محافل لا يمكن الدفاع فيها عنه، ثم لا يشفع لهم ذلك إذا قرر النظام أن يضحي بهم لسبب أو بدون سبب.
فلا يزال كلام "عبد القادر قدورة" رئيس مجلس الشعب الأسبق يرن في الآذان وهو يعنف النائب "منذر موصللي"، يوم أذيع نبأ موت "حافظ أسد"، عندما اجتمع النواب المحترمون لمسرحية تعديل الدستور السوري الذي فُصِّل على مقاس النظام السوري، كما فُصّلت المواد المتعلقة بالمرشح لمنصب الرئاسة على مقاس "حافظ أسد". فلما مات، ظهر أن هذه المواد لا تناسب مقاس المرشح الجديد الدكتور "بشار أسد".
فقد اعترض النائب "موصللي"، ليس على عدم دستورية التعديل، بل على قضية شكلية تتعلق بإرفاق التعديل بمسوغاته، وهو محق، حسب ما نص على ذلك الدستور. وكان أن وقف "قدورة" يقرعه بألفاظ تنم عن ثقافة سوقية في اختيار الألفاظ لا تتناسب مع المقام، ليس مقام الذي يتعرض للتقريع -الذي تبين فيما بعد أنه مزايد أصيل في السوق- بل مقام المنصب، ليهبط به إلى دركات لم تبلغها سياسة التزلف والنفاق من قبل.
ويلاحظ القارئ أن الأمثلة السابقة التي ذكرناها لم تكن حول سلوك النظام السوري مع معارضيه، فتلك قضية يعرفها القاصي والداني، وهي غير مستغربة من نظام قمعي يخاف حتى من خياله فكيف من معارضيه. وما أوردناه هو حول ما يفعله النظام مع من يخدمونه ويسوّدون وجوههم في خدمته، ثم هو يرميهم بعد أن استهلكهم، كما ترمى قِشرةُ الموز بعد أن يؤكل ثمرها.
رموز النظام السوري يعيشون أزمة أخلاق قبل أن يعيشوا أزمة الحصار التي جلبوها - بسوء تصرفهم- على سورية، الوطن والشعب. ما يعني أنهم لا يمكن أن يرتفعوا إلى السوية التي تناسب المناصب. ثم هم بعد ذلك لا يقبلون ممن هو دونهم أن يتعامل بالخلق الذي يفرضه عليه موقعه كمسئول، شعارهم في ذلك "الغ عقلك واتبعني"... كالصم، البكم، العمي،.... وأن لا تتكلم فأنت في سورية.
لا أحد يستطيع أن يتصور مدى الحماقة التي تطبع تصرفات هؤلاء القوم بعد أن فرضوا أنفسهم على الشعب السوري بالقمع والفساد والتسلط. ولكن ما هو مؤكد أن الدول لا يمكن تستمر طويلا، والحكام فيها في واد والشعب كله في واد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد