في حفلة الشتائم التي أحياها " نواب المرسيدس " في سباقهم للحصول على جائزة تعطى لمن يثبت أنه أبلغ من غيره في الشتيمة، وصف أحدهم عبد الحليم خدام بأنه " بروتس ". ولمن لا يعرف، ومعذرة ممن يعرف، فإن " بروتس " هذا كان ربيب الإمبراطور الروماني " يوليوس قيصر "، يعيش في كنفه وينال من عطفه وبره ما لا يناله الولد من أبيه. ومع ذلك فقد شارك في المؤامرة التي دبرها مساعدو قيصر، وانقضوا عليه وقد أشهروا سيوفهم. وعندما تبين له أن " بروتس " كان واحدا منهم التفت إليه قائلا: " حتى أنت يا بروتس ؟ "، وذهبت مثلا.
النظام البعثي في سورية لم يكن، على مدار حكمه، نظاما يتمتع بإخلاص رموزه، إلا بمقدار ما ينال هذا الرمز أو ذاك من مكاسب خلال وجوده في موقعه. فإذا ما استُغنِيَ عن خدماته انقلب على النظام والرئيس والأمثلة على ذلك كثيرة. وسعيد الحظ هو الذي يخرج من دون أن يناله أذى أو يتعرض لغضب الحاكم بأمره.
قد يكون هناك شخص أو أكثر يهيئ نفسه للعب دور " بروتس "، ولكنه قطعا لن يكون " عبد الحليم خدام " أو غيره ممن أصبحوا خارج دائرة النظام . بعض المراقبين السوريين يعتقد أن أقرب شخص ينطبق عليه هذا الاسم هو " آصف شوكت "، رجل النظام المدلل. ومن يدري فقد يقف " ماهر الأسد "، إذا ما حصل ما لم يكن في الحسبان، ليقول: ليتني أفرغت رصاص مسدسي في رأس آصف، بدلا من الرصاصة اليتيمة التي جرحت بطنه فقط.
كثيرا ما كنت أتحاشى الكتابة في موضوع الطائفية التي بدأت مع أول يوم استولى فيه حزب البعث على السلطة في سورية في 8 آذار 1963. مدير إدارة شئون الضباط المقدم العلوي " صلاح جديد " سرح في أول يوم من الانقلاب أكثر من 30 ضابط سني غير بعثي واستدعى كل ضباط الاحتياط المسرحين من البعثيين وكان أكثرهم من العلويين، وممن أعيد إلى الخدمة الرائد الطيار " حافظ أسد ". ولم تمض إلا أشهر قليلة حتى كان معظم قادة الألوية العسكرية من العلويين.
وكانت المرحلة الثانية هي قيام " صلاح جديد " و" حافظ أسد " بانقلاب 23 شباط 1966 على رفاقهم من أعضاء القيادة القومية البعثية، وفيها مؤسس الحزب " ميشيل عفلق " ورئيس الدولة الفريق " أمين الحافظ "، ليتم بعد ذلك قصر قيادات الجيش على نخبة من العلويين. وبعد ذلك انقلب السحر على الساحر " صلاح جديد " عندما أطاح به " حافظ أسد " في 16 "نوفمبر" عام 1970، ليمعن الأسد بعد ذلك في تكريس الطائفية كأسوأ ما يكون.
وقد كان لسياسة حافظ الأسد الطائفية الأثر الكبير في تصاعد النقمة في نفوس أبناء الطائفة السنية الذين يشكلون أغلبية السوريين (70% سنة و10% علويين و10% نصارى و10% باقي الطوائف). وبلغ الأمر ذروته عندما اعتقل الشيخ " مروان حديد " وأخضع لتعذيب شديد حتى مات في عام 1976 تحت إشراف ضباط علويين، مما دفع بجماعة " الطليعة المقاتلة " التي أسسها الشيخ حديد لاغتيال ضباط مخابرات علويين ما سرّع بأحداث عامي 79 -80 التي أدخلت سورية في نفق اقتتال داخلي، بلغ ذروته عندما قامت وحدات سرايا الدفاع بقيادة " رفعت أسد " شقيق الرئيس والوحدات الخاصة بقيادة العميد" علي حيدر " بقصف مدينة " حماة " (كيلومتر شمال دمشق ) في مثل هذا الشهر شباط من عام 1982.
وقد أسفر القصف عن عشرين ألف قتيل واعتقال أكثر من ثلاثين ألف حموي، وتهديم جوامع، تم استهدافها عن عمد وليس عن طريق الخطأ (نقلنا في مقالات سابقة لنا شهادة الصحفي البريطاني "روبرت فيسك" الذي صور المأساة من داخل المدينة).
وإذا كان الرئيس حافظ الأسد قد حصر المراكز الحساسة في الجيش والمخابرات في أيدي قلة من أبناء الطائفة، فقد ترك هامشا ولو ضيقا لمساعدين مخلصين له من أبناء السنة مثل عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي . ولأن هؤلاء المساعدين كانت وظيفتهم تطويع الشعب السوري وقمع أي تحرك، فقد كان الرئيس كريما معهم، فتح لهم أبواب السرقات من أموال الوطن، بنى بعضهم إمبراطوريات مالية من تلك المسروقات مثل رفعت أسد شقيق الرئيس، ولكن في نفس الوقت كان يراقبهم ويسجل عليهم كل شيء في ملفات، حتى إذا ما حاول البعض " أن يلعب بذيله "، تم نشر تلك الملفات على الملأ كما حصل لرئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي الذي كانت نهايته النحر أو الانتحار.
لكن الأمر اختلف مع الرئيس بشار، الذي عمل على وأد أي فرصة لظهور أي " بروتس " يحاول تخطي الحواجز. فتخلى عن كثير من مساعدي والده من أبناء الطائفة من خلال تحديد " سقف عمري " لكبار الضباط. وضيق دائرة مساعديه حتى حصرها في أقرب المقربين إليه ( أخواله وأبناؤهم وأخوه وصهره ).
وتقتضي الموضوعية، عند بحث موضوع اعتماد الرئيس حافظ الأسد على أبناء طائفته، أن نشير إلى أن الكثيرين من الطائفة العلوية قد تضرروا في عهده. ويخطئ من يظن أن عهد حافظ الأسد كان " منا وسلوى " على الطائفة، و" علقما ودفلى " على باقي الطوائف. فقد شمل الاستبداد كل الطوائف بلا استثناء، وقد تفاقم الأمر بعد استلام الرئيس بشار الأسد الحكم، لأنه احتكر السلطة لصالح أقربائه، وأبعد عنها الباقين من الطائفة وغيرها.
واستطرادا، فلا يمكننا أن نقفز فوق شخصية اللواء " غازي كنعان " الذي كان المرشح الأقوى ليكون " بروتس "، إذا ما أريد استبدال الرئيس بشار. فهو يتمتع بصفات تؤهله كي يكون البديل من دون هزات تعرض استقرار سورية للخطر، وفي نفس الوقت يضمن عدم وصول إسلاميين إلى السلطة. وسواء كان موت كنعان استنحارا أو نحرا أو انتحارا فقد تمت إزاحته من الطريق . وبغيابه ربما ظن المحيطون بالرئيس أن الخطر زال عنهم ولو إلى حين .
ما أوردته في مقالي هذا ليس من نافلة القول أو ترف المقال . فإن الإرهاصات في سورية جعلت الجميع يعتقدون أن التغيير قادم لا محالة ، وأن القضية مسألة وقت. ولكن مالا يستطيعون الجزم به هو كيف سيتم التغيير ومتى؟.
البعض يؤكد أن رأس النظام السوري وحاشيته متورطون في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الشهيد رفيق الحريري، وأن هذه القضية أضحت في حوزة المجتمع الدولي ولجنة التحقيق الدولية، وتم التقنين لها بعدة قرارات دولية، وأن ضم بنود القرارات بعضها إلى بعض سينتج عنه، بعد شهادة عبد الحليم خدام، قرار ظني باتهام الرئيس السوري باغتيال " الحريري "، وبالتالي فإن واشنطن التي دونت عدة ذنوب بحق الرئيس والنظام ومنها تقاربه الأخير مع طهران، لا تحتاج إلى فبركة انقلاب أو تجريد جيوش وأساطيل. وأن " بروتس " المنتظر قد يأتي بثياب المحقق البلجيكي " براميرتس ".
البعض الآخر يراهن على فئة من النظام - عسكريين ومدنيين، سنة وعلويين - همشت لصالح العائلة الحاكمة. وهي تجري ترتيبات فيما بينها، بمعرفة واشنطن وباريس. وأن هذه الفئة سوف تختار من بينها من يقوم بدور " بروتس " المنظر، وأن القضية مسألة وقت.
ومع عدم إهمال تأثير ما أشرنا إليه آنفا، فإن الغائب الحاضر الأكبر على الساحة السورية هو الشعب السوري، الذي لم تحاول واشنطن أن تمد له يد المساعدة طيلة حكم البعث. لذلك كانت ردود فعل نخب المعارضة دائما سلبية تجاه أية مساعدة مفترضة من واشنطن في فرض الإصلاح أو تغيير النظام البعثي بالمرة.
ويعتقد على نطاق واسع في صفوف الشعب السوري والمعارضة، أن الأمر لا يحتاج إلى " بروتس " ولا إلى " أوكتافيوس ". وأن الإهانات التي ألحقها النظام بالشعب السوري، قد ساوت بين جميع المواطنين. فلم تفرق بين مسلم ولا نصراني، أو بين سنة وعلويين، أو بين أكراد وعرب. وأنه لا حجة لمقصر في السعي إلى إنهاء حكم الاستبداد والفساد، بعد أن طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وتجاوز الحزام الطبيين.
أخيرا، لابد من لفت الانتباه إلى أنه إذا كان النظام معنيُّ بإفشال أي تكتل معارض ضده، وأنه يعمل على بذر بذور الشك في أي لقاء بين معارضين لهذا النظام، فقد كان مأمولا أن يقابل المعارضون هذا المكر بمكر أشد، بمخاطبة أركان النظام ممن ما تزال ضمائرهم حية، تنبض بالحس الوطني، لتفتيت لحمة النظام.
لكن بعض المعارضين الذين ما يزالون " في سنة أولى معارضة " وقعوا في الشرك الذي نصبه النظام . فرأينا البعض يهاجم اللقاء الذي تم مؤخرا بين " عبد الحليم خدام " والمراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين " علي صدر الدين البيانوني " في " بروكسل "، - قبل أن يتبينوا ما دار في هذا اللقاء - بحجة أن خدام بقي أربعين سنة يخدم نظام حافظ الأسد ويسيء إلى الشعب السوري.ونحن، إذ نوافقهم على ما قالوه في حق خدام، نقول لهم: دعوه إذن يكفر عن بعض ذنوبه بعمل صالح.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد