الناتو يتصدع على جبهة طالبان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 
حالة الطوارئ التي عاشها حلف شمال الأطلسي في مطلع هذا الشهر عكست حجم الأزمة العنيفة التي تَعصِف بمستقبل القوات العسكرية بالحلف في أفغانستان، ولأول مرّة يخرج إلى العلن هذا الخلاف الشديد بين أعضاء الحلف والولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى خلاف آخر بين بريطانيا ذاتها والولايات المتحدة على توزيع القوات العسكرية للدولتين في جنوب أفغانستان، حيث أصبح الجنوب الأفغاني مناطق شبه محررة لقوات طالبان ذات التأييد الشعبي الواسع في المنطقة.

إن سقف الخطاب الذي تبناه وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس، ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في نقدهم الشديد لباقي دول الحلفº أكّد فعليّاً تدهور أوضاع القوات العسكرية في مواجهة المقاومة الأفغانية التي تُمثلها طالبان، ممَّا استدعى زيارة كابل المفاجئة لكلا الوزيرينº إضافةً للطرف البريطاني، فلقد أصبحت دول الحلف تعيش قناعة متزايدة بأن الصعود العسكري لطالبان أصبح مضطرداً، وأنَّها تتوسّع في استعادة الأراضي إلى سلطتها المركزية، وعند مواجهة هذا الزحف أو محاولة استرداد المواقع التي تسيطر عليها طالبان تسقط أعداد متزايدة من جنود الناتو، وهذا التساقط أصبح يتزايد بشكل مخيف، مع ملاحظة أن طبيعة المقاتل الطالباني وعقيدته العسكرية تجعل سقوط الشهداء أمامه دافعاً للعطاء والفداء، خلافاً لموقف حلف شمال الأطلسي الذي يشعر جنوده بأنّهم قوات احتلال غزت أفغانستان، وأسقطت حكومتها الشرعية، وأثخنت الجراح في هذه الدولة الضعيفة الفقيرة التي يرفض أهلها أن يستقرّ الاحتلال على أرضهم.

لقد حاولت واشنطن أن تنقل مسئولية إدارة المعركة إلى الحلف أملاً في أن يتحمل شركاؤها الأطلسيون مسئولية تثبيت الحالة الأمنية الاستراتيجية التي تخدمهم في أفغانستان، وفي باكستان، وتُكرس النفوذ الاستعماري المركزي لتطويق هذه المنطقة، وإلغاء إرادتها الوطنية، وذلك من خلال دعم الحكومات التي نصبتها حتى تستقرّ وتبقى هذه القوات في قواعدها الدائمة التي أُنشئت بعد الحرب على أفغانستان.

ولقد أقنع الأمريكيون حلفاءهم في الناتو بأن هذه المعركة متّجهة إلى انتصار حلف شمال الأطلسي، والمجندين الأفغان من قبل حكومة كرزاي معهم، وأن هذه الشراكة من الناتو تمليها المصلحة الاستعمارية للطرفين بحيث تركز الولايات المتحدة وتتفرغ للساحة العراقية، غير أن الحلف سرعان ما تبيّن له حجم التضحيات التي يقدمها من جنوده في حرب الاستنزاف التي تشنّها طالبان على قوات الاحتلال بمهارة عالية تكتسب حضوراً وتأثيراً مع مرور الوقت.

 

شعبية طالبان في تزايد:

ولعلَّ ما عقَّد الأمور على قوات الناتو هو تزايد التأييد والتضامن الشعبي في أفغانستان مع طالبان خاصّةً بعد جرائم الحرب المروعة التي ارتكبها الحلف ضد المدنيين في أفغانستان، وبعد فشل حكومة كرزاي الواسع في تحقيق أي حالة تقدٌّم اقتصادي أو معيشي أو أمني في أفغانستان، فضلاً عن عودة وانتشار تجارة المخدرات التي حاصرتها طالبان ووصلت إلى أدنى مستوياتها ترويجاً وزراعةً في عهدها، هذه العوامل ساهمت في زيادة انخراط أبناء القبائل الأفغانية إلى صفوف طالبان، ورسّخت إيمانهم بالقضية الوطنية الإسلامية التي ترفعها قيادة طالبان للتحرٌّر من الاحتلال، ومن هيمنة المشروع الدولي الذي نشر الخراب في أفغانستان، وضاعف أعداد الضحايا المنكوبين من جراء الحروب التي شُنَّت على جبال الهندكوش.

ومن الأسباب الرئيسية في متانة الموقف لطالبان في قيادتها للمعركة، واستمرار صلابة مقاومتها، وسيطرتها على الأوضاع العسكرية والسياسية رغم التضحيات الجسيمة التي قدمها قادة الحركة ومناضلوها يأتي الانضباط الفقهي الذي تنزله القيادة إلى مناضليها من القواعد في منهجية القتال، والتعامل مع حالة الحربº فالبيانات التي أصدرتها الحركة، والخطابات المباشرة من الملا عمر، وبيانات مجلس القادة الميدانيين لجبهات القتال أخذت تركز بصورة واسعة على حرمة استهداف المدنيين وإدانتها المباشرة للعمليات التي وقعت في المساجد وغيرها من تجمعات المدنيين، وحالة الانضباط التي سادت في الميدان العسكري لأبناء طالبان تعكس مدى قناعتهم بشرعية هذه القيادة، والغريب أن الإمكانيات المادية والمعرفية لطالبان يفترض أن تكون الأقل في العالم لأي حركة ثورية تقاوم الاحتلال، إلا أن طريقة قيادة الملا عمر للحركة، ومجلس القادة التي يديرهº تكشف عن حالة عميقة من الشورى والوعي السياسي والانضباط، ومن أمثلة هذا الوعي خطابه الأخير إلى الدول الأوروبية يبلغهم فيه بأنه لا نوايا لدى طالبان من متابعة القتال أو مطاردة الأوروبيين لو خرجوا وانسحبوا من أفغانستان، وقد جاء الخطاب في توقيت ذكيٍّ, تزامن مع اشتعال الخلاف بين هذه الدول وبين واشنطن ولندن، ومع تزايد الدعوات من داخلها بل من قياداتها الرسمية لسحب قواتها من أفغانستان.

هذا الحزم والتوازن الفقهي في شخصية الملا عمر جعل القرار واضحاً وصريحاً تجاه منصور داد الله القائد العسكري بعد استشهاد أخيه، والذي بدا يتوسّع في برنامجه الميداني، ومنهجه الفكري، وعلاقاته الخارجية خارج إطار المنهج العقائدي والفكري والسياسي لطالبان، والإشكالية الخطيرة التي برزت مع منصور داد الله هو تعاطيه الواسع والمباشر مع الشباب العربي، وتلقي الأموال مباشرة منهم لتجنيد المقاتلين، وزيادة ترسانة الأسلحة، ونشر المعسكرات، والخطورة التي أظهرت حنكة ووعي الملا عمر والقيادة المركزية لطالبان هي النتائج الوخيمة التي تسبّبت فيها هذه التجربة للشعب الأفغاني في حرب التحرير الأولى مع الروس، حيث أصبح أولئك الشباب العربي الذي يسأمون من منهجية الأفغان يملكون جبهات مختلفة على الأرض الأفغانية كلُّ بحسب فكره ومرجعيته الدينية المختلفة عن الشباب العربي الآخر في تلك الجبهة، وعليه فقد توالدت القيادات والولاءات المتأزمة أصلاً من ذات الأحزاب الأفغانية.

والأخطر من ذلك أن أولئك الشباب تغلب عليهم قلّة العلم الشرعي المتوازن لأهل السنة، وحدّة العنف، والغُلُوّ الطائفي حتى مع الشعب الأفغاني، وانعدام الحنكة السياسيةº مما يجعل تصرفاتهم ومعاركهم تُدار وفقاً لتقديراتهم، وردود الأفعال على ما يلاقونه على الساحة العسكرية، وعليه فهم يتوسعون في دماء المدنيين من الموظفين وغيرهم، ولا يستجيبون لنداءات ضبط النفس، ومراجعة الأحكام الشرعية بحسب المدارس الفقهية المعتبرة لأهل السنة والتي تُعتبر طالبان بمرجعيتها الفقهية إحدى دوائرها الرئيسية في أفغانستان وباكستان.

 

الاختراق الخطير:

هذه الحالة من الفكر والفقه المنحرف الذي يسيطر على بعض الشباب العربي، مع توفٌّر مبالغ ضخمة من الأموال تجمع لهم بناءً على نقائهم العقدي حسب ما تعتقده بعض الأوساط في المنطقة العربيةº تجعل القدرة على اختراق هذه المجموعات من الشباب العربي بإثارة الخلاف العقدي أو الفقهي أو السياسي داخل الدائرة السنية ومن ثَمّ تحريضهم على طالبان وقيادتهم المركزيةº عنصراً خطيراً تنفُذُ من خلاله المخابرات الدولية أو الإقليمية أو العربية الموظفة لمصلحة واشنطن إلى صفوف حركة طالبان، واستهداف قياداتها في توقيت دقيق وصل فيه مشروع المقاومة الأفغاني إلى مرحلة متقدمة من تحقيق التحرٌّر الوطني، هذا بالضبط ما جعل الملا عمر ومجلس شورى قادة الجبهات لطالبان أن يحسم قضية منصور داد الله، مما حمل الأخير على التوجٌّه لباكستان، ووقوعه في الأسر بعد إصابته البليغة متجنباً منازعة القيادة المركزية لطالبان في قراراتها النهائية.

 

هل تكون طالبان محور آسيا الجديد؟

بناءاً على ما تقدّم تتعزّز عندنا الصورة من أن جبهة الناتو في أفغانستان تتصدّع بالفعل وفقاً للتطورات العسكرية على الأرض أو العلاقات السياسية بين دول الحلف، خاصة بعد بروز قيادات جديدة في الدول الغربية تبنّت في برامجها الانتخابية الانسحاب من أفغانستان، وهو ما أصبح مطلباً شعبياً لدى الرأي العام الأوروبي في مجمله, وعليه فإن بدء انسحاب القوات الأطلسية من أفغانستان ولو كان تدريجيّاً أو نسبيّاً بحسب الدولة المقررة للانسحاب، وبرغم الضغوطات الأمريكية، ومشروع إعادة الانتشار الذي تعدّ له واشنطنº سيبقى مؤشراً إلى انهيار المشروع الأمريكي الأطلسي في أفغانستان.

 

المفهوم الاستراتيجي لخسارة المعركة:

الصراحة التي سيطرت على الخطاب الأمريكي والبريطاني أعلنت بوضوح بأن خسارة الحرب في أفغانستان تعنِي تبدٌّل قواعد اللعبة الاستراتيجية في آسيا الإسلامية، وهو ما دفع المسئولين الأمريكيين إلى تهديد الأوروبيين بالفعل بأن هذا التحوٌّل الاستراتيجي سيترتب عليه فقدانهم لمصالح اقتصادية، ولنفوذ سياسي في المنطقةº سواء كانت ساحة الدول الإسلامية، أو شبه القارة الهندية، وتوازنات القوى والنفوذ مع الصين، أو مع المدّ الإسلامي بحسب تسمية روبرت جيتس شخصياً في تحذيره للأوروبيين.

لكن هذا السياق، من رفع نبرة الخطاب والتهويلº لم يمنع الدوائر الأوروبية الاستراتيجية والأكاديمية من أن تتعاطى بالفعل مع قضية عودة طالبان المتوقعة، بل ودعوة بعض المتخصصين بأن تعترف أوروبا بهذا النفوذ العائد الجديد، والتعامل معه عبر نظرية المصالح المشتركة, وهذا هو مفهوم السياسة الدولية "المصالح لا المبادئ".

 

http://www.islamtoday.net:المصدر

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply