أفغانستان كلها جنوب!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

يوماً بعد يوم تكتشف ألمانيا أنها في مأزق حقيقي بأفغانستان، وأنها وصلت إلى ما يمكن أن نطلق عليه منطقة "اللاتراجع ولا استسلام"، إذ إنها لا يمكنها على الأقل حالياً سحب جنودها من هناك مراعاة لضغوط شركائها في حلف شمال الأطلسي الناتو، كما أن انسحابها يفقدها أي دور ريادي على الساحة الدولية تتطلع إليه وتصبو إلى تحقيقه.

إذ وجدت الحكومة الألمانية نفسها مضطرة للمواصلة مكتفية بطمأنة شعبها أن الجنود الألمان في أمان، وبعيدين عن مناطق الصراع مع طالبان والقاعدة، رافضة بين الحين والآخر أية طلبات من حلفائها بإرسال جنودها إلى الجنوب الأفغاني بدعوى أن منطقة الجنوب غير آمنة، وتزداد فيها عمليات المقاومة، مما يجعل الجنود الأجانب عرضة لأية هجمات قد تودي بحياتهم.

غير أن الأيام كشفت أن الحجة الألمانية بعدم الذهاب إلى الجنوب باتت غير ذات جدوى، إذ تحول الشمال إلى جنوب جديد، وباتت أفغانستان كلها منطقة حرب ضد القوات الأجنبية.

وحول الفرق بين الشمال والجنوب الأفغاني، والفرق بين استراتيجية القتال لدى طالبان سابقاً وحالياً كتب رولف توبفوفن الخبير الألماني الشهير بشئون الإرهاب مقالاً لصحيفة "دي فيلت" جاء فيها:

إن الحادث الانتحاري الذي تعرض له الجيش الألماني في إقليم قندوز، وأسفر عن مقتل ثلاثة منهم، وإصابة خمسة آخرينº كفيل بأن ينسف صحة الادعاء المكرر والمعاد بين فترة وأخرى بالهدوء النسبي في شمال أفغانستان، وأن يكشف زيفه، وأن مردديه لم يعودوا يستندون على أرض صلبة تؤيد صحة دعواهم، إذ إن هذا الهجوم لم يسفر فقط عن الإطاحة بأجسام الجنود الألمان والمدنيين الأفغان في الهواء وتطايرها فحسب، بل هو علامة واضحة على أن الخوف من عرقنة أفغانستان - تحويل أفغانستان إلى عراق جديدة - لم يعد مجرد مخاوف وكلاماً مرسلاً، بل خرج من مرحلة التهديد ليصبح واقعاً ملموساً ومشاهداً، وتلك هي وجهة النظر التي تتكتم عليها الجيوش الأجنبية الموجودة بأفغانستان، كما يتحفظ السياسيون على البوح بها، والكشف عنها.

تلك الحقيقة التي تقول: بأن أفغانستان كلها ميدان حرب ومسرح عمليات بما في ذلك الشمال دون فرق بينه وبين الجنوب، وقد تحدث أحد الضباط الألمان عن خبرته بأفغانستان قائلاً: "إذا ما أشار أمراء الحرب أو بارونات المخدرات بإبهامهم فإننا سوف نخسر الكثير في الشمال، نحن موجودون هناك بالصبر فقط".

وأضاف هذا الضابط بأنه ولوقت طويل لم تكن الدوريات التي تحمل الأعلام الألمانية على المركبات الموجودة في الدورية تتمتع بأية ضمانات أو تأمينات ضد أي هجوم محتمل، حيث يتم التعامل مع القوات الألمانية من قبل جمهور الشعب الأفغاني، وجنود تنظيم القاعدة، وجمهور طالبانº على أنهم كفار ومحتلون لبلد إسلامي، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه النظرة لنا من قبل الشعب الأفغاني يتم إغفالها تماماً عند الحديث عن الوجود الأجنبي في أفغانستان، حيث يكثر الحديث بأن الشعب الأفغاني يرحب بالقوات الأجنبية، وهو ما يكذبه الواقع.

وكما تمكنت طالبان في هذه الأثناء من استعادة قوتها بدأت في شن هجمات موسعة ومفتوحة ضد الناتو، وقوات إيساف الدولية، وعلى الرغم من خسارة طالبان الكبيرة في الهجمات التي تعرضت لها مطلع هذا العامº إلا أن مقاتليها يبدون وكأنهم مستودع لا تنفذ منه الذخيرة، أو صهريج مملوء بالماء دائماً، وكما قال المؤرخ العسكري "الإسرائيلي" مارتين فان كريفيلد فإن "كل يوم لا تتمكن فيه القوات الأجنبية من الانتصار في حرب العصابات يعتبر انتصاراً لطالبان".

لقد عاد مقاتلو طالبان والقاعدة إلى أفغانستان من جديد، وتم توسيع مسرح عملياتهم، وما حدث في قندوز لهو أكبر دليل على ذلك، واستطاع الإسلاميون من طالبان والقاعدة أن يحولوا أفغانستان إلى مكان لمعركة جديدة للجهاد، فخلال السنوات الثلاث الأخيرة تسلحت الجبهة الإسلامية جيداً، وتم إرسال المئات من مقاتلي طالبان إلى العراق، فزعيم القاعدة بالعراق السابق أبو مصعب الزرقاوي درب هؤلاء الرجال على تكتيك حرب العصابات، والدليل الواضح على دخول التقنية القتالية العراقية في أفغانستان هو هذا التزايد الواضح من الهجمات الانتحارية، وهذه الهجمات لم تكن حتى وقت قريب - وكذلك في القتال ضد السوفيت - من خصائص المقاومة الأفغانية، وهناك العشرات ينتظرون دورهم للقيام بهذه الهجمات.

ويضع مقاتلو طالبان وأصحاب حروب العصابات أهدافاً محددة لتنفيذها، ولا يترك الأمر للصدفة، بل إن الصدفة لم يعد لها مكان، أو فلنقل أن نصيبها قليل جداً مقارنة بما كان من قبل، ومن الثابت أن هناك تعاوناً وتنسيقاً أفضل بين الجماعات المختلفة، وهذه الاحترافية المتزايدة في الهجمات تتضح للعيان، طالبان تمتلك شبكة من المستطلعين والمستكشفين في جميع أنحاء البلد، ويقول الجنود الألمان: "حينما نترك المعسكر تعرف المنطقة كلها بهذا في نفس الوقت".

وبجانب المواجهات الصريحة والمفتوحة تعتمد طالبان على سياسة "اضرب واجري"، فالناشطون والمتعاطفون مع حكومة كرزاي هم من المستهدفين للقتل والهجوم، فحينما يحتفل الغرب بنجاحهم في إنشاء مدرسة جديدة وافتتاحها يأتي أحد جنود طالبان في المساء، ويهدد المدرس بالموت، وفي اليوم التالي تظل المدرسة مغلقة من جديد، هذا حدث فعلاً في هندكوش.

إن مقاتلي طالبان اليوم وبعد ست سنوات من سقوطها عام 2001م أصبحوا منظمين بصورة أفضل، حيث تمكنوا من الاندماج في وسط الشعب الأفغاني، والاختلاط بهم - وخاصة في الريف -، كما أصبحوا أقوى تسلحاً بصورة تختلف كثيراً عن ذي قبل، السلاح والمعدات يتم تهريبهم من شمال العراق عبر إيران إلى أفغانستان، صواريخ سام الروسية والصينية تتكلف نحو 2500 دولار للقطعة الواحدة، ومن يحتاج إلى كلاشينكوف سيجده في بشاور الباكستانية في الطريق إلى ممر خيبر بنحو 500 يورو أو أقل.

"إن القوات الألمانية في قندوز لها مهام مدنية، وليس لديها أية تكليفات أو أوامر حربية قتالية"، هذا الادعاء الحكومي أصبح واهياً منذ مقتل الجنود الثلاث، إن وجود القوات الألمانية لن يسهم بأي حال من الأحوال في استقرار أفغانستان، وهنا جدير أن نذكر كلمة أحد أمراء الحرب: الألمان أناس لطفاء، فهم يجلسون في معسكرهم فقط، ولا يؤذون أحداً"، ولكن على الرغم من ذلك يتعرضون للقتل والهجوم بناء على وجهة النظر التي سبق وأن أشرنا إليها.

وفي النهاية بات من المفروض والحتمي أن ندرك الواقع جيداً وهو أن أفغانستان ساحة حرب وقتال، ونحن في أفغانستان وينظر إلينا على أننا محتلون ولسنا مساعدين على التنمية والبناء، وأن طالبان تمكنت من الوصول بمقاتليها وعملياتها الانتحارية إلى الشمال مثلما هو الحال في الجنوب، لتصير بذلك أفغانستان كلها جنوب، ويجب أن تختفي نغمة "الشمال الهادئ والجنوب المضطرب"، وأن نوفر لجنودنا هناك المزيد من الحماية، وأن نعيد النظر في أوضاع هذه القوات.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply