الناتو ينتحر على أبواب أفغانستان!!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شديدة البأس هي أفغانستان في جوها وجغرافيتها التي أكسبت رجالها صلابة نادرة، وشكيمة فولاذية قوية راحت تعبر عن نفسها مرة بعد الأخرى في التصدي للقوات الغازية قديماً وحديثاً, وما عرفت في يوم من أيامها سكوناً عن غاصب إلا سكون المتربص والمتحفز للانقضاض على الفريسة التي ساقها قدرها إلى حتفها في تلك البلاد القاحلة.

وقد يبدو أن تلك البلاد العنيدة المعبأة بمزيج من كراهية المحتل الأجنبي، والالتزام الديني، والتضامن القبليº تتلذذ بإسقاط الإمبراطوريات واحدة تلو الأخرى, وتجد متعتها في التصدي للقوى التي تظن أنها أبداً قاهرة غالبة, فإذا بها مقهورة منكسرة، تخرج عبثاً تحاول أن تلملم جراحها الدامية، وتجمع عليها رداء الكبرياء الممزق.

فالإمبراطورية البريطانية لم تنجح في احتلال بلاد الأفغان على الرغم من احتلالها للعاصمة كابول عام 1839م، وفقدت في معركتها آلاف الجنود (16 ألفاً تقريباً)، وخرجت بعدها صاغرة تجر عار الهزيمة الذي اكتست به حملتها الاستعمارية آنذاك.

والذاكرة تعود كذلك إلى الاتحاد السوفيتي الذي ظنها نزهة قصيرة لبضعة آلاف من الجنود، يخضعون البلاد الفقيرة المعدمة, ولا يستحق الأمر أكثر من ذلك, فإذا بقدمه تنزلق عام 1980م بمئة ألف جندي إلى مستنقع لم يعرف منه فراراً ولا مخرجاً إلا بعد سنوات من الذل، خرج بعدها يلعق آثار الهزيمة، وينتظر انهيار إمبراطوريته التي ما ظهرت في بلاد الأفغان إلا كنمر من ورق.

تلك المقدمة ربما كانت ضرورية لفهم ما قد يجره الإصرار الأمريكي الذي جر معه حلف الأطلسي (الناتو) على إكمال المهمة في أفغانستان، وسط بوادر الفشل التي تلوح في الآفاق, مذكّرة بما قد جرّه الإصرار السوفيتي ومن قبله البريطاني على التورط المتزايد في البلاد من آثار على تفكك الإمبراطورية، وانهيارها بعد ذلك.

وقد يحسن أن نعرض بشيء من تلك الظواهر الكاشفة عن حقيقة الانهيار الذي يواجهه الناتو الآن, ومسبباتها, على أن نعرج بعد ذلك للآثار والتداعيات التي قد تتمخض عنها تلك الظواهر سواء على الناتو ومستقبله كقوة عسكرية، أو على طبيعة العلاقة التي تحكمه بالولايات المتحدة الأمريكية.

 

بوادر الفشل ومسبباته:

يمكن إجمال الأسباب الكامنة وراء فشل الناتو في أفغانستان وبوادره التي تلوح في الأفق في عدة عناصر:

· أولاً: ضآلة العدد وضعف الإمكانيات:

ضآلة العدد الذي وفّره الناتو لتلك المهمة في بدايتها, وقلة الإمكانيات العسكرية التي تمنعت كثير من الدول عن إرسالهاº أسهمت إلى حد كبير في تراجع قوة الحلف، وقدرته على التصدي لهجمات طالبان التي تنوعت أشكالها, وزادت وتيرتها على نحو غير مسبوق منذ عام 2001م, وهو العام الذي غزت فيه الولايات المتحدة البلاد، وأسقطت نظام طالبان.

فقد نشر الحلف حتى الآن قرابة 37 ألف عسكري, ومن بين الدول الأعضاء الست والعشرين لم يعلن سوى عدد محدود جداً عن رفع عدد جنودها في أفغانستان, وبشكل متواضع للغاية, فإسبانيا على سبيل المثال ترفض بإصرار إرسال المزيد من القوات, وألمانيا ترسل بعد نداءات متكررة ستة جنود فقط مشترطة ألا يكون لهم دور قتالي في الجنوب المشتعلº وإنما فقط يدعمون تدريب القوات والجيش الأفغاني!!

وهذا التخاذل دفع الأمين العام للناتو ياب دي هوب شيفر للإعراب عن تشاؤمه بشأن فرص إقناع الدول الأوروبية برفع حجم انتشارها الميداني في أفغانستان خاصة في الجنوب، رغم تصاعد المتاعب والإشكاليات التي يعاني منها الناتو في هذا البلد بسبب تزايد أنشطة طالبان. [فرانس برس 8/2/2007].

 

· ثانياً: الخوف من مواجهة طالبان، ونشوب النزاع بين دول الأطلسي:

اشتراط بعض الدول الأوروبية ألا توجد قواتها في الجنوب حيث تشتعل الحرب مع طالبانº كشفت عن مدى الفزع الذي ينتاب دول الناتو من مواجهة قوة طالبان المتصاعدة, وأحدثت بدورها تصدعاً بين الدول المشكلة لهذا الحلف.

فكندا التي نشرت قواتها في الجنوب الأفغاني - وتحديداً في قندهار وهلمند - حيث معاقل طالبانº قتل لها حتى الآن - بحسب مصادرها - 40 من جنودها، في حين لم يقتل إلا القليل لدول مثل فرنسا وألمانيا، وهو ما خلق توتراً في العلاقة بين تلك الدول.

ولاشك أن هذا التنازع بين أعضاء الحلف, وتخلفهم عن تلبية تعهداتهم في أفغانستان سواء من ناحية المعدات أو الجنود، وتراجعها عن المواجهة المقرون بالتقدم والتحسن في قدرات طالبان، والتي ترجمت إلى عدة عمليات نوعية حطمت من معنويات جنود الناتو, وجعلته فقط في موقف دفاعي, وهي استراتيجياً السطر الأول، والركيزة الأساسية التي تدفع في اتجاه خسارة المعركة.

 

· ثالثاً: تزايد المعارضة الداخلية لهذه العملية، وزيادة رقعة الخلاف:

تنامي المعارضة الداخلية لهذه العملية، وزيادة رقعة الخلاف بين ما يطالب به قادة الميدان العسكري من قوات ومعدات إضافية، والقيادات السياسية الرافضة لهذا المنحى الذي قد يقوّض شعبيتها الداخلية المهتزة المرتعشة من الأساس.

فإيطاليا يخضع رئيس وزرائها رومانو برودي لضغوط مكثفة من اليسار في تحالفه لسحب قواته من أفغانستان كلياً، ثم إن حكومته تتمتع بأكثرية مقعد واحد في البرلمان الإيطالي، ويمكن إسقاطها بسبب هذا الموضوع.

وفي إسبانيا يضغط الاتحاد اليساري لسحب القوات من أفغانستان كما كان الحال في العراق, ويلوح الحزب الشعبي - بين الحين والآخر - بمخاوف من تعارض البلاد لهجمات من قبل القاعدة بسبب الإصرار على دعم الاحتلال في أفغانستان، وتكرار تجربة هجمات مدريد مرة أخرى.

 

· رابعاً: الخلاف حول الاستراتيجية المتبعة في مواجهة طالبان:

صعوبات الميدان ليست هي الوحيدة التي تزعج الناتو، وتحك أنفهº على التحقيق, بل الخلافات دبت بين أعضاء الناتو حول الأهداف الاستراتيجية للتدخل في أفغانستان, وهل يكفى التوصل إلى حلول تنصهر بها طالبان في إطار عملية سياسية, أم القضاء النهائي عليها, نجم عنه كذلك خلاف آخر حول آليات العمل وأولوياتها, وهل تركز على عمليات الإعمار لكسب الشعب الأفغاني، والحد من قدرة طالبان على التجنيد، أم تترك هذه المهمة لمنظمات مدنية، وتتفرغ لمهام القتال وفقط؟!

هذا الخلاف حول الاستراتيجية المفترضة قابلة - كما نوهنا سابقاً - تقدم على كافة المستويات الاستراتيجية والعسكرية والاجتماعية لحركة طالبان، وقد اعتبرت صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 2/5/2007 التقدم القوي لحركة طالبان بعد خمس سنوات من سقوطها - على كافة الجبهات لاسيما العسكرية - يشكل فشلاً ذريعاً لقوات حلف شمال الأطلسي.

 

· خامساً: ضعف وانهيار القوى المعاونة:

إضافة إلى ما سبق ثمة إشكاليات أخرى تواجه الناتو تلك الممثلة في حكومة مركزية عاجزة عن حمايتها نفسها، فضلاً عن دعم مجهودات الناتو, بل هي بذاتها تحتاج إلى حمايته, وتفرض عليه مجهوداً إضافياً, وهو ما أكدته دراسة قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن، حيث تحدث التقرير الذي صدر في 23/2/2007م عن فقد حكومة كرزاي للتأييد الشعبي نظراً لفشلها في تنفيذ وعودها.

ويضاف إلى ذلك بطبيعة الحال البنية التحتية المحطمة التي تعيق بناء جيش أفغاني، والعداء الكامن في الشعب الأفغان ضد الأجنبي الذي يغزو بلادهم, وهو ما يقوّض أي جهود لبناء جيش داخلي يواجه طالبان، ويرفع العبء عن الناتو, أو على أقل تقدير يعطي الأمل لإمكانية تحقيق ذلك الحلم البعيد المنال.

استراتيجياً يمكن القول: إن الحلف وقع في مأزق شديد الخطورة, فهو لا يمكنه حسم المعركة بهذا العدد الضئيل من القوات, والتي هي مرشحة للنقص لا الزيادة بعد تلويح بعض الدول بالانسحاب بعد تعرض جنودها لعمليات هجومية من قبل طالبان، وزيادة الضغوط الداخلية المعارضة لهذه العملية هذا من ناحية, والأخرى أن الانسحاب الكلي يعنى بصورة جلية إعلان الهزيمة أمام طالبان, وتبعة هذا الفعل لا يمكن للحلف أن يتحملها على أية حال.

 

الآثار والتداعيات:

فشل حلف الناتو في أفغانستان سيترك عدة آثار سلبية لا تقتصر على مستقبل الحلف فقط وإنما ستمتد لتؤثر في عموم العمل الأوروبي المشترك, خاصة في مجال التدخل العسكري, وعلى علاقة الولايات بالمتحدة بأوروبا من جهة أخرى.

ففشل الناتو في مواجهة طالبان، وخسارته للمعركة مبكراً - على الأقل في المنظور الاستراتيجي -, مع تنامي الشعور المعارض للمغامرات العسكرية الخارجية، والتضحية بالجنود في نزاعات لا طائل من ورائها من زاوية الرأي العام، ستقوض إلى حد بعيد من قدرة الساسة في أوروبا على خوض معارك خارجية تحت مظلة الناتو ما دامت لا تشكل تهديداً مباشراً.

أما عن صورة التعاون مع الولايات المتحدة، والقيام بحرب وكالة لإنقاذ خطط الإدارة الأمريكية النازعة نحو الحسم بالآلة العسكرية بدعم أوروبي مباشر ظهر في العراق ومن بعدها أفغانستانº فهي لاشك ستأخذ في الأفول, وستحول دونها عوائق متعددة.

فالفشل في أفغانستان سيؤدي إلى رغبة في فك الارتباط المرهق والمكلف مع الولايات المتحدة, وربما تسعى أوروبا مجدداً إلى ممارسة أدوارها بعيداً عن دائرة النفوذ الأمريكي الذي يستغلها لصالحه، ويكلفها كثيراً دون فائدة محققة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply