من شامل إلى شامل: الشهادة طريق الشيشان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

'الشهادة والموت في سبيل الله' حلم كل مسلم نهج طريق الجهاد لإعلاء شأن أمته، ومن بين الأمم والجماعات تميزت الأمة المسلمة بأن قادتها دوماً كانوا في طليعة الراغبين في الشهادة العازفين عن الدنيا، غير أنه من بين شعوب الأمة المسلمة تميّز الشعب القوقازي بأن قادته دوماً كان يتحقق لهم حلمهم ليسطروا بذلك تاريخاً ناصعاً من الإيمان بالمبدأ حتى الموت في سبيله.

من يقرأ تاريخ الشيشان في صراعها مع الروس لا يستطيع أن ينسى في القديم الإمام منصور، والغازي مولا، والإمام حمزة، ثم الإمام شامل الذي وإن لم يمت شهيداً إلا إنه لم يلقِ السلاح حتى سقط أسيراً، وفي الحديث المعاصر لا نستطيع أن ننسى جوهر دوداييف، وأصلان مسخادوف، ويندراباييف، وسعيدولاييف، وأخيراً شامل باساييف، كل هؤلاء خضبوا بدمائهم أرض الشيشان رغم مغريات الدنيا التي عُرضت عليهم لو رضوا بالدنية.

 

الإمام شامل:

الإمام محمد شامل أشهر أبطال الشيشان في الصراع القديم مع الروس، يعده الشيشانيون بطلاً قومياً لما ألحقه بالروس من خسائر طوال تاريخ جهاده الذي امتد لخمسة وعشرين عاماً.

سقط أمام هجماته البارعة وخططه الماكرة عشرات الآلاف من الجنود الروس، حتى كتب أحد الجنرالات الروس في مذكراته معلقاً على ما يرى: 'يا لها من مصيبة مفجعة، إن الرجال الذين تناثرت أشلاؤهم هنا كان بمقدورهم فتح بلاد تمتد من اليابان في الشرق إلى أوكرانيا في الغرب'.

لا نهدف في هذا المقال إلى الترجمة لحياة الإمام شامل، ولكننا نبغي رصد المسافة بين شامل القديم وشامل الحديث، هذه المسافة التي تؤكد وجود تشابه كبير في صفات الرجلين، فشامل القديم اعتبره الباحث الفنلندي ليتزنجر في كتابه 'القوقاز.. تحالف غير مقدس' أقرب لنموذج من الرجال عاش لينفذ أوامر الله، منحته الصوفية - الصوفية هنا غير هذه الصوفية المخدرة للشعوب الآن - قدراً وافراً من ضبط النفس، والقدرة على التحليل والتعلم من الماضي، والاعتقاد بدور الكاريزما في تسيير الشعوب، واليقين بأن الإسلام دين فوق القوميات'.

هذه أهم صفات الإمام شامل، والتي سنرى أنها تتشابه مع شامل باساييف.

 

باساييف بطل الشيشان:

ولد شامل باساييف عام 1965 في قرية فيدينو الشيشانية لعائلة تميزت بانتهاج نهج الجهاد والدفاع عن الإسلام، سماه أبوه شامل تيمناً بأن يكون كالإمام شامل.

التحق شامل عام 1987 بمعهد الهندسة في موسكو, ولدى تخرجه التحق بالجيش السوفيتي السابق لأداء الخدمة العسكرية، عندما أعلنت الشيشان استقلالها في عام 1991 قام بتشكيل 'وحدات المجاهدين الخاصة' التي وجهها للنضال ضد المنظمات الروسية السرية والجيش الروسي.

مثله مثل الإمام شامل كان باساييف يؤمن بأن الإسلام دين يعلو فوق القومياتº فانضم إلى الوحدة العسكرية التابعة لكونفدرالية الشعوب القوقازية, وشارك في النضال ضد الروس في إقليم كاراباخ، وفي عام 1992 أصبح قائد الوحدات العسكرية التابعة للكونفدرالية، ودعم مع هذه الوحدات النضال الذي خاضته أبخازيا في العام نفسه من أجل استقلالها عن جورجيا, ولعب دوراً كبيراً في ذلك الاستقلال.

في عام 1994 توجّه إلى ولاية 'خوست' الأفغانية لمدة شهرين, ثم عاد إلى الشيشان من أجل الدفاع عن الرئيس السابق جوهر دوداييف إثر اندلاع الحرب في الشيشان، وفي ديسمبر 1994 أصبح باساييف قائداً لجبهة فيدينو عند دخول القوات الروسية إلى الشيشان، وكبّد القوات الروسية خسائر كبيرة دفعها إلى استهداف منزله فسقط 11 فرداً من عائلته شهداء.

وفي عام 1995 عندما كانت الأحداث كلها تصير في صالح موسكو، واعتقد الجميع أن المقاومة الشيشانية هُزمت أمام الدب الروسيº نفّذ باساييف عملية عسكرية نوعية بدأ يسطر بها اسمه في سجل الأبطال، ففي يونيو من عام 1995 احتجز باساييف ألفي شخص في مستشفى في مدينة بودينوفسك على بعد مئة كيلومتر من الحدود الشيشانية داخل الأراضي الروسية، وحينما حاول الجيش الروسي اقتحام المستشفي قُتل ما يزيد عن مئة شخص وجُرح مئات آخرون، وانتهى الأمر بخروج باساييف، وأن ترضخ موسكو لمطالب الشيشان، وينتبه العالم للقضية الشيشانية التي غلّفها النسيان، وطواها التواطؤ.

وفي أبريل 1996 انتُخب قائداً للقوات الشيشانية المسلحة، وأدار الهجمات الكبيرة التي استهدفت القوات الروسية في العاصمة عند نهاية الحرب الروسية - الشيشانية الأولى، ونجح في إجبار موسكو على فكّ حصارها عن العاصمة جروزني، ترقى باساييف في عدد من المناصب في عهد الرئيس الشيشاني السابق أصلان مسخادوف، حيث عُين رئيساً للوزراء, كما انتُخب رئيساً لكونغرس الشعبين الشيشاني والداغستاني.

في عام 1999 توجّه باساييف ورفاقه إلى داغستان لمساعدة أخوانه هناك، ومحاولة إنشاء جمهورية إسلامية، وهو ما يُعد تأكيداً على انتفاء البعد الإقليمي المحدود من تفكير باساييف.

تخصص باساييف في التخطيط للعمليات النوعية ذات البعد السياسي والإعلامي الكبير، من ذلك عملية احتجاز الرهائن في أحد المسارح الروسية في عام 2002، وعملية اغتيال الرئيس الشيشاني الموالي لموسكو 'أحمد قديروف'، وعملية مدرسة بيسلان، وغير ذلك من العمليات العسكرية التي أكدت أن المقاومة الشيشانية قوة جسورة نجحت في تركيع روسيا.

وبهذه العمليات العسكرية النوعية أعاد باساييف التذكير بالإمام شامل الذي استطاع في أربع سنوات إسقاط أكثر من عشرة آلاف جندي روسيº الأمر الذي يعيد التذكير بالتشابه الواضح بين الرجلين، خاصة وأن باساييف لم يُعرف عنه طوال حياته القصيرة [41 عاماً] سوى ضبط النفس، والحزم والثبات على المبدأ، وهي صفات ميّزت الإمام شامل.

 

ماذا بعد باساييف؟

لا يستطيع أحد أن يُنكر أن استشهاد شامل باساييف سوف يلقي بظلاله على مستقبل المقاومة الشيشانية، خاصة وأنه يأتي في وقت يكاد تختفي فيها أسماء القادة الشيشانيين الكبار، فلم يبقَ منهم سوى 'دوكو عمروف' الذي اختير رئيساً للشيشان خلفاً لعبد الحليم سعيدولاييف.

وبالتأكيد فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سوف يستقبل قادة الدول الثماني الصناعية الكبرى قريباً سوف يفتخر كثيراً باستشهاد باساييف بعد نجاحه في اغتيال مسخادوف وسعيدولاييف، وبالتأكيد سوف تعلن الإدارة الروسية انتهاء القضية الشيشانية في وقت صمتت الأجهزة الدولية على انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة هناك، إلا إنه على الرغم من ذلك فإن الناظر في تاريخ الشيشان يُدرك أن شعب القوقاز الذي تسابق قادته على الشهادة لم ينتهِ ولن ينتهي، وإذا كانت الأمة المسلمة عُرفت بأنه إذا استشهد منها بطل خلفه أبطال، فإن شعب القوقاز هو أوضح مثال على ذلك، وهو ما شهد به الكُتّاب الروس، يقول الكاتب الروسي [سولجنستين] والذي عاصر ما فعله 'ستالين' بالشيشان في معسكرات الإبعاد الجماعي: إن شيشانياً واحداً لم نره يخضع للحكم الروسي، بل إن الشيشان دائماً ما كانوا يُظهرون وبشجاعة عداءهم للروس.

ويصف المؤرخ الروسى كاسباريا شعب الشيشان فيقول: شعب الشيشان هم أكثر شعوب البلقان تمرداً ورفضاً للروس'.

ولقد سجّل النشيد الشيشاني الذي يحفظه الأطفال الصغار تلك الروح الأبية، ومن هذا النشيد ننقل تلك الأبيات التي تؤكد أن القضية الشيشانية لن تنتهي، ولعل ما ينتظر موسكو يفوق ما شهدته من قبل:

لقد ولدنا في جوف الليل والذئب يعوي

وفى الصباح وبينما الأسود تزمجر منحنا أسماءنا

* * * * * *

وفى أعشاش النسور أرضعتنا أمهاتنا

علّمنا آباؤنا.. ترويض فحول الخيل

تنصهر أحجار الجرانيت وتستحيل رصاصاً

قبل أن نفقد نبلنا والكفاح

* * * * * *

لن نخضع لأحد أبداً

الحرية أو الموت

الطريق الوحيد الذي اخترناه

* * * * * *

إذا نال منا الجوع.. أكلنا جذور النباتات

وإذا عطشنا شربنا من عصير الحشائش

لقد ولدنا في الليل والذئب يعوي

الله والأمة والوطن

لهم وهبنا أنفسنا

* * * * * *

لقد كبرنا أحراراً

وبجوارنا الصقور في الجبال

نتخطى الصعاب والعقبات بكرامة

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply