بسم الله الرحمن الرحيم
للتبشير وسائل كثيرة غامضة، وملتوية لكنها تتسرب تسرب الماء في التربة، وتسري سريان النار في الهشيم، كان ذلك في الزمن المتواضع في إمكاناته,,، ولعل أهم وسائله كان الإنسان المبشِّر,, الذي يعد إعداداً جيداً، عالي المستوى في كيفية السلوك الرحيم، والفهم للأدلة، والقوة في الحجة، والوضوح في الأسلوب، والقدرة على التَّحمٌّل، مع روح المبادرة، والقدرة على التغلغل في مختلف طبقات المرغوب في تبشيرهم، ومن ثم في تغريبهم من مساكين الأقوام، وفقرائهم و مرضاهم ، والمحتاج إلى قدراتهم من الأمم التي لا تتوافر لها الإمكانات، وتضيق بها الحاجة,,، وإن كان التبشير يشمل كافة الفئات وينفذ إلى التغريب فلقد كان هدف التغريب من الأقوام خاصتهم ومفكريهم ومثقفيهم وفنانيهم,, وكلاهما يفضي إلى الآخر,, أحدهما إن نجح تنصّر الناس، والثاني إن نجح تفرنج الناس.
أما الآن فالزمن غير متواضع، إنه زمن الترف والشعارات البرّاقة اللمّاعة المزخرفة اللدنة الناعمة,,، هذا الزمن المترف في تِقانة الاتصال ، والدعاية ، بل والغواية ، والجواذب على اختلاف أنماطها، وألوانها، وقواها,.
وكان هذا الباب دعوة وعملاً للدخول في كيان العالم الغربي، والإيمان بما يدين، وبقيمه، والانضمام إلى كنائسه وطقوسه، وتمجيد رموزه، ومن ثم تمجيد فكره والاعتقاد بسمو قيمه ومُثُله، والاعتداد بأسلوبه في المعيشة، ونمط سلوكه في الحياة، والنظر إليه على أنه الأكثر تحضراً بين الأمم,.
أما الآن فقد توسع هذا الباب بتوسع وسائل الولوج إليه، وحيث توسع الوعي بين الناس في العالم بتوسع العلم والتعليم والتوعية الشاملة وتغير نمطية الحياة والرقي الاقتصادي والصحي في المجتمعات البشرية فقد اتضحت الرؤية فيما يخص الجانب الديني من التبشير ولم يعد يخفى له أسلوب أو وسيلة، أما التغريب فهو يتغلغل بكل الوسائل حتى مع اللقمة والقطرة والكلمة والموسيقى والسفر والاستقرار إذ تملَّك المفاهيم، وتمكَّن من الإيمان المطلق والمسلَّم به بنجاح الرموز الغربية، على أنها في قوم يتربعون على قمة النجاح سواء المادي الذي يهيمن على العالم والإنسان فيه، أو التجاري والاجتماعي والعلمي، بل حتى على الصعيدين الفني والسياسي إذ إن الفن الوسيلة المبطنة للسياسة في شكله الأكثر جاذبية والأقدر في التأثير, وما تِقانة الاتصال التي انتشرت وربطت أجواء الأرض ببعضها، وقصَّرت الطرق، وقرّبت البعيد، وأنطقت الحديد، إلاّ أهمٌّ وسائل هذا الزمن المترف الذي تتحرك فيه كل الأشياء بأزرةٍ, بالغة الأناقة، شديدة الإغراء,.
الناس الآن في كل أنحاء العالم - غالبيتهم - مُبشَّرون مُغرَّبون,,، وهم يمارسون طقوسه بشكل وبآخر حتى وهم على أديان أهلهم، وفوق أراضيهم,,، والذي يعارضني هذا القول يرجع قليلاً إلى موقعه وموقفه من معطيات الحياة العصرية، ويجيب عن أسئلة مثل: ما هو اعتقادك فيمن هو الأقوى؟ أنت بهويّتك الدينية وبأحلامك الكثيرة والكبيرة أو القليلة والصغيرة، أم هُم، وبأنَّك عنهم متخلف وتتطلع إلى أن تواكب نجاحاتهم؟!,, ثم ألا تلمس انبهارك بكل أجنبي؟!، إلى: ما هو أنموذجك الفكري، وما هو نمط الحياة التي تحب أن تحياها؟ ماهي مظاهر سلوكك في حياتك اليومية؟! وأي الشخصيات الناجحة التي تتوسم فيها القدوة؟ كيف هو موقفك من التعليم والعمل بين قومك؟ وإلى ما تتطلع في هذا الأمر؟,, ثم أي البرامج تحب أن تشاهد أو تتابع؟ وأي الأفلام التي تستهويك، وأين تحب أن تمارس متعة الإجازة؟,, هل تحب أن تكون مراجعك الفكرية والثقافية غربية لأنك تثق في مصداقيتها؟ ولماذا؟، وإذا ما درست اللغات الأجنبية هل تحب أن تكون لسان تعبيرك الشفاهي أو الكتابي؟ أم تفضِّل لغتك الأساس، ولا تخجل عن استخدامها في كل محفل؟,.
هل لو كنت خارج بلادك في لقاء أصدقاء من غير قومك تنهض للصلاة في وقتها؟ وتحرص على معرفة هذا الوقت؟، ألم يراودك الشعور بالدونية في لحظة ما أمام أي أجنبي؟، ألم تحرص على أن تساير شخصيات من أولئك قُدّر لك أن جلست معها على طاولة حوار؟ ألم تشعر بالحرج عندما توضع في خندق أسئلة لا تقوى على الإجابة عنها حول الحدود مثلاً في دينك؟! وإن كنت رجل أعمال، أو أستاذ جامعة، أو طبيبا في مصحة، أو مفكراً، أي الأنظمة والأساليب والمراجع التي تحرص أن تبدو على صلة بها وتفاخر بذلك؟ عند استخدامك للوسائل المساعدة لك في عملك ألا تتحدث بفخر عمن أنجزها؟ عندما يطرأ حديث عن المنجزات العلمية ألا تتحسر أنك لست من أولئك القوم؟,, كل ذلك مع القدرة التامة على أن تفصل بين التأثر وبين الحياد والتجرد في الإجابة! وبعد، أليس الإجابة عن كل هذه الأسئلة وما شابهها تدلك فوراً على حقيقة تغريبك وبالتالي تؤكد تأثرك، ومن ثم انسلاخك,, بشكل أو بآخر,,؟
إن هذه الآثار السالبة تدفع إلى التفكير في أمور من أهمها: جهل الأجيال الحديثة بكثير، بل بمجمل أمورهم العقدية والفقهية، وجهلهم الكلي برموزهم التاريخية، وتقاعس القوم من حولهم في صنع النماذج القدوة، وعجزهم عن بناء فكر واضح مستقل لهم، ومواقف من الحياة ثابتة.
إن من يدرك ذلك، وينظر إليه بعين مجردة، وتقبٌّل حيادي وصادق، يدرك أن الزمن المترف بكل معطياته لابد أن يُستغل في الخروج من دوائر التغريب الطاحنة، ويقلب عليها ظهر المجن، وينطلق إلى ما فيه ترسيخ الشخصية الثابتة دون بلبلة، وارتباك، وضعف، وخور، أمام القويِّ فلم يَغدُ قوياً إلا باستخدام عقله الذي تعطل عند الآخرين، فصنع الأساليب والوسائل التي تسربت به وبكل ما عنده وفيه تسرب الماء في التربة، وسرت به وبما عنده مسرى النار في الهشيم,, فلتكن المنطلق الأساليب ذاتها، والاستفادة من معطياته فيما يحوِّل الضعيف إلى قوي، والعاجز إلى منتج، والمتأثر إلى مؤثر,, ولاسيما أن هناك قوة كبرى دافعة وحافزة ومعزِّزة هي قوة الإيمان
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد