خِيانة المثقّفين في السعوديّة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

أكلَة الجبناء المفضّلة هي الصّمت الذي يتدثّر بالحكمة، وحجّتهم المتهالكة في مواقف اللامبالاة هي فقدان الشّفافية الذي يقود إلى ضبابيَّة تدفع باتجاه التوقف في مِنطقةٍ, وسطٍ, بين الـ"مع" والـ"ضدّ" !

فالحقيقة عندهم يجب أن تكون دائماً مدعومة بشاهدين، ووضوحها يفقأ العين، متجاهلين علمهم بـ"حقيقة " دامغة لم يخفِها عن أعينهم رُكام الضّباب الذي يحتجّون به، ولم تحتج لشاهدين، ولا ليمين مُغَلّظة، تلك هي " حقيقة " فقدان الشّفافية !

الثقافة أيِّها المفكّر، وأيَّها المثقّف، وأيِّها الكاتبº معجونة بالنّضال شئت أم أبيت، يقول "مكسيم غوركي": " في أساس الفن يكمن نضال " مع " أو " ضدّ"، ولا يمكن أن يكون هناك فنّ لا مُبالٍ,º لأنّ الإنسان ليس آلة تصوير، بل هو يثبت الواقع ويؤكّده أو يغيِّره ويُحطِّمه".

يقول "برتولد بريخت" : " الحقيقة أمر حزبيّ  إنَّها لا تكافح الكذب فقط بل تُكافح أيضاً من ينشره ".

ما الذي جعل "إميل زولا" يتهم؟!

ما الذي جعل "نعوم تشومسكي" يحوّل اهتمامه من اللسّانيات إلى السّياسة؟

ما الذي جعل "بول فيندلي" يقف في وجه المجتمع الأمريكي ليصدر كتاب"من يجرؤ على الكلام" وهو الذي يعلم سيطرة اليمين المتصهين؟

ما الذي جعل "فرانسيس ستونر" تصدر كتابها الشهير " الحرب الباردة الثقافيّة " فاضحة رؤوساً ثقافيَّة كبرى، ومتّهمة إياها بالعمالة لجهاز الاستخبارات الأمريكيّة، رغم ما قد تقود إليه هذه الاتهامات من ملاحقات قانونية في مجتمع لا يسير فيه الفرد في الشارع دون أن يكون رقم محاميه الخاص في جيبه؟!

ما الذي جعل الراحل "إدوارد سعيد" يصف الكاتب بجريدة الشرق الأوسط "مأمون فندي" بالعميل، والبوق الذي يبرّر لليمين الأمريكيّ إمبرياليَّته ومخازيه، وغزواته الاستعماريّة؟

لا شيء دفعهم لهذا سوى " الضمير "، " الحقيقة "، " الوئام مع الأنا "، لم يخشَوا شيئاً، لم يخشَوا التصنيف، أو الحملات المكارثيَّة، أو العصا التي تلهب الظّهر لكنها لا تقطع اللّسان! التي قد تحني الظهر، لكنّها لا تحني " الحقيقة ".

السعوديَّة تواجه هجمة شرسة من الداخل والخارج دون أن يقف في وجه هذه الهجمة أحدٌ سوى ثُلَّة قليلة من المثقفين، والمفكّرين، والأدباء، والكُتَّاب، والمشايخ في حين فضَّل الكثير أكلة الجبناء المفضّلة.

في السعوديّة يملك الكثير من الكُتّاب، والمثقّفين، والمفكّرين المخزون الأعلى على مستوى العالم في الحجج والأسباب والدواعي التي تدفع باتجاه موقف اللامبالاة السلبي، ودونكم دواعي البعض منهم وتبريراتهم لعدم تصدّيهم لهجمة بُغاث الليبراليّة السعوديّة على مباني الوطن الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والتعليميّة:

• الخوف من التصنيف يأتي على رأسها وخصوصاً حين يُصنَّف المفكّر أو المثقّف أو الكاتب في خانة المتعاطفين مع التيَّار الدينيº فتلك شتيمة، وأيّ شتيمة أن يُوصف بأنَّه سلفِيّ إسلامويّ متديّن وغيرها من توصيفات الاستئصاليّين السعوديّين.

• الخوف على المكانة البورجوازيّة والشرفيَّة التي صنعتها مواقف مسالمة سابقة.

• الشعور بأنَّ المعركة المحتدمة بين الليبراليين والوطنّيين ( بما فيهم الإسلاميّين، أومن يحلو للبعض تسميتهم بـ " المطاوعة " ) هي معركة غير حقيقيَّة، ولهذا فهي لا تستحقّ عناء المشاركة فيها، أو التعليق عليها! رغم تقرير "راندل" الشهير بدعم إسلام علماني جديد ومستنير، ورغم تصريحات أساطين الخارجيّة الأمريكيّة بتغيير البنية الفكريّة والتعليميّة والاجتماعيّة السعوديّة، ورغم دعمهم المعلن لتوجهات علمانيَّة بعينها! لا شيء تحت الطاولة يا سادة.

• اليأس وفقدان الأمل بجدوى المقاومة يُغذّي هذا الشعورَ، الوضعُ البائسُ الذي ينخر فيه التخلّفُ والعنصريّة والمحسوبيَّة، وكأنّنا في مجتمع شرار الناس الذين لا تقوم القيامة إلا عليهم، ولسنا في مجتمع المقاومة والمدافعة على أرض لنا فيها مثل الذي لهم، وعلينا مثل الذي عليهم.

• الالتزام الفكريّ والكتابّي للمطبوعة، والذي يخشى البعض اهتزازه نتيجة الانحياز لطرف يقف أصحاب المطبوعة أو المشرفين عليها على النّقيض منه.

• هَوَس البعض بمخالفة الجماهير أياً كان موقفها، فلا تجتمع الجماهير - في فِقههم - إلا على ضلالة!! فخوف الجماهير على مكاسبها الوطنيَّة، وارتفاع أصواتها، وجأرها بالشكوى أمر غير مبّرر على الإطلاق، وغير عقلانّي، وغير تقدّميّ، وغير واعٍ, في عُرفهم.

• شعور البعض بأنَّ هذه الحرب هي حرب تقليديَّة يُستخدم فيها الدّين والوطنيَّة بطريقة غير أمينة، لكنّهم لا يحتجّون بذات الحجّة تجاه من يهاجم خطابنا الديني، ومبانينا التعليميّة والاجتماعيّة، ولا يذكرون شيئاً عن الانتهازيَّة الليبراليَّة غير الأمينة في اختيار هذا الوقت للنقد الذاتّي الذي يُخضِع كلّ شيء لمسامير ومطارق الاستنارة السعوديّة الجديدة، التي تأتي بالتزامن مع التهديدات الأمريكيّة لنا، أَنَقدٌ ذاتيٌ أمينٌ أتى صدفةً، وجيوش الأعداء على تخومنا؟!

• ولها علاقة بما قبلها: الخشية من الوَصم بعدم الوطنيَّة " سيف المنافقين المسلول "، وكأنَّ من سيصرخ بالحقيقة سيلقيها في وجه سلطان جائر لا في وجه أدعياء، ومرتزقة في ساحة ثقافيَّة مفتوحة للجميع!

• فقدان الجرأة والشجاعة في قول "الحقيقة" و" الحقيقة " - في الحقيقة - نوعان:

حقيقة ملائمة، وأخرى غير ملائمة، في السعوديّة لا يُفضِّل الأدباء، والمثقفون، والكُتَّاب النوع الثاني لما فيه من استحقاقات ثقيلة، ولما ينطوي عليه من حقائق عارية تبدو لأوّل وهلة ثوريَّة، والثوريَّة الثقافيَّة - القائمة على الحقائق غير الملائمة - تُثير الفزع والرّعدة في فرائص المسالمين، أما النوع الأول فكلهم يُحسنه بلا استثناء فكلّهم أبطال للحقيقة الملائمة.

• فقدان حسّ المبادرة في الوقوف ضد الاستئصاليَّة في بداياتها، والانتظار، والتردّد في مواجهتها حتى تقع الفأس في الرّأس، وهذا يحدث نتيجة عدم القراءة السليمة لتجارب الآخرين، وفِتنهم المجتمعيَّة، وعدم فهم آليات الطابور الخامس الاستئصاليّ ومن يقف خلفه.

جاء زلزال الحادي عشر من سبتمبر، وأتوقف هنا لأحكي لكم ما قاله لي أحد المفكّرين العرب قبل سنوات حين كنا نتحاور حول ما يجري في الجزائر الجريحة بعد أن أثار دهشتي تصريحٌ لأحد سَدَنة التيَّار الفرانكفوني في الجزائر يدعو فيه الجيش لقتل الثلاثة مليون نسمة الذين صوّتوا لجبهة الإنقاذ - هكذا!! - في الانتخابات الشهيرة التي انتهت بتدخّل الجيش، وقلب الطاولة الديموقراطية، وتمكين التيَّار الفرانكفوني المتفرنس!!

قال صاحبي: الاستئصاليون موجودون في كل مكان حتى عندكم في السعوديّة، لكنّ وقت بلوغهم لم يحن بعد، ولن يطلّوا حتى تطلّ الفتن، وسترى وتُنكر! وكما في الجزائر ستجد في السعوديّة من يغير ولاءاته كما يغيّر لباسه، ومن يلحق بالأغنى والأقوى والأكثر توفيراً للأمن الوظيفي، سيردّد بعض المفكّرين والمثقفين والكتاب السعوديّين ما يردّده الغزاة، وسيخلعون القفازات التي أنتنت ليضربوا بأيديهم العارية! انتظر الفتن وسترى.

هل حصل شيء آخر بعد الحادي عشر من سبتمبر خلاف ما قاله صاحبي؟!

ألم يهرول البعض إلى جرائد أعدائنا ينتقدنا فيها، ويستعدي علينا؟

ألم يسخر البعض من تديّن ومحافظة مجتمعنا؟

ألم تُخلع بعض اللّحى ويُلبس بدلاً عنها السموكن، ويُستبدل السّواك بالسّيجار الكوبي؟

ألم يدعُ البعض إلى عين ما دعا له "فريدمان" الصهيونّي من حتميّة تغيير بنيتنا الاجتماعيّة والفكريّة والدينيّة والتعليميّة؟

ألم يتباكى البعض مستنكراً على حكومتنا دعمها للمراكز الإسلاميّة في شرق الأرض وغربها، واصماً هذه المراكز بأنّها إشعاعات للفكر الوّهابي المتخلّف؟

ألم يُسخر من خيار الأغلبيَّة الديني وهابيةً كانت أو سلفيةً أو حنبليةً مرّة بدعوى مكافحة الإرهاب، وأخرى بدعوى تجفيف منابع التطرّف، وثالثة بدعوى مطاردة الفكر التكفيري؟

ألم يرسل البعض سهامه ضد المرأة السعوديّة المحافظة، وضدّ الحجاب الشرعيّ، وضدّ الفصل بين الجنسين؟

ألم ينفخ البعض في نار الاحتراب الداخليّ، والحلول الأمنيَّة العنيفة، مهاجمين كلّ دعوة صادقة لنزع فتيل القنابل البشريّة القابلة للانفجار في أيّ لحظة؟

بل ألم يقم بالأمس "فرعون" في مؤتمر الاستخفاف الذي أطلَّ منه على أهل المنهج المُعلن ليقول: "... مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غافر: من الآية29].

وهل كان سبيله المعلن غير الخفي سوى سبيل الإفك والزّور، والاتهامات الطائشة التي درج عليها كل الفراعنة قبله؟ والتي لم تجد من يدحضها رغم ركاكتها وسخافتها، لكنه الاستخفاف الذي وجد طاعة!

تقول صاحبة كتاب " الحرب الباردة الثقافيَّة " في معرض حديثها عن منظمة الحرية الثقافيَّة المملوكة بالكامل لجهاز الاستخبارات الأمريكيَّة: " كانت الغايات تبرر الوسائل حتى وإن كانت تتضمن الكذب ( مباشرة أو بالحذف ) على الزملاء، كانت الأخلاقيات تحت إمرة السّياسة، لقد خلطوا دورهم (تقصد المثقّفين المرتزقة) تابعوا أهدافهم باللّعب على حالة الناس الذهنيَّة، اختاروا تحريف الأشياء على نحو معيّن على أمل تحقيق نتيجة معيّنة، كان ينبغي أن يكون ذلك عمل السّياسيّين، أما واجب المثقّفين فكان ينبغي أن يكون هو فضح الاقتصاد الشديد الذي يُمارسه السياسيّ بالنسبة للحقيقة".

أرأيتم؟ السعوديّون ليسوا بِدعاً في هذا، هذا موجود دائماً، يدهشني جداً أن أجد في بني قومي من لا يزال -حتى اليوم - غير قادر على استيعاب أنّ مجتمعنا الثقافيّ والفكريّ السعوديّ ليس بمعزل عن نشأة العمالة والِخيانة والاستخذاء، وأنّ المجتمع الثقافّي السعوديّ ليس "شعب الله المختار"!! وأنّ أفراده لم يُخلقوا على صورة الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - أمانة وصدقاً، وشرفاً وغيرةً!! وأنّ ما يحصل عند غيرنا قد يحصل عندنا ما دام النفاق لم يمت، والكفر لم يندرس.

أتذكرون مرج أصحاب "تولستوي" الذين نصحهم " الحكيم " بجزّ العشب من جذوره بدلاً من قصقصة أوراقه، فالقصقصة - كما يقول - تدفع لنمو أكبر للعشب؟

لقد شتموه ونكّلوا به، ووصفوه بكل الأوصاف القبيحة، وروَّجوا عنه أنَّه يأمر - لا أنَّه ينصح - بجزّ العشب من جذوره  دون أن يذكروا النصيحة كاملة تامةً غير منقوصة " بدلاً من قصقصة أوراقه، فالقصقصة تدفع لنمو أكبر للعشب"تجاهلوها، أسقطوها، ماذا كانت النتيجة: مزيد من العشب، مزيد من القصقصة ومزيد من الخجل من قولة " لو "!

يجب أن يُبادر مفكرونا، ومثقفونا، وأدباؤنا، وكُتَّابنا إلى الوقوف ضدّ هذه الهجمة الشرسة حتى لا يأتي اليوم الذي نلوم فيه أنفسنا كما لام "جون شتاينبك" بني عصره حين لم يقفوا ضدّ المكارثيَّة الاستئصاليَّة في بداية عهدها حتى قويت شوكتها، واحتكرت الثّقافة، وأغلقت متجر الحريَّة محراب كلّ عمل أصيل ونافع، يجب ألا نُؤخذ بالدّعاوى التي تلبس لبوس الوطنيَّةº فالدّعاوى إن لم يُقيموا عليها بيِّناتٍ, أصحابها أدعياءُ.

وما أبلغ الوصف القرآني القائل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدُوا فِي الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِن لا يَشعُرُونَ)[البقرة:11و12]

لاحظوا، دققوا في قوله تعالى:"لا يشعرون"، إنَّ عدم شعورهم بفداحة ما يفعلون وفساده لم يجعلهم بمعزل عن الوصف بالإفساد!! قد لا يكونون من الملتزمين تنظيمياً كطابور خامس يقبض مالاً، لكنهم يؤدّون ذات الدور الذي يؤدّيه الطابور الخامس، أو هو ما يصفه أحد النقَّاد بالعلاقة الحتميَّة بين صاحب العمل ومَن يعمل لديه، والتي تكون فيها رغبات الأول متضمََّنة في أفعال الثاني.

سموه حُباً، أو تعاطفاً فكرياً، أو تقاطعاً للمصالح، سموه ما شئتم لكنّه في نهاية الأمر لا يعدو أن يكون"خِيانة". إسفيناً، عصا في عجلة الوطن.

إنَّ النفاق - سادتي - موجودٌ " دائماً "، والِخيانة - كما الأمانة - لها وارثوها منذ زمن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وزمن ابن سلول.

فليختر كلّ واحد منكم ما يمُليه عليه ضميره، خائناً أو أميناً، أو شيطاناً أخرسَ.

قال تعالى: (... وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَوماً غَيرَكُم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمثَالَكُم)[محمد: من الآية38]، ثم لا تكون ضمائرهم أمثال ضمائركم.

  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply