الثقافة العربية في مواجهة الهيمنة الأمريكية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 بعد استجابتها في المغرب العربي وبلاد الشام لدعاوى الفرانكفونية، واستجابة البعض الآخر في الوطن العربي للأنجلوساكسونية، هل تستطيع الثقافة العربية الصمود في مواجهة تيارات الأمركة الحديثة؟ والتي تأتي تحت عناوين العولمة، والنظام العالمي الجديد، وما تنادي به أمريكا من الانفتاح الثقافي، وهل تمتلك ثقافتنا العربية من عومل القوة الذاتية ما يمنحها القدرة على البقاء في مواجهة هذه التيارات الخارجية من جهة، ومواجهة المتأمركين ومتبني الثقافة الأمريكية من أبنائها من جهة أخرى؟ وذلك في ظل قوة الوارد الثقافي الذي تدعمه وسائل إعلام قوية تملكها أمريكا، وهل نمتلك بالفعل مشروعاً ثقافيّاً عربيّاً ينطلق من وحدة اللغة والتاريخ والدين نستطيع به محاورة الثقافات الأخرى دون خشية من عوامل التعرية الثقافية والتأثير والتأثر بين الثقافات؟ وما هي بنية المخطط الأمريكي لمحو الثقافة العربية لصالح سيادة الثقافة الأمريكية؟ وهل من سبل لمواجهة هذه التحديات؟ .. حول هذه التساؤلات وتلك المخاوف استضافت القاهرة مؤتمر اتحاد الكتاب العرب في الفترة من 9 - 12 ديسمبر الماضي بمشاركة لفيف من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب تحت عنوان "الثقافة العربية وأفاق المستقبل" متطرقاً لـ"كيفية مواجهة المخطط الأمريكي ضد الثقافة العربية"، وأيضاً العلاقة الجدلية بين المثقف العربي وبين السلطة والمجتمع.

 

محاولة للصمود

وأشار (فاروق حسني) وزير الثقافة المصري لدى افتتاحه المؤتمر إلى أن هذا التجمع هو إدراك لتأثير الثقافة في واقعنا، واستشراف لقدراتها في تعزيز أواصر التلاقي في مستقبل يرفع من شأن الثقافة كلغة لائقة لتفاهم الدول، آخذين في الاعتبار أن أي لقاء لجمع عربي معناه تحد لقوى تهدف إلى تفريقنا وتعمل على شرذمتنا.

ومن جانبه أكد (فاروق خورشيد) رئيس اتحاد كتاب مصر على أن هذا المؤتمر هو صورة من صور التحدي لأي قوى خارجية، وأن أي عدوان يقع على وطن من الأوطان العربية يعتبر تعدياً على الدول العربية جميعاً.

وطالب (علي فهمي خشيم) رئيس رابطة الكتاب الليبيين الأدباء والمثقفين العرب التكتل ضد أي تيار يأتي من الخارج، لأن ماضي العرب ماض جميل، وحاضرهم الآن يحمل معطيات خطيرة، ولذلك لابد من رفع الراية عالية ضد العيون الأجنبية المحدقة بنا، وهذه مسؤوليتنا جميعاً.

وأكد الدكتور (شوقي جلال) عضو اتحاد الكتاب المصري أن ما نسميه مخططاً أمريكيّاً ليس إلا مخطط لوضع بنية أساسية لما يسمى بالأنجلوساكسونية في منطقتنا العربية، ومضيفاً أننا كعرب تعاملنا مع أمريكا منذ استقلالنا من خلال منظور خاطيء، وتعامل الزعماء العرب من هذا المنطق، في حين أن أمريكا تنظر إلينا نظرة دونية بناء على ما قاله مفكروهم وأدباؤهم المتقدمون، حيث قال ألكسندر هاملتون في عام 1755م: إن الدول الصغيرة لا مكان لها، ويقصد بذلك الدول العربية، أما أوليفر ويلدن فيرى أن الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب.

ومن هنا فليس غريباً ما قاله فوكوياما: من أننا شعوب عشوائية، مؤكداً أن ما تفعله بنا أمريكا سببه الزعماء العرب.

 

إمبريالية صهيوأمريكية

ويؤكد (علي عقلة عرسان) أمين عام اتحاد الكتاب العرب على أننا في محنة سياسية تواجه في ظلها ثقافتنا تحديات كبيرة وخطيرة في الداخل والخارج لمعنى الوجود، وجوهر الثقافة وفعاليتها وقدرتها على التغيير والأداء والبناء في ظل احتلال صهيوني – أمريكي يتوسع في مساحات الأرض، والفكر، والإعلام منفذاً مرحلة في سلسلة تستهدف أشمل وأعمق للسياسة الثقافية والجغرافية السياسية في المنطقة العربية، وأمامنا محنة الشعب الفلسطيني من قتل، ودمار، وحصار أسوار الحقد التاريخي، والعزل العنصري، ويهودية الدولة المحتلة، وما ينشأ عن ذلك من تقسيم وضم للأرض، وتهويد للقدس، وتناسل لمشاريع من رحم شريرة واحدة تهدف إلى تصفية المقاومة والانتفاضة، وحق العودة، وصمود الإرادة الشعبية في ظل (فرجة) مبكية، وأمامنا أيضا احتلال أمريكي صهيوني بريطاني للعراق يؤسس لتغيير وجهه العربي، ومسؤولياته القومية، وجعله مرتكز انطلاق للهيمنة والتدخل في الشؤون السياسية والثقافية والتربوية للبداية العربية والإسلامية، ويهدد منه دول محددة تنفيذاً لبرنامج تدخل معلن، ويقيم قواعد عسكرية في أرضه، ويفرض عليه ولاءً للاستعمار والصهيونية، وقطيعة مع أمته ودولها إذا كانت مع التحرير والمقاومة وإرادة العيش الحر خارج حدود التبعية ترفض ما ترمى إلى فرضه الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها العضوي الكيان الصهيوني من شروط وحلول للصراع العربي الصهيوني وفق الرؤية الصهيونية على حساب العرب وحقوقهم التاريخية.

ويضيف عرسان أننا في مواجهة تهديد وحصار أمريكيين صهيونيين جديدين متوعدين لسورية، بدأ بالعدوان على عين الصاحب قرب دمشق، وإصدار ما يسمى بقانون محاسبة سورية على دعمها للمقاومة ضد الاحتلال التي يسميها العدو إرهاباً، ولعدم انصياعها للشروط والمطالب الأمريكية الصهيونية من جهة، وعلى موعد مع قانون أمريكي آخر لمحاسبة السعودية من جهة أخرى... والحبل على الجرار، ولا نرى نهاية لتلك المطالب الشريرة الصادرة من مركز الشر في العالم إلا في فرض تبعية وهيمنة شاملتين على أمتنا، والقضاء على معوقات السيادة، والاستقلال، والانتماء القومي، والهوية العربية والشخصية الثقافية، ومنظومات القيم الدينية وهذا ما لا يمكن قبوله أننا نتابع الخطط والبرامج العدوانية التي توضع لتدمير منظومات قيمنا، ومقومات هويتنا بذرائع شتى، ونعرف حجم المال الموظف، والطاقات البشرية المستقطبة والمستخدمة لتحقيق ذلك، ونرى ما ينصب على الثقافة العربية والمقومات الرئيسة للهوية والشخصية من تشويه واتهام ومحاولات تخريب.

 

يريدوننا مستسلمين

ويؤكد أمين اتحاد الكتاب أن مشكلتنا في عدو اليوم المنقض علينا (بعته) القوة أنه يدعى الحضارة ويتهمنا بالعداء لها، وأنه لا يحاورنا وإنما يملي علينا شروطاً، ويريد أن يمحونا ليعيد تكويننا على شاكلته، وأننا بنظره لا يجوز لنا أن نرفض منة الاستعمار و(الشراكة) التي يقدمها لنا، وليس لنا سوى الخضوع لشروطه، والتنازل عن مقومات وجودنا وهويتنا وشخصيتنا الثقافية ومصالحنا، وعندنا نرفض أن نفعل ذلك يرشقنا مباشرة بالصواريخ، ويهددنا بالإبادة انطلاقاً من قواعد سقيمة يضعها يزدريها العقل وتزري بالعقل مثل: (من ليس معنا فهو ضدنا)، ومن لا يخضع لإرادتنا سوف نحرره من نفسه بالتبعية والموت.. هذا هو منطق الرئيس الأمريكي جورج بوش وحليفه (رجل السلام) أرئيل شارون.

 

المثقف والسلطة والمجتمع

وعن العلاقة بين المثقف والمجتمع (السلطة ) قال الكاتب والناقد (فاروق عبد الله) عضو اتحاد الكتاب المصري: إن العدل المطلق غير كائن على وجه الأرضº لذا فإن هناك دائماً فجوات داخل المنظومة التشريعية داخل الدولة ذاتها تتسع وتضيق طبقاً للمصلحة التي تحميها، وأوضح مثالاً على ذلك هو الكم الهائل من القوانيين التي تلغيها المحكمة الدستورية في مصر لمخالفتها للدستور حتى أن قانوناً مثل قانون الأحوال الشخصية قد ألغى عدة مرات بسبب مخالفته للشريعة والدستور، وقانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة الذي ألغي عقب شهور قليلة من إصداره لمخالفته لبعض قواعد الدستور، كل تلك الأحكام هي من مفاخر ومآثر المحكمة الدستورية العليا في مصر التي وقفت وتقف في وجه السلطة لتنهاها عما ارتكبته من هفوات وزلات، ولتعلن بوضوح أن لا أحد يعلو على الدستور، ويوضح (فاروق عبد الله) تباين القانون في معاملته للأدباء، وتفاوته في شدته أو سخائه تبعاً لاقتراب الأديب من السلطة أو ابتعاده عنهاº فإذا ما اقترب أغدقت بحسناتها عليه، وأغمضت عينيها عن سيئاته، أما إذا ابتعد فالويل والثبور وعظائم الأمور، بل لقد تمادت فئة المقربين في أحيان كثيرة فدافعت عن السلطة ظالمة أو مظلومة حتى أصبحت أحد أطرافها الطويلة التي تؤدب بهـا المارقين والمبعديــن، وتطالب السلطات بعقابهم وتشريدهم، وتسفيههم لما يكتبون، وأقاموا من أنفسهم حراساً على الأبواب حتى إنهم لا دخلوا ولا تركوا الآخرين يدخلون، بل زايدوا على السلطة ذاتها فأصبحوا (ملكيين أكثر من الملك).

 

كبت الحريات

ويؤكد (فاروق عبد الله) أن دساتيرنا زينت عباراتها بالدرر التي تمجد حرية الرأي والفكر والإبداع، وردت كمثال في المواد 47 و48 و49 من الدستور المصري التي تنص على كفالة الدولة لحرية التعبيرº بينما نجد قانون العقوبات المصري قد أفرد باباً كاملاً من أبوابه وهو الباب الرابع عشر من الكتاب الثاني فصل بعنوان ( الجنح التي تقع بواسطة الصحف وغيرها ) ثلاثون مادة من رقم (171) حتى رقم (201) كلها وضعت في عهود سحيقة سبقت صدور الدستور الحالي احتوت تلك المواد على كل ما يمكن أن يقوله الإنسان من أقوال، أو يرتكبه من أفعال في تعبيره عن رأيه يمكن لها إذا ما توسعنا في تفسيراتها أن توقعنا تحت طائلة قانون العقاب، من بين تلك المحرمات (التحريض) على قلب نظام الحكم, وترويج المذاهب الهدامة، والكتابة أو الصور المنافية للآداب ) وغيرها، الكثير وأخطر ما في هذه النصوص عدم دقة تحديد مفاهيمهاº فغير واضح حتى الآن مفهوم الآداب العامة أو المذاهب الهدامة، أو الإساءة إلى السلطات فكلها قد اختلف فيها الفقهاء، وتباينت تبعاً لذلك أحكام القضاء بشأن المسألة الواحدة، فنجد بعض المحاكم تشدد العقوبة، وبعضها يحكم بالبراءة، وكل حسب فهمه وتقديره لمعنى النصوص الغامضة، لذا فقد ارتفعت الأصوات في الآونة الأخيرة في محاولة لإلغائها، أو على الأقل حصر نطاقها بتحديد مفهومها الذي سوف يبقى ويظل كامناً في ضمير القاضي كما قد استقر المعنى في بطن الشاعر.

ولسنا هنا في مجال المفاضلة ما بين النظم التشريعية المختلفة لدولنا العربية التي تتوجس خيفة من الكلمة فتحيطها بالسلاسل والقيودº فتلك مهمة نتركها لأصحابها لكننا نضرب لها الأمثال لنلفت من خلالها أنظار كتابنا العرب للمزيد من الترابط والتلاحم فيما بينهم واتفاقهم على كلمة سواء تضمن لهم قدراً ملائماً من حرية الحركة والتعبير دون شطط أو جموح، ولن يأتي ذلك إلا من خلال اتحاداتهم وتنظيماتهم النقابية التي ينبغي لها أن تتمتع بقدر عالٍ, من الحرية والاستقلال عن السلطة لتتمكن من أداء رسالتها في حماية أفرادها على الوجه الأكمل احتراماً للشرعية، وتطبيقاً للقانون والدستور.

 

ضمير المثقف وعدوانية السلطة

أما الكاتب السوري (سهيل عروسي) فيرى أن الظروف التي تمر بها الأمة العربية، وسيادة مفهوم الدولة القطريةº تجعلنا لا نطلب من المثقف العربي أن يكون خارج تلك الظروف ومفاهيمها، بل عليه أن يندمج فيها من أجل تفكيكها من داخل منظومتها (وإن كان هناك من دعا إلى الطلاق البائن بينونة كبرى بين المثقف والسياسي... وهناك أيضاً من طالب أن تبقى الواو قائمة بين المثقف والسلطة).

ويؤكد العروسي أن المثقف إذا رفض طريق التبعية للسلطة فإنها تعتبره منافساً لها، فتسعى إلى محاربته بشتى الوسائل، وفي عصر الإعلام لجأت السلطة إلى جر الثقافة إلى حقل الإعلام بغية القضاء على الثقافة كحامل الأيدولوجيا المعارضة والجماهير عن طريق تفكيك عناصرها وشرذمتها وتوزيعها الإعلامي، وهناك إجماع على أن المثقفين ( يشعرون بالخط المزدوج من الإعلام المحلي الذي لا يلبي الطموح ومن الإعلام العالمي إعلام التوجيه والتسلط الذي يقوم على الثقافة المضادة، ويريد تدجين الشعوب وإعاقة تقدمها.

لقد خصصت ميزانية الإعلام الأمريكي (23) مليار دولار للسيطرة على هؤلاء الذين رفضوا الأفكار المطروحة للنظام العالمي الجديدº فهل ينجح هؤلاء في إحكام السيطرة على العالم وشعوبه، أم يستفيق العالم من غفوته، وتقف أنظمته الوطنية في مواجهة الغزو؟.

 

ثورة ضد الغزو

ويختتم العروسي حديثة قائلاً: إن بعض الدراسات تتنبأ بثورة ضد الغزو يشارك فيها كل المثقفين لكن ذلك يتطلب في أبسط متطلباته موقفاً دفاعيّاً شعبيّاً، وموقفاً وطنيّاً تعمل فيه السلطات على دعم الثقافة والإعلام والاقتصاد، وهذا لن يتحقق إلا بتكامل سلطة وثقافة السلطة تكاملاً عضويّاً وبما يؤدي إلى رفاهية المجتمع، وتحقيق العدل والمساواة.

ويوضح الأديب الأردني (يوسف ضمرة) عضو رابطة الكتاب الأردنيين أننا لا نستطيع الحديث عن إصلاح السياسات الثقافية لتصحيح العلاقة بين المبدع والسلطة في ظل استمرار سياسة عامة تعمل على تحديد الحريات وتعريفها، وتسويق مفهومها باعتباره مفهوما أزليّاً وأبديّاً ثابتاً.

ولا نستطيع أيضاً الحديث عن علاقة صحية بين المبدع والسلطة في ظل تعارض لا مفر منه بين رؤية مادية ضيقة للحياة تتكىء على رؤية سابقة، وبين رؤية أكثر شمولاً وإنسانية.

ولا نستطيع الحديث فيما ينبغي له أن يكون في الوقت الذي ندرك أن كل ما في الدولة هو ملك للسلطة بأشكالها المتعددة، وأن المؤسسة الأمنية في الوطن العربي مازالت صاحبة اليد الطولى وذات القرار فيما هو نافع أو ضار.

ويؤكد (يوسف ضمرة) على أن العلاقة بين المبدع العربي والسلطة ستظل علاقة متوترة قائمة على الحذر والتربص على الرغم ما قد يبدو أحياناً من تحديث في السياسات الثقافية فهو تحديث لا يعدو كونه تعبيراً عن احتقانات سياسية واقتصادية تبرز بين حين وآخر.

وينهي ضمرة كلامه متسائلاً: إلى أي مدى يمكن للمبدع العربي الاستفادة من هامش الحرية الذي يضيق ويتسع تبعاً لرؤية السلطة واحتياجاتها؟ والى أي حد يستطيع المبدع العربي أن يؤثر في حجم هذا الهامش؟؟.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply