بسم الله الرحمن الرحيم
أخذ من سمّوا بالمصلحين في كل البلاد الإسلامية يدعون دعوات متشابهة، عمادها أن تأخذ شعوبها من المدنية الغربية ما يناسب، وأن يأخذوا من المدنية الإسلامية ما يناسب.. وكانت خلاصة رأيهم "أن عقدة العقد في موقف المسلمين اليوم هي التوفيق بين المدنية الغربية والمبادئ الإسلامية. غير أن المسلمين لحسن الحظ ليسوا مخيرين بين التمسك بدينهم وبين اعتناق الحضارة الغربية. فخير للعالم الإسلامي اليوم أن يأخذ من المدنية الغربية كل علمها وتجاربها في الصناعة والزراعة والتجارة والطب والهندسة وسائر العلوم، من غير قيد ولا شرط، ثم يحتفظ مع ذلك بروحانيته التي يلوّن بها هذا العلم، فتجعله موجها في البشرية لا لغلو ّفي كسب مال، ولا لإفراط في نعيم، ولا للقوة والغلبة، ولكن للخير العام. وهذا هو المبدأ الذي يضيء للمسلمين الطريق، ويبدّد حيرتهم، ويحل الكثير من مشاكلهم. فدينهم الإسلامي لا يمنعهم أيّ منع من ذلك، بل إن الإسلام حث على طلب العلم ولو في الصين، ولا شيء يمنعهم من ذلك إلا تمسكهم بالتقاليد الموروثة، وتقديسهم للعادات المألوفة، ودينهم براء من ذلك... وإنما بزّت أوربا الشرق المسلم في مضمار الحضارة لا لأنها مسيحية، وإنما لعنايتها بتطوير العلوم وإهمال المسلمين لها. وليس في الإقبال على التعليم من الغرب من بأس، ولا هو مدعاة للخجل، فإنما كان الفضل في نهضة العلوم في أوربا راجعًا إلى استفادتها من النقل عن المسلمين الذين عنوا بالحفاظ على تراث الإغريق وتطويره وتنميته ".
هكذا كانت دعوة هؤلاء "المصلحين ". وهي دعوة أيدها المستعمرون وأبهجتهم، خاصة إن صدرت عن رجال الدين البارزين من أمثال الشيخ محمد عبده، إذ رأوها في مجملها دعوة مقنعة إلى التغريب. والذي نتج عن هذه الدعوة هو ما كان متوقعاً منها º فتحت الباب على مصراعيه أمام الاقتباس من مدنية الغرب دون حرج، في حين أغفل الشطر الثاني وكأنما لم يورده الدعاة إلا من قبيل التمويه والنفاق وتسهيل الأمر. وإنه لمن الشائق حقًا أن نقرأ في العدد الأول من مجلة "العروة الوثقى " تحديدًا لأهداف المجلة، ومن بينها " 0000 3- الدعوة إلى التمسك بمبادئ السلف المماثلة في واقع الحال لمبادئ الدول الأجنبية القوية المتقدمة!".
فهنا إذن إحساس بتفوق الغرب، وإدراك لضرورة الدفاع، واعتراف بصحة الأسس التي تقوم عليها حضارة الدول الأوربية تضمّنته الإشارة إلى الشبه بينها وبين مبادئ الإسلام، وهو أكثر صنوف الإطراء والمديح إخلاصًا. وقد شكا المبشرون المسيحيون من أن هؤلاء المصلحين الإسلامين إنما يتبنّون الأفكار والقيم المسيحية، ويسعون إلى تشييد صرح إسلام جديد "مسيحي ". غير أن الواقع أنهم لم يتبنوا القيم المسيحية، وانما نسبوا إلى الإسلام القيم الليبرالية الإنسانية البورجوازية التي عمّت أوربا خلال القرن التاسع عشر، وهي قيم غير مشتقة عن المسيحية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد