تناقض دعاوى الشرق الأوسط الكبير والجديد


بسم الله الرحمن الرحيم

 

منذ بداية ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الثانية، وتولي كونداليزا رايس وزارة الخارجية، بدأت الإدارة الأمريكية الحديث عن الشرق الأوسط الكبير، والإصلاحات الديمقراطية من خلال تغيير الديكتاتوريات القائمة، وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان.

 

وكانت خطة واشنطن هي توسيع نطاق الشرق الأوسط ليشمل تركيا، على أن يمثل سلوك تركيا الديني النموذج الذي يجب أن يحتذى في المنطقة.

 

وإذا كان مشروع الشرق الأوسط الكبير يدلس علينا بالديمقراطية والانتخابات الحرة، فإن ما حدث في أعقاب ذلك كان فضيحة للمخططات الأمريكية الكاذبة، لأن الانتخابات الحرة والديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط أفسحت المجال للحركات الإسلامية للخروج إلى السطح والأخذ بزمام الأمور، وهذا تم ترجمته في الانتخابات الفلسطينية والمصرية وفي العراق ولبنان والمغرب.

 

وكان المثال الأوضح في هذه التجارب فوز حماس في الانتخابات التشريعية واستلامها مقاليد الحكم والسياسة، الأمر الذي رفضته واشنطن وتل أبيب بذريعة أن حماس منظمة 'إرهابية'. وانهارت الشعارات الكبيرة أيضاً عندما اكتشف العالم أن الولايات المتحدة التي تتغنى بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان تمارس سياسة البطش والعنف والتعذيب في معتقلات أبو غريب وغوانتانامو وغيرها من المعتقلات السرية، التي اكتشفها الغربيون أنفسهم.

 

إذاً هناك تناقض كبير بين الأقوال والأفعال وبين المطالبات والممارسات في القاموس السياسي الأميركي. كما أن العالم لا يزال ينتقد سياسة المعايير المزدوجة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وممارساتها العدوانية على جيرانها ورفضها للشرعية الدولية في الأمور السياسية والإنسانية.

 

وبالتالي سقط مشروع الشرق الأوسط الكبير وسقطت شعاراته، ليس بسبب الأطراف الأخرى المستهدفة من المشروع وإنما بسبب التخبط السياسي الأميركي وقصر النظر المستمر تجاه منطقة الشرق الأوسط، والمشاريع السياسية غير الجادة التي تطرحها لتمرير الوقت وإعطاء إسرائيل الوقت الكافي لتنفيذ مشاريعها سواء في أوقات السلم أو أثناء الحرب.

 

ومن الطريف أن إسرائيل، بهذا الدعم الأمريكي الكبير، تشن الحرب الإجرامية الراهنة ضد النظام الأكثر ديمقراطية وليبرالية في المنطقة، أو ربما النظام الليبرالي الوحيد في العالم العربي في الوقت الحالي. وهذا يكشف الكذب والزيف الأمريكي، إذ إنهم يدّعون إنهم يريدون إنشاء شرق أوسط على أساس ديمقراطي، بينما هم يدمرون النظم الديمقراطية القائمة، ويدعمون ويحمون النظم القمعية الاستبدادية.

 

ومن عجائب سياسة الرئيس الأمريكي بوش الابن هو اعتقاد إدارته بأن منطقة الشرق الأوسط لا يمكن دمجها في الديمقراطية والنظام السياسي الجديد في العالم إلا عبر تفجيرها بالحروب والمواجهات وتغييب الحلول الدبلوماسية والسياسية عنها.

 

وما صرّحت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قبل أيام حين شددت على أن ما يجري في لبنان هو مخاض لولادة شرق أوسط جديد هو أكبر دليل على ذلك.

 

تغير في المسميات فقط

والآن تغير التخطيط الأمريكي كلياً، وتم استبدال كلمة الكبير بـ الجديد، والحرب علي التطرف بالحرب علي الإرهاب، وتأكد الجميع أن مشروع الشرق الأوسط الجديد لا جديد فيه إلا إنقاذ إسرائيل من محنتها الحالية في لبنان وفلسطين.

 

 فما تريد واشنطن تحقيقه من مشروع الشرق الأوسط الجديد هو تصفية تدرجية للمقاومة الإسلامية في لبنان وما لهذا الأمر من تداعيات سلبية على المقاومة في فلسطين، بالتوازي مع إنهاء ملف الأسرى اللبناني ومزارع شبعا لإخراج لبنان تدريجياً من دائرة الصراع العربي - الإسرائيلي. وأيضاً استكمال المشروع الإسرائيلي في فلسطين تحت عنوان 'انسحاب أحادي الجانب' وفرضه على السلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية بشكل تدريجي أيضاً، وبدء عملية التطبيع بين العرب وإسرائيل.

وحسب التخطيط الأمريكي، فإن هذا المشروع المشبوه يفترض أن يقام فوق الأشلاء والأنقاض التي تناثرت في لبنان وغزة، وبعد القضاء على حزب الله [بنزع سلاحه] وإسقاط حكومة حركة حماس.

أي أنها المرحلة التي تختفي فيها المقاومة من العالم العربي، وتطوي صفحة الممانعة فيه، سواء للاحتلال الإسرائيلي أو للهيمنة الأميركية.

 

فشل منتظر

مبادرة الشرق الأوسط الجديد محكوم عليها بالفشل والموت مثل سابقتها عن الشرق الأوسط الكبير لأن الطرف الذي أطلقها مجروح وفاقد للمصداقية، فالولايات المتحدة ليست منحازة لإسرائيل فحسب، وإنما هي أيضا خصم وشريك في القتال ضد العرب، فالفتك الإسرائيلي بلبنان وقطاع غزة تم بموافقة أميركية وبغطاء من جانب واشنطن يعطي كل الفرص الممكنة لإسرائيل كي تحقق أهدافها. كما أن السلاح المستخدم في قتل العرب قدمته الولايات المتحدة.

 

فالحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان حاليا تبدو أميركية أكثر منها إسرائيلية أو على الأقل حرباً أميركية - إسرائيلية مشتركة. فدور الولايات المتحدة فيها لم يقتصر على منح الضوء الأخضر لها، وإنما كان دور المحرض عليها، والراعي لها، والملتزم بتهيئة المسرح العالمي والإقليمي الداعم لها والضامن لتحقيق النتائج المرجوة منها. ولم يسبق أن اختلط الدور الأميركي بالدور الإسرائيلي في حرب مفتوحة ضد دولة عربية بمثل هذا القدر من الوضوح في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي.

وهذا كله يقطع بأن المشروع المنتظر لا يستهدف سوي التمكين لإسرائيل في العالم العربي.

وفكرة المشروع تتسم بالتسطيح الشديد، فهو لا يعالج جوهر المشكلة، وإنما يتعامل مع بعض نتائجها وتداعياتها، إذ لم يشر مطلقاً إلى الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، من ثم فان غايته معروفة سلفا، ولن تخرج عن إطار التمكين لإسرائيل، وبالتالي فلن يحظى بالقبول وسيواجه مصاعب تؤدي إلى فشله.

 

وغير خاف أن الأمريكان والصهاينة يخطئون حينما يتصورون أن المشكلة هي حزب الله وحماس، فإذا ما تم القضاء عليهما واقتلاعهما فإن الأمور سوف تستقيم بعد ذلك، لصالح واشنطن وتل أبيب، وهم لا يدركون أنهما يمثلان استجابة طبيعية لظرف تاريخي تمر به المنطقة. بمعني أنهما يعبران عن حقيقة راسخة في العالم العربي، ترفض الاحتلال وما يصاحبه من إذلال وقهر، وتصر على مقاومته بكل السبل.

كما أن إدارة بوش حين تطرح مشروعها في ظل كل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل وفي أجواء الغضب المتأجج الذي يجتاح العالم العربي والإسلامي، إنما تسبب حرجاً بالغا لأصدقائها في المنطقة، الذين سوف يخافون من تصاعد الغضب في الشارع العربي، ولن يتحمسوا لهذا المشروع المشبوه.

 

الشرق الأوسط الذي يريدونه

رايس ورئيسها والإدارة الأمريكية الراهنة عموما، لم تأت للشرق الأوسط بغير الحروب والدمار، وبدأ ذلك بتشجيع إسرائيل علي شن حرب مدمرة ضد الشعب الفلسطيني لإخماد انتفاضته منذ عام2000، بطريقة هدم المنازل والقصف العشوائي للأحياء السكنية، ثم تلتها بحملة جوية لا يمكن وصفها بالرحمة ضد كابول وأفغانستان عموما. أما النجاح الأكبر في التدمير فكان في العراق، حيث صارت بغداد وبقية المدن العراقية في الوسط والجنوب خرابات حقيقية، وتم تمزيق العراق وتقطيعه إلي أشلاء. وسريعا ما عاد البيت الأبيض إلي التركيز علي استكمال ما قامت به إسرائيل تقليديا بتدمير ما بقي من المدن الفلسطينية، بقدر أشد من القسوة. والآن تتم أيضا عملية تدمير المدنية اللبنانية.

 

إن رايس تقصد بالشرق الأوسط الجديد، أن يكون منطقة بدون أدني مقاومة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، أي منطقة بدون الحركة الوطنية في فلسطين المحتلة، وبدون حزب الله وبقية قوي المقاومة اللبنانية، وبدون سوريا، وبدون إيران، وبدون أي أطروحة مقاومة أو تيار سياسي قادر علي النضال الفعال، منطقة لا توجد فيها أدني إعاقة للمصالح الخارجية الأمريكية، ولما يسمي بإسرائيل الكبري.

إن الشرق الأوسط الجديد التي تسعى لبنائه الولايات المتحدة تحدد معالمه وترسم حدوده وسائل التدمير الإسرائيلية، ويتم رسم مشاهده الإنسانية على شاكلة سجن غواتنامو وأبو غريب. ويكون أمنه هو أمن إسرائيل أولاً وأخيراً، وسيطرتها العسكرية وتفوقها العسكري وضربها عرض الحائط كل القرارات الدولية المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط، وعدوانها المتواصل على الشعب العربي الفلسطيني، واحتفاظها بترسانة نووية خارج نطاق الرقابة الدولية.

 

فأي شرق أوسط جديد والولايات المتحدة الأمريكية تحتل المنطقة بكاملها بجيوشها الموجودة والمحمولة في عرض البحار، وقواعدها العسكرية في المنطقة، واحتلالها المفتوح للعراق، فيما يدفع من ثروات الشعوب ثمن هذه الحماية غير المرغوب فيها؟.

 

المقاومة سد منيع

إننا نؤكد أن حركات المقاومة في العالم العربي هي التي ستلعب الدور الأكبر في تحديد هوية المنطقة في الفترة المقبلة. وربما تؤدي الفوضى الدموية التي يفرضها الصهاينة والأمريكان على المنطقة إلى عودة التـــطرف بكل أنواعه وأشكاله، وتوحـــد جمـــيع قواه، الإسلامية والقومـــية، في مواجـــهة التـــحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ العربي الجديد.

 

فحركات المقاومة العربية عزلت النظام الرسمي العربي خارج جهود التحرير والتصدي للأعداء، وأثبتت أن الشعوب قد تولت أمورها بيدها ولم تعد تؤمن بقدرات أنظمتها السياسية بعد أن أخذتها من فشل إلى فشل ومن تنازل إلى تنازل، وسارت في الخط الذي رسمته الولايات المتحدة والدولة الصهيونية.

إن المشروع الاستعماري ابتداء من مشروع هرتزل- بلفور في فلسطين إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير، لم يصل إلى تحقيق أهدافه، لأن الشعوب العربية رغم ما تعانيه من ضعف وفرقة، ورغم تخاذل النظام الرسمي العربي عن المضي في طريق التحرير، قد تصدت لهذه المشروعات وأفشلتها.

 

أسلوب المقاومة الشعبية في التصدي للمشروع الصهيوني الغربي، هو أنجح الوسائل لتوجيه ضربات عربية قاصمة لهذا المشروع دونما حاجة لتورط الدول العربية في مواجهة تخشاها.

 

ولقد برهن تاريخ الصراع أن إسرائيل تتلقي دائما الضربات الموجعة من منظمات المقاومة، بدءً من مجموعات المقاومة التي قادها البطل أحمد عبد العزيز، وصولاً إلى منظمات المقاومة الفلسطينية رغم ضعف إمكاناتها، بينما كان النظام الرسمي العربي بعيداً تماما عن أي إسهام في هذا القبيل.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply