حكاية مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط


بسم الله الرحمن الرحيم

محاولات أوروبا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ليست بجديدة، فقد عملت على حل النزاع العربي الإسرائيلي غير مرة، ولأسباب نذكرها لاحقاًº إذ تعود الرغبة الأوروبية لحل النزاع العربي - الإسرائيلي إلى عام 1991م حين تمكنت الحكومة الإسبانية من جمع العرب وإسرائيل على طاولة واحدة للمرة الأولى، وقد اعتبر كثير من المتابعين أن ذلك اللقاء هو الذي ساهم في إطلاق العملية اللاحقة في أوسلو التي أدت إلى قيام الدولة الفلسطينية.

وفي نفس الاتجاه، وبمناسبة مرور (15) عاماً على مؤتمر "مدريد للسلام في الشرق الأوسط"º فقد انعقد في مدريد مؤخراً - وعلى مدار ثلاثة أيام - مؤتمر دعا إليه مركز (توليدو) الدولي للسلام والمعهد الثقافي، وقد شارك في المؤتمر الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، ورئيس مجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن حمد العطية، ومبعوث الأمين العام لتنفيذ القرار 1559 (تيري رود لارسن)، ومفوضة العلاقات الخارجية وسياسة الجوار الأوروبية (بينيتا فيريروفالدنر)، كما شارك في المؤتمر - وبصفة شخصية وبموافقة حكومية - الناطقة باسم سوريا في مؤتمر مدريد بشرى كنفاني، ومدير الدائرة القانونية في وزارة الخارجية رياض الداودي، وقد شملت قائمة المشاركين الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل، ووزير خارجية مصر السابق أحمد ماهر، والمستشار السياسي للرئيس المصري أسامة الباز، ومحمد دحلان، ومصطفى البرغوثي، وحنان عشراوي، وبين أعضاء الوفد الإسرائيلي وزير الخارجية الأسبق (شلومو بن عامي)، ورئيس الاستخبارات العسكرية السابق (أوري ساغي)، هذا بجانب وجود مسؤولين روس، ودوليين، وأوروبيين، وأمريكيين وخبراء أمثال مدير قسم الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية (روبرت مالي)، ومدير قسم التخطيط السابق في الخارجية الأمريكية (سام لويس).

وقد حملت كلمات وزير خارجية إسبانيا (ميغل انخل موراتينوس) دلالات واضحة، وخصوصاً أنه مبعوث سابق للسلام في الشرق الأوسطº إذ قال: "إن أي حل يجب أن يذهب أبعد من "خريطة الطريق" التي تجاوزها الزمن، وأن يشمل كل القوى الإقليمية"، وقد كانت دعت كل من فرنسا واسبانيا وايطاليا إلى دور أوروبي أكبر في إنهاء النزاع.

 

لماذا تقف أوروبا وراء هذا المؤتمر؟

تحاول الدول الأوربية بكل ما أوتيت من قوة السيطرة على الوضع القائم في الشرق الأوسط، أو أن تصبح لاعباً مهماً فيه، وذلك لأسباب حيوية واستراتجية.

تعلم الدول الأوروبية أن الوضع في الشرق الأوسط وصل إلى قمته في التأزم، وأنه قد يخرج عن السيطرة في أي لحظة، وبالتالي سيكون الوبال على الجميع، فأوروبا التي اعترضت على غزو الولايات المتحدة للعراق تشعر بقلق من الوضع الذي صارت إليه الأمورº إذ إن التقارير تشير إلى أن الخلاف السني الشيعي وصل إلى قمته في المنطقة، كما أن النفوذ الإيراني بلغ حداً قد يخرج إيران عن السيطرة، أو يشعل حرباًُ إقليمية جديدة، وهو ما نراه من تكثيف أوروبي واضح في المنطقة والذي ظهر مع قدوم قوات دولية إلى لبنان، وفي رأيي أن الاتحاد الأوروبي يرغب في عدم توتير الوضع في الشرق الأوسط من خلال دفع المسارات العالقة بين العرب وإسرائيل إلى الإمام وذلك عبر دعم مثل هذه المؤتمرات، والسبب بحسب ما أرى يعود للأمور التالية:

1- تتخوف من تصدير الصراع في الشرق الأوسط إلى أراضي الاتحاد، وهذا وارد جداً لوجود عدد كبير من المسلمين سنة وشيعة، عرب وغير عرب على أراضيها وبكثافة عالية نسبياًº إذ يزيد عدد المسلمين على أراضي الاتحاد عن 17مليون نسمة، كما أن إطلال أكثر من دولة محورية من دول الاتحاد على البحر المتوسط يشكل هاجساً دائماً للمعنيين بمستقبل الاتحاد من أي تدهور أمني في المنطقة العربية، أو دول الشرق الأوسطº حيث سيكون الاتحاد من أكثر المناطق استهدافاً وهذا ما لا يريده.

2- يريد الاتحاد الأوروبي الحد من الهجرة الشرعية وغير الشرعية القادمة من دول المغرب العربي والشرق الأوسط، والتي تشكل تهديداً حقيقياً على المدى البعيد على دول الاتحاد، هذا التهديد المتمثل في التغير الديموغرافي والديني والعرقي لدول أوروبا.

3- الحد من العمالة الشرق أوسطية التي تدفقت بشكل هائل خلال العقدين الأخيرين على دول أوروبا الغربية، وفتح الأبواب أمام العمالة من دول أوروبا الشرقية التي تتداخل حدودها مع الدول الأوروبية الغنية، وذلك في سبيل تحصين الاتحاد من الداخل على كافة الصعد.

4- للاتحاد الأوروبي مصالح حيوية واستراتيجية في منطقة ودول الشرق الأوسط لأهميتها الاستراتجية والنفطية على مستقبل الاتحاد، وبالتالي يريد أن يكون له دور مؤثر وفاعل، وهو ينافس بشدة الوجود الأمريكي في المنطقة، ويحاول الحد منهº إذ يجعله رهينة لموقفه، كما حصل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبروز الولايات المتحدة الدول الأقوى في العالم، والتي حاولت أن تحرك المجتمع الدولي بما يتفق مع مصالحها وتوجهات إدارات البيت الأبيض الدينية المتعاقبة.

5- تعلم كل من الصين وروسيا ودول الاتحاد والولايات المتحدة أن من يستطيع أن يسيطر على دول الشرق الأوسط هو من سيقود العالم في النصف الأول من هذا القرن لأهمية المنطقة، وأن نفوذ أي دولة عالمياً مرتبط بمدى نفوذها على هذه المنطقة، وها نحن نرى تنافساً أمريكياً روسياً أوروبياً إسرائيلياً وحتى صينياً على هذه المنطقة، إضافة إلى بعض المناطق في إفريقية، وإن كان النفوذ الصيني يتمثل بطرق غير ملحوظة.

6- التصعيد الخطير في المنطقة، وخصوصاً مع التدخل الأمريكي المباشر في الصومال الذي سوّغه الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية (توم كيسي) بقوله: "نعتقد أن الأمر ملائم للدفاع عن الولايات المتحدة، وحماية كل المجتمع الدوليº لأن إرهاب القاعدة والمرتبطين بها يستهدف فقط الولايات المتحدة"، وكانت دول الاتحاد الأوروبي - لاسيما فرنسا وايطاليا والنرويج وألمانيا - انتقدت إلى جانب الجامعة العربية والأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) العمليات العسكرية الأمريكية في الصومال، حتى إن الناطق باسم الخارجية الفرنسية (ماتيي) قال عنها: "تثير قلقناº لأنها تعقّد الوضع في الصومال، وقد تزيد التوترات الحادة أصلاً في هذا البلد"، كما هو معلوم انتقادات شيراك اللاذعة لسياسات بوش في العراق معتبراً إياها حولت العراق إلى منطقة توتر واستقطاب للقاعدة وغيرها ممن يشكلون تهديداً عالمياً.

هذه الهواجس وغيرها هي التي تجعل دول أوروبا معنية بحل ما في الشرق الأوسط يحصن جبهتها الداخلية من أي خلل، ويضمن مصالحها الحيوية داخل المنطقة، ولذلك تسعى دول الاتحاد أن تكون أكثر اعتدالاً وتوازناً من الولايات المتحدة التي تميل بشكل كلي لصالح إسرائيل في الصراع العربي – الإسرائيلي، وهذا يعود لعدة أسبابº فدول الاتحاد تعلم أن وقوفها لجانب العرب - نوعاً ما - في الصراع يساعدها على التغلغل أكثر، ويسترجع لها بعض نفوذها، وهي بالتالي لا تريد أن تكون الدفة تميل بالكلية لصالح الولايات المتحدة أم غيرها في المنطقة على حساب مصالحها.

من هنا نرى ونفهم مدى اهتمام الاتحاد الأوروبي بالصراع الدائر في الشرق الأوسط، والعمل على الحد من التوتر القائم فيه ليس حباً بالعرب والمنطقة بقدر ما هو تخوّف من انعكاس ذلك على مصالحها فيه من جهة، وعلى أمنها الداخلي من جهة أخرى، وبناء عليه نستطيع أن نفهم مبادرة السلام التي تقدمت أسبانيا بها.

 

هل حقق المؤتمر الهدف الذي من أجله أُقيم؟

من الظلم أن يُقارن المؤتمر الحالي بسلفه في عام 1991م، خصوصاً أن المؤتمر الحالي لا يتوفر فيه ولا يوجد فيه كبار اللاعبين السياسيين الذين كانوا آنذاك، أو من خلفهم في مناصبهم، على الرغم من أن أسبانيا تلقي بثقلها في إنجاح المؤتمر.

يقول الخبير في الشرق الأوسط والمدير المساعد لمعهد دراسات النزاعات والتحرك الإنساني (خيسوس نونيز فالفيردي) إنه "من الصعب أن يكون المرء متفائلاً بأن تكون هناك نتائج مباشرة للمؤتمر، فمن غير المرجح أن نتمكن من تبديد موجات القلق في المنطقة حالياً"، وأقر (اميليو كاسينيللو) - وهو مدير مجموعة (توليد للسلام)، وهي إحدى الجماعات التي نظّمت المؤتمر 0 أن "هناك اختلافات لا يمكن إنكارها بين الأحزاب ذات الصلة بالنزاع في الشرق الأوسط، ولكن يمكن تجاوزها".

في حين يرى المفكر السياسي والوزير اللبناني السابق غسان سلامة أن خمس نقاط برزت خلال الاجتماع سجلت تطوراً في الذهنيات، وستُنقل إلى الأطراف المعنية وهي:

1. التركيز مجدداً على الحل الشامل، على عكس مؤتمر مدريد الأول الذي كانت تدفع فيه الولايات المتحدة وإسرائيل إلى الاتفاقات الثنائية التي لم تضف شيئاً للسلام في المنطقة.

2. اعتقاد المشاركين - وخصوصاً الطرف الأوروبي - أن الانسحاب الإسرائيلي من البلدان المحتلة ينبغي أن يُتّفق عليه ولا تكون من جانب واحد كما حصل في غزة وجنوب لبنان.

3. الموقف الرافض للدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة.

4. التأفف من اللجنة الرباعية الدولية المتلكئة في ممارسة دورها.

5. أهمية البحث في ملفات أسلحة الدمار الشمل في المنطقة حتى لا تتكرر ذريعة الولايات المتحدة في احتلال بلد كما حصل مع العراق.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply