المناخ الدولي والإقليمي والشرق الأوسط الجديد


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ودع العالم القرن العشرين وسنواته الأخيرة مثقلة بأنواع التحولات في الدول والأحلاف، فقد شهدت السنوات العشر الأخيرة سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه، وتبع ذلك تفكك المعسكر الشرقي وحلف وارسو، وبذلك توقفت الحرب الباردة، فإذا بالولايات المتحدة الأمريكية تطل برأسها ساعية للاستئثار بالقرار الدولي من خلال ما أطلقت عليه "النظام العالمي الجديد"، ومن خلال ذلك عملت وتعمل أمريكا لتكون المرجعية البديلة عن هيئة الأمم المتحدة.

وشهدت هذه الحقبة بدايات نهوض الاتحادات القارية كالاتحاد الأوروبي، ودول شرقي آسيا، وهذا أزعج الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترغب بظهور قوة عالمية تنازعها القرار، ولعل ما حدث أثناء التفاوض لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في شهر نيسان (أبريل) 1996 يشكل دليلاً واضحاً على هذا التنازع، حيث عمل وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر وبشراكة إسرائيلية لتعطيل فعل مساعي دوشاريت وزير الخارجية الفرنسي وبريماكوف الروسي ووزيرة خارجية إيطاليا أنيللي التي جاءت تمثل الاتحاد الأوروبي.

السنوات الأخيرة من القرن العشرين شهدت تضعضعاً في النظام العربي حيث المنازعات العربية - العربية، وكان أبرزها ما خلفه الاجتياح العراقي للكويت، هذا بالإضافة إلى الحوادث الداخلية في مصر والجزائر ولبنان، والحركات الانفصالية في جنوبي السودان وشمالي العراق.

هذا الواقع ترافق معه اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والعدو الإسرائيلي، ومن ثم لاحقاً وبعد مدريد اتفاقية "أوسلو" مع أبي عمار، ووادي عربة مع الأردن، هذه الوقائع أسهمت في تراجع دور جامعة الدول العربية، وفي تدني الإمكانات العربية في رد ومواجهة التحديات على الأمة سواء التحدي الإسرائيلي ببعديه التوسعي والتقسيمي، أو التحديات الإقليمية كمشكلات المياه والجزر، أو التحديات الدولية وفي مقدمتها التحدي الأمريكي بقواعده وأساطيله وأطروحته في النظام العالمي الجديد من خلال مشروع حلف الشرق الأوسط وهو المشروع المشترك الأمريكي الإسرائيلي الاستعماري والتوسعي.

 

الولايات المتحدة الأمريكية وحاجتها للشرق أوسطية:

إذا كان الاتحاد السوفيتي السابق قد انهار بفعل عوامل متعددة أبرزها عداء النهج السوفياتي للدين والقومية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني في ميادين عديدة اجتماعية واقتصادية تهدد كيانها، فالمجتمع الأمريكي يعاني من نتائج التميز العرقي الذي يخلف مع تعدد المذاهب والجماعات بنية المجتمع ووحدته، يضاف إلى ذلك مظاهر الفساد من الشذوذ إلى الأمراض وأشكال الانحراف وصولاً إلى إحصاءات نشروها تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية التي يسكنها ما بين 4 إلى 5 بالمئة من سكان المعمورة تستهلك 50 بالمئة من المخدرات المنتجة في العالم.

ومجتمع الولايات المتحدة الأمريكية والأرقام من أوائل التسعينات ينتشر فيها بين أيدي المواطنين 120 مليون بندقية و60 مليون مسدس، ويذهب فيها نتيجة جرائم ثأرية 19000 قتيل سنوياً [1].

والاقتصاد الأمريكي مثقل بالديون والأعباء، والعجز يزداد عندهم عاماً بعد عام، ولعله من المفيد لفهم مقدار الأزمة الاقتصادية الأمريكية أن نورد هذا الكلام من كتاب بول كنيدي: "الاستعداد للقرن الحادي والعشرين" الذي تمّ تأليفه عام 1992º وفيه:

"تبلغ دفعات الفوائد على الدين القومي 300 مليون دولار سنوياً وتشكل 15% من المصاريف الحكومية، وكما لاحظ المحرر الاقتصادي لجريدة (وول ستريت جورنال) تتجاوز دفعات الفوائد الآن كل المبالغ التي تدفعها الحكومة على الصحة والعلم والقضاء والزراعة والإسكان وحماية البيئة والإدارة العدلية، بالطبع لا يحتمل أن تزداد هذه المصاريف على حساب نفقات حكومية أخرى فحسب ولكن دفعات الفوائد تذهب عادة إلى مالكي السندات الحكومية الأجانب مما يؤدي إلى نقصان الثروة الأمريكية أكثر فأكثر.

لم يكن الدين القومي هو الوحيد الذي تضخّم في الثمانينات بل وكل شيء آخر من الدين، فمنذ عام 1986 بدأت حكومات الولايات والحكومات المحلية تعاني عجزاً، ولقد فاقم هذا الاتجاه تقليص المنح الفيدرالية، أما ديون المستهلكين التي حفزتها القروض السهلة فقد وصلت إلى 4 تريليون دولار، بينما قلّصت الدفعات على القروض المداخيل الفردية، وكان دين الشركات المساهمة أكثر سوءاً، فحالما بدأت فترة التسعينات ذهب حوالي 90% من مجمل دخل الشركات المساهمة الأمريكية بعد دفع الضرائب لدفع الفوائد على ديونها"[2].

إن الأزمات والإشكالات التي يعاني منها مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية تدفع قادة أمريكا إلى البحث عن مصادر للثروة ينهبونها ويصادرونها ليحلوا بها أزماتهم، كما أنهم يعملون من خلال تفجير التناقضات، وتكبير دورهم خارج حدودهم على نزع فتيل النزاعات والانقسامات المجتمعية الحادة داخل بلادهم.

إن الأطماع الاستعمارية مع التزامهم المشروع الصهيوني بالإضافة إلى أزماتهم التي ألمحنا لبعضها كلها عوامل أوصلتهم إلى طرح مشروع الشرق أوسطية كمشروع حلف جديد يكرر نماذج أحلاف طرحوها سابقاً كحلف بغداد وسواه.

 

العدو الإسرائيلي وحاجته لحلف الشرق الأوسط:

اقترب عمر احتلال العدو الإسرائيلي لفلسطين من النصف قرن، وعمر احتلاله لأراضٍ, أخرى كالجولان السورية ومزارع بلدة شبعا اللبنانية عن ربع قرن بقليل، ومع ذلك نجد أن هذا الكيان الإسرائيلي الذي يتكون من خليط سكاني تعود أصوله لقوميات عديدة لا يزال يعاني من مشكلات عديدة.

إن يهوداً الذين يدّعون حقاً تاريخياً في فلسطين لا تربطهم بفلسطين أية صلة، ويهود الذين يزعمون أنهم من أصول سامية أتت الوقائع لتظهر تهافت مزاعمهم هذه، إن يهود العالم تعود أصول أغلبيتهم الساحقة إلى أصول خزرية، وقد تهّود أغلب سكان مملكة الخزر (قزوين) بعد تهود ملكهم "بولان" في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي.

يقول المسعودي عن مملكة بحر الخزر (قزوين): "فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه، وكان تهوّد ملك الخزر في خلافة هارون الرشيد، وقد انضاف إليه خلق من اليهود وردوا عليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم"[3].

وتفيد دراسات معاصرة عديدة منها دراسة بنيامين فريدمان أن 92% من يهود العالم خزريون، يقول: "إن من يزعمون أنفسهم يهوداً، المتحدرين تاريخياً من سلالة الخزر، يشكلون أكثر من 92 بالمئة من جميع من يسمون أنفسهم يهوداً في كل مكان من العالم اليوم، والخزر الآسيويون الذين أنشأوا مملكة الخزر في أوروبا الشرقية أصبحوا يسمون أنفسهم يهوداً بالتحول والاعتناق سنة 720 م، وهؤلاء لم تطأ أقدام أجدادهم قط الأرض المقدسة في تاريخ العهد القديم"[4].

وبولان Bulan الخزري الذي تهود مع معظم سكان مملكته ما بين عام 720 م و740 م، لم تلبث مملكته أن تفككت وزالت من الخريطة السياسية في القرن الثالث عشر الميلادي، وتوزع سكانها في أوروبا الشرقية ومنها إلى مناطق أخرى من العالم، يقول آرثر كيستلر:

"والواقع أن موضوع الجدل هو مصير الخزر اليهود بعد تدمير إمبراطوريتهم في القرن الثالث عشر، والمصادر شحيحة عن هذه المسألة، وإن ورد ذكر بعض مستوطنات الخزر في القرم وأوكرانيا والمجر وبولندة وليتوانيا، وتكشف الصورة العامة التي تنبثق من هذه المعلومات المتناثرة عن هجرة قبائل وجماعات خزرية إلى تلك الأقاليم الواقعة في شرق أوروبا، ولا سيما روسيا وبولندة، حيث وجدت في فجر العصر الحديث أكبر تجمعات من اليهود، الأمر الذي دفع كثيرين من المؤرخين إلى الحدس بأن جزءاً هاماً أو قل غالبية من اليهود الشرقيين (أعني من شرق أوروبا) وبالتالي يهود العالم، ربما كانوا أصلاً من الخزر لا من أصل سامي" [5].

إذا كان يهود العالم من هذه الأصول الخزرية - كما تبيّن - فالسؤال: لماذا لم يدَّعوا حقاً في وطن قومي يهودي في منطقة بحر قزوين موطنهم الأصلي؟ وما الرابط بينهم وبين فلسطين؟ هذا الأمر يظهر لنا الهدف الاستعماري المتخفي وراء يهود والصهيونية.

ويهود الذين وفدوا مغتصبين مستوطنين في فلسطين المحتلة منهم الأشكناز وهم من أصول ألمانية - أوروبية وهؤلاء يشكلون الطبقة أو الفئة التي تتولى أغلب السلطات والمواقع القيادية، ومن المغتصبين يهود السفاردييم وهؤلاء سكنوا أسبانيا (الأندلس سابقاً) وما حولها ويشكلون غالبية في فلسطين المحتلة بعد قيام دولة العدو لكن نفوذهم أقل من نفوذ الأشكناز.

ومن يهود دولة العدو يهود الفلاشا الوافدون من أثيوبيا، هذا بالإضافة إلى يهود كانوا في بعض الأقطار العربية، ومع الإشارة أن الأشكناز والسفاردييم جاءوا من أمم عديدة وبلغات وانتماءات قومية متنوعة، هذا الانقسام في مجتمع الكيان العدو حادّ حيث نجد من بيده النفوذ كالأشكنازيين، ومَن يعاملون كالعبيد ويقيمون في مخيمات رديئة الخدمات كالفلاشا.

وهناك انقسام آخر عندهم هو الانقسام الديني ما بين فريق يرى أن إقامة الدولة واعتماد القدس عاصمة لها يكون على يد المسيح الموعود ويجب انتظاره، ومنهم السامريون، وما بين انقسامات أخرى في النظرة إلى المعاد الأخروي وهل هو على الأرض، كما يعتقد الصدوقيون مثلاً.

والانقسام الثالث بينهم هو في المشروع السياسي حيث يرى فريق منهم (الليكود) بأن التوسع يكون بالمحافظة على الأرض المحتلة، وإضافة أراضٍ, لها عند الاقتدار والسيطرة على مزيد من الشعب العربي، وفريق آخر (العمل) يرى أن التوسع يكون من خلال الاجتياح للمنظومة الحضارية العربية وذلك في ميادين الاقتصاد والثقافة والإعلام... إلخ.

الإشارة إلى هذه الانقسامات في مجتمع دولة العدو الإسرائيلي تدلّل على الأزمات التي يعانون منها، ولذلك يكون توجيه الأنظار إلى الخارج، وممارسة الاجتياحات النارية بالسلاح أو الاجتياحات الاقتصادية والثقافية حاجة إسرائيلية من باب الهروب إلى الأمام، حتى لا تتفجر الصراعات الداخلية عندهم والتي ظهرت بوادرها الأولى في عملية اغتيال رئيس وزرائهم إسحاق رابين.

 

والعدو الإسرائيلي عنده أشكال أخرى من المعاناة هي:

1 ـ لا تزال دولة إسرائيل تعتمد في ميزانيتها على الدعم الأمريكي والغربي بشكل رئيسي، وبذلك يكون وضعها المالي غير مستقر ومهدد عند توقف المساعدات، لهذا يستعجلون قيام سوق الشرق الأوسط ظناً منهم أنها ستوفر لهم استثمارات وموارد تلغي حاجتهم المالية لأمريكا والغرب.

 

2 ـ هجر يهود دولة العدو "الغيتوات" في مواطنهم الأصلية ليعيشوا جميعاً في غيتو اسمه دولة إسرائيل لأن المحيط العربي تفصله عنهم حواجز نفسية إضافة إلى تحفز للتحرير، ويظن الإسرائيليون واهمين أن توقيع صلح مع بعض المسؤولين قد يلغي عزلتهم والتجربة أثبتت عكس ذلك، لأن العربي يرى فيهم - وهو محق - مغتصبين للأرض والمقدسات، وقتلة للإنسان مجرمين، وعنصريين مستعمرين، فهم أعداء وجود لا أعداء حدود.

 

3 ـ تعاني دولة العدو في الجانب السكاني، فالمعلوم أنهم لم يستطيعوا استيعاب الزيادة السكانية في الأراضي التي اغتصبوها في عام 1967م، كما أن الأرض التي اغتصبوها عام 1948م من المتوقع حتى عام 2025 م أن يصبح فيها السكان العرب بنسبة 50% كحد أدنى، لذلك يعمد العدو الإسرائيلي إلى التهجير، والى تحقيق التفوق العسكري ليحكم بالحديد والنار.

 

4 ـ رغم مرور قرابة نصف قرن من الزمن على قيام دولة العدو في فلسطين المحتلة لم يتمكن من صياغة مجتمع مدني منسجم أو بلغته لم يتمكن من تطبيع العلاقات بين يهود المتعددي الانتماءات والأجناس، وهذا مؤشر على أنه لن يستطيع العيش مع سكان المنطقة العرب، فالجسم الدخيل لا يمكن أن ينصهر مع محيط مخالف له لا بل معادٍ,.

إن الوقائع التي تمّ استعراضها تندرج في باب تبيان حاجة العدو الإسرائيلي لمشروع حلف الشرق الأوسط، ولتوقيع مصالحات لسلام مزعوم مع المحيط العربي، أو إجراء معاهدات مع حالات إقليمية كما جرى مع تركيا كل ذلك لأن الحالة لم تعد تحتمل عند الإسرائيليين أن يبقى وضعهم على ما هو عليه.

 

العرب وخطر حلف "الشرق الأوسط":

إن الأمة العربية تعاني من جملة تحديات خارجية إقليمية ودولية، ومن تحديات داخلية تجعل قدرة الأمة - خاصة في الجانب الرسمي الحكومي - ضعيفة في ردع هذه التحديات، فعلى الصعيد الداخلي يشكل التخلف، وعدم إطلاق مشروعات التنمية بالشكل الكافيº قيداً في يد الأمة مضافاً إليه نسبة الأمية المرتفعة، والهوة الشاسعة التي تفصل بين الحكومات والشعوب بسبب مشكلة الحرية.

إن ضعف بنيان الحياة الديمقراطية والحريات العامة في أغلب الأقطار العربية شكّل ويشكل معوّقاً رئيساً في طريق إطلاق الطاقات باتجاه صنع التقدم والازدهار.

ومن المشكلات الداخلية تلك الأحداث والفتن التي ترتدي الطابع الديني أو العرقي والتي تهدد الوحدة الوطنية، وتضيّع طاقات كثيرة في مواجهات ليست في موقعها المطلوب.

أما التحديات الإقليمية فأولها الاحتلال الصهيوني الذي يحمل مشروعاً استعمارياً توسعياً لا يقف عند حدود التوسع الجغرافي، وإنما يشن الإسرائيليون غارات متنوعة لاجتياح الأمة العربية، والقضاء على مرتكزاتها الحضارية وجوداً ومصيراً، إضافة إلى حراسة التجزئة، ومنع وحدة الأمة، مع إجبارها على الإنفاق العسكري منذ ما يزيد عن نصف قرن.

وهناك التحديات على تخوم الأمة منها: التحدي التركي من خلال عضويته في حلف الأطلسي، وتحالفه مع دولة إسرائيل العدوة، وإشكالية المياه مع سوريا والعراق، والتحدي الإيراني في مسألة جزر الإمارات العربية المتحدة التي يحتلونها منذ حكم الشاه عام 1971م، وتحدي النزاع على الخليج العربي والموقع والدور الإقليمي، وهنالك التحدي الأثيوبي الذي يقوم في مسألتين: مياه النيل، ومساعي إقامة السدود عليها لمنعها عن السودان ومصر، ومسألة الاتفاقات الزراعية وسواها مع دولة إسرائيل، وعلى الصعيد الدولي التحدي الأخطر يأتي من الاستفراد الأمريكي، وعمله للقطبية الواحدة في القرار الدولي هذا مع النهب للثروات، والوجود العسكري المباشر الذي يضع قيوداً قاسية على حرية الأمة في بناء تقدمها، وتنظيم هيكلياتها، وفي تأسيس علاقاتها الدولية.

إن حلف الشرق الأوسط أكثر خطراً من حلف بغداد في الخمسينات، والتسليم به تسليم بتبعية الأمة لحلف أمريكي - إسرائيلي يستهدف ضرب هوية الأمة في العروبة والإسلام، وهذا أمر مطروح بشكل وقح من قبل رئيس وزراء العدو شمعون بيريز الذي نادى بتحويل جامعة الدول العربية إلى جامعة للشرق الأوسط ليتسنى لهم ولتركيا ولدول أخرى دخولها، كل ذلك لنسف وجود الأمة، والقضاء على هويتها العربية - الإسلامية.

هذا العدوان الذي يتسلل ليفرض الاستسلام على الأمة بلداً بعد آخر تحت شعار سلام مزعوم، يحصل بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتوقف الحرب الباردة، وبذلك تكون معظم الدول العربية قد خسرت مصادر التسليح وقطع الغيار لعتادها العسكري، والولايات المتحدة الأمريكية وشريكتها إسرائيل تطالبان بتقليص الطاقة العسكرية العربية، وفك الاستنفار الذي مضى عليه ما يربو على نصف قرن، وما ذلك إلاّ لتبقى إسرائيل القوة الوحيدة المتفوقة في المنطقة.

هذا الواقع العسكري العربي الصعب بفعل الافتقار لمصادر التسليح، وعدم إطلاق مشروع بناء القوة الذاتية العربية بالشكل الكافي، لا يخلو من إيجابيات، ومن مقومات تؤهل قدرات الأمة العسكرية للانطلاق، وأترك للواء طلعت مسلم أمر عرض هذا الواقع بحكم اختصاصه وخبرته، فهو يقول:

"تودع الأمة العربية نهاية القرن العشرين وتستقبل مطلع القرن التالي وهي في أوضاع دفاعية تتّسم بسمات سلبية كثيرة أهمها تجميد معاهدة الدفاع المشترك، وعدم وجود بديل منها، وبالإضافة إلى ما سبق نجد اندلاع حروب أهلية في أكثر من مكان داخل الوطن، وحظراً تسليحياً عاماً وخاصاً يحصر الأسلحة العربية في حدود معينة لا تقابلها حدود مماثلة لمصادر التهديد المحتملة، وأوضاعاً اقتصادية وتخلفاً علمياً وتعليمياً وصناعياً وتقنياً لا يخدم الأمن الدفاعي العربي.

وبالتالي فإن ميزان القوة العسكرية والقدرة الدفاعية في المنطقة يشير إلى تفوق العناصر غير العربية على القوة العربية، ويجعل الوطن مكشوفاً للتهديدات الخارجية، ورغم قتامة الصورة فإن الأوضاع الدفاعية العربية لا تخلو من بعض النقاط المضيئة التي نتجت من ثمار فترة سعت فيها الأمة وواكبتها الحكومات إلى بناء قوة دفاعية فاعلة فاكتسبت الخبرات في ميادين القتال، وتمرّست في استخدام كثير من معدات القتال والأسلحة الحديثة، واكتسبت الكوادر العلمية والصناعية بعض الخبرات الإدارية والفنيّة الهامة التي تمكّنها من إدارة العملية الإنتاجية على مستوى راقٍ,"[6].

إن الأمة العربية بكل دولها تملك مع الخبرات والإمكانات التي تمت الإشارة إليها سابقاً حصناً حضارياً هاماً مكّنها من الصمود، ومن ثمّ المواجهة، فالتحرير والتغيير في مراحل تاريخية سابقة، ومن الأمثلة على ذلك أن الفرنجة الذين غزوا الأمة انطلاقاً من أوروبا مع نهايات القرن الحادي عشر الميلادي تمكنوا من تأسيس دولة في منطقة قيام دولة إسرائيل اليوم أطلقوا عليها اسم: الدولة اللاتينية، وجعلوا عاصمتها القدس، وعندما أسقطت الأمة تلك الدولة عاد من أسسوها إلى حيث أتوا، والأمر نفسه سيحصل لا ريب في وقت ما وسيعود يهود إلى بلدانهم الأصلية.

والأمة تمتلك لمواجهة خطر إسرائيل والاستعمار من خلال الشرق أوسطية الطاقة البشرية، تلك الطاقة التي صنعت انتفاضة الأرض المحتلة التي لا تزال، وهي نفسها قاومت التطبيع في مصر، وتقاومه اليوم في الأردن، وقاومته وتقاومه مدنياً وعسكرياً في كل أرض عربية محتلة في لبنان وسوريا وفلسطين.

هذه الطاقات البشرية مضافة إلى الحصن الحضاري هي عماد الأمة في مواجهة مشروع الشرق الأوسط الذي تتلخص فيه مشاريع التوسع الاسرائيلية، والأطماع الاستعمارية الأمريكية، ولقد أحسن صنعاً الشاعر طارق ناصر الدين حيث قال:

"كل شهيد يتقدس دمه

ينبت سوسنةً، تنطق:

 لا للتطبيع مع القاتل

يا هذا الشعب كلام الله إليك

هو الردٌّ الفاصل

أبطالك عاصفة وزلازل

ورموزك رايات ومشاعل

هل يوجد أعظم من شعب

هل يوجد أعظم من شعبٍ,

يتحول فيه البشر قنابل؟ " [7]؟

إن مشروع الشرق أوسطية اجتياح من نوع جديد ليس أمام قادة العدو سواه، وهو بالمحصلة مخطط إسرائيلي توسعي ليس إلاّ.

يتحدث الأستاذ كمال شاتيلا عن هذا المخطط ومخاطره على العرب قائلاً: "إن زعماء إسرائيل يروجون لسوق الشرق الأوسط من الناحية الاقتصادية للتأثير على أصحاب رؤوس الأموال - والفقراء أيضاً - ولإغرائهم وإقناعهم بجدوى مشروع السلم الإسرائيلي، وفائدته للعرب واليهود على السواء.

فالإغراءات تبدأ اقتصادية، ثم تتحول بعد التطبيع - كما يخططون - لتصبح اختراقاً لوحدة المجتمع العربي، واختراقاً لكل التركيبات الاجتماعية في كل الساحة العربية، وعلينا أن ننتبه إلى حقيقة قائمة وهي أنه ليس في طاقة إسرائيل أن تتوسع في المدى المتوسط، وهي ليست قادرة على إقامة مشروع: أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل، في المدى المنظور، فهي عجزت عن استيعاب الأراضي المحتلة عام 1967، واستحال عليها هضمها، ولذلك فإن مخططاتها تتمحور حول السيطرة على المنطقة حربياً واقتصادياً وتقسيمياً بإشعال الحرب الأهلية داخل كل قطر عربي على أساس مذهبي وطائفي وعرقي لتدور كل الكانتونات الانفصالية في فكلها بعد ذلك" [8].

إن مشروع الشرق الأوسط لا يرد خطره على الأمة العربية إلاّ بمواجهة تتبع مرحلتي الممانعة والإعداد، وكل ذلك لن يقوم بغير المنهج الوحدوي إن كان في إطار الوحدة الوطنية لكل قطر عربي، أو الوحدة القومية في إطار تطوير ميثاق جامعة الدول العربية ليلبي الأغراض المطلوبة.

إن النظام العربي في واقعه الراهن قطرياً وقومياً لم يعد بإمكانه أن يشكل سدّاً دفاعياً في وجه التحديات على الأمة لذلك لا بد من تطويره في إطار جامعة الدول العربية وتطوير ميثاقها وهيكلياتها ومؤسساتها.

"إن الحديث عن تطوير النظام العربي، وصولاً إلى تأسيس نظام عربي جديد، يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية لمواجهة التحدي المصيري للوطن العربي، وفرض الشرق أوسطية التي تعني - في المحصلة النهائية - الاندماج تحت جناح إسرائيل التي ترنو إلى فرض هيمنتها، وسيطرته على المنطقة، وهو هدفها الثابت الذي تتحوّر سبله وأدواته ووسائله، ولكنه يبقى الهدف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني.

ولعل هذا الأمر يرتب على كافة القوى السياسة العربية - على المستويين الشعبي والرسمي - اجتياز أول درجة نحو تأسيس نظام عربي جديد - كهدف استراتيجي - بقبول الوفاق العربي القائم على المصارحة الحقيقية، والمصالحة غير الشكلية كمدخل مرحلي لتحقيق هذه الغاية" [9].

إن المصالحة ضرورية لحشد الطاقات وتطوير ميثاق الجامعة العربية تمهيداً لوضع استراتيجية للمواجهة في الميادين كافة العسكرية والاقتصادية والثقافية... إلخ.

___________________________

[1] للتفصيل يراجع: كنيدي، الدكتور بول، الاستعداد للقرن الحادي والعشرين، ترجمة محمد عبد القادر وغازي مسعود، الأردن، دار الشروق، سنة 1993.

[2] كنيدي، الدكتور بول، م. س، ص 369.

[3] المسعودي، مروج الذهب، م1، بيروت، دار الفكر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 5، سنة 1393 هـ ـ 1973 م، ص 178.

[4] فريدمان، بنيامين، يهود اليوم ليسوا يهوداً، إعداد زهدي الفاتح، بيروت، دار النفائس، ط 2، سنة 1403 هـ ـ 1983، ص 44، 45.

[5] كيستلر، آرثر، القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم، ترجمة أحمد نجيب هاشم، القاهرة، المصرية العامة للكتاب، سنة 1991، ص 23.

[6] مسلم، اللواء طلعت، قضايا ومتطلبات الأمن العسكري العربي في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين في:

التحديات الشرق أوسطية الجديدة والوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، سنة 1994، ص 260.

[7] ناصر الدين، طارق، قصائد مؤمنة، بيروت، توزيع دار العلم للملايين، ط 1، سنة 1996، ص 51.

[8] شاتيلا، كمال، موقفنا من حلف الشرق الأوسط، بيروت، المركز الوطني للدراسات والنشر، سنة 1415 هـ ـ 1994 م، ص 5.

[9] عبد الوهاب، علاء، الشرق الأوسط الجديد: سيناريو الهيمنة الإسرائيلية، القاهرة، سينا للنشر، ط 1، سنة 1995، ص 370.  

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply