علي بوخمسين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جاء الخطاب الأمريكي تجاه الشرق الأوسط الكبير تجلياً لعلاقات القوة القائمة فيما بعد الحرب الباردة، فالقوة لا تعبر عن نفسها إلا من خلال علاقاتها بالقوى الأخرى، وليس ثمة خطاب يمكن تأسيسه إلا من خلال موقعه على رقعة التشابك بين القوى، ليس في وسع الولايات المتحدة (مثلاً) الإعلان عن مشروع للإصلاح في الصين، لأن خطابها حيال هذا البلد يبقى متموضعاً في أرضية توازن القوة ومستنداً إلى معادلات الممكن والممتنع، وفي السنوات العشرة الأخيرة انحرف الخطاب الأمريكي الموجه للصين عن مساره التصاعدي المعهود منحدراً في طريق تنازلي على وتيرة تعكس نمو وتصاعد القوة الصينية في التقنية والاقتصاد.

كان على الخطاب الأمريكي تجاه الصين أن يتخلى عن نبرته لأن الشروط الموضوعية المنتجة له على صعيد الواقع المتحقق أصابها التغيير وإلا أصبح خطاباً ديماغوجياً لا قيمة له، وفي الجانب الآخر فإن الشروط التي تمنح الخطاب الأمريكي تجاه الشرق الأوسط آمريته وعنفوانه هي حقائق ماثلة وتجربة يومية حية لا تنتهي في العراق أو أفغانستان أو فلسطين ولكنها تبدأ في ما يؤسس للموقف العربي الإسلامي ويحدد موقعه الحضاري المزاح عن دائرة الفعل والتأثير، فلقد كان لابد لخروج هذا العالم من التاريخ والزمن أن يأخذ طابعاً تراكمياً على مستوى العجز الذي جعل المنطقة برمتها تتحول إلى مريض العالم، فاقد الوعي، المستكين إلى مشارط (الحكماء) من الغرب والشرق، حيث توحي الوتيرة المتصاعدة لانهمار مشاريع الإصلاح على الشرق الأوسط بأن التشخيص المرضي لهذه المنطقة قد اكتسب إجماعاً على مستوى العالم بأكمله، حيث إن (الإصابة) الشرق أوسطية لا تنتمي إلى حالات الكمون الذي يمكن عزله ومحاصرته، فهي تتسرب عبر الشقوق والفجوات على جدران التحصينات التي تقام في وجهها لحماية (الحضارة)، تنفجر هنا وهناك وتثير الفزع في عالم (آمن)، من هنا اكتسبت (المشاريع الإصلاحية) الهاطلة من أمريكا إلى اللكسمبورج مشروعيتها، حيث يجري تحضير غرفة العمليات لفحص رجل العالم المريض وتشريح جسده على أيدي الثمانية الكبار في وقت قريب، ويبدو رجل العالم المريض مريضاً بحق، عاجزاً وكسيحاً، وجماع ما تسعفه به قواه المتهالكة أن يتمتم بالرفض وهو يدير وجهه إلى الحائط، وليس ثمة ما يعكس هذا الواقع مثل (وثيقة العهد) التي بلورتها الجامعة العربية تحت وطأة الوابل المتزايد لمشاريع التدخل الأجنبي المقنعة والمتسترة تحت ألقاب الإصلاح الذي تبلغ مواسمه ذراها وترتفع راياته فوق مهرجانات الأدبيات السياسية ليزود الخطابية العربية بأبجديتها المزوقة المغرقة في الإيهام (كما نشرتها جريدة الحياة 2004/3/11)، حيث تتداخل المعاني والحدود لتعيدنا إلى نقطة الصفر من تاريخ طويل لنضال الأقوال وحروب المنابر وذكرى الانتصارات الدونكشوتية، فالعقلانية المستنيرة التي كنا نعتقد إنها تسللت إلى الردهات المغلقة التي ينتج بين جدرانها القرار العربي والمسلم لم تكن سوى عبارات رتيبة عائمة على محيط لامتناه من احتمالات المعنى والتفسير، فضفاضة صممت بعناية لتحوي كل شيء ولا شيء، فجاءت اللغة التي كان ينتظر لها أن تمنح أمتنا جدارتها لمواجهة المعضل الأكثر خطورة وحسماً لتجسد بكل جلاء موقفاً متهالكاً، لا ينطق إلا بالواقع المتحقق على ساحة توازن القوى ومعادلات السيطرة في العالم المعاصر، عندما نقرأ أن الموقعين المنتظرين على هذه الوثيقة (استذكاراً للإنجاز التاريخي المتمثل في ميثاق جامعة الدول العربية) يؤكدون (تضامننا في تعزيز العلاقات والروابط بين الدول العربية وصولاً إلى التكامل من خلال تطوير التعاون العربي المشترك وتقوية قدراتنا الجماعية لضمان سيادة الأراضي العربية وأمنها وسلامتها وصونها) تصوروا!!! و(وعقدنا العزم على مواصلة خطوات الإصلاح) و(تهيئة الظروف الضرورية لإرساء التكامل الاقتصادي فيما بيننا على نحو يمكننا من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي).

كله رائع وفخم وعلى قدر كبير من الحصافة والفطنة، ولكن كيف؟ متى وأين؟ تبقى كلها هائمة معلقة غائرة في كثافة الضباب، كيف يمكن لهذه العمومية المطلقة أن تحرر مشروع النهضة الحضاري المرتقب من عقاله، تفك أسره المزمن وتنتزعه من احتباسه وغيبوبته؟ كيف لها أن تخلص الأمة العربية من سلبياتها وتعبئ قواها، وتشحذ إمكانياتها ضمن منهجية وعقلانية ملائمة لمرحلتها التاريخية وتمايزها الإنساني والثقافي؟! كيف يكون للدهشة مكان؟ وأين يكمن موضع العجب؟! إذا أصبحت أمة كهذه تواجه أخطر مفاصل تاريخها بهذا القدر من الهلامية مستباحة لكل الانتهاكات، فاقدة لوعيها على مشرحة العالم والتاريخ، ومع ذلك فإن على وعينا أن يتصدى لشبكة الألغاز التي يقذفنا بها الالتفاف المفاجئ لمسار الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، فلا مجال لتخطي التساؤل عن مغزى أن تتم بسرعة فائقة زحزحة المنطقة من موقع الخصم الحضاري الذي ينبغي محاصرته إلى موقع الحليف المتوعك الذي ينبغي إحاطته بالعناية والحنو، من منطقة تنغرس جذور العداء للحرية والحضارة في عمق تربتها الثقافية، ونزوعها المتأصل، إلى منطقة تحمل (وعد) الحضارة في وطن الإنسانية المصانة والمحررة من همومها وأعبائها، وليس على الجواب أن يضرب بعيداً عن خارطة القوة، عن التبدلات المفاجئة بدورها وعن عملية الحراك السريعة التي شهدتها مواقع القوة في سنوات قليلة متتالية وسريعة، عن المياه الغزيرة المتدفقة تحت طبقة رقيقة لن تلبث أن تنبجس عن تيار هادر يعيد رسم مشهد علاقات القوة في العالم، ويعلن ميلاد العملاق الصيني وظهور الصين الصينية، لا الصين الماركسية، ولا حتى الصين الماوية، بل صين الصين التي لن تكون نسخة لأحد ولا صدى لصوت أحد، أو تابعاً متظللاً بعباءة أحد، هذه الصين المنبعثة على إيقاع سريع بعثرت في ضربة واحدة مرتكزات القراءات السابقة لمستقبل العالم المنظور، وأبرزت أمام الأمريكيين العيوب التي اتسم بها اختيارهم لخصمهم الحضاري الموهوم، الذي تلقفه الاستراتيجيون الأمريكيون بعد سبتمبر البغيض لإذكاء جذوة الحس الوطني وتعبئة روح الانتماء بعد اختفاء الخصم السوفياتي، وهو ما يمثل ضرورة استراتيجية لبلد يمتلك مشروعاً كونياً.

لقد حفل هذا الخيار بسلبيات خطيرة في بعدها الثقافي والإنساني وفي مستوى الاستجابة للتحدي الذي جرى افتعاله، من ناحية فإن هذا الخصم المفتقر إلى أبسط أبجديات الاستراتيجية والتخطيط، قد يستغرق الجهد الأمريكي ويستدرجه بعيداً عن تأكيد تفوقه التكنولوجي الحاسم، ويرغمه على الانخراط في الصراع وفق الشروط البدائية التي يتقنها، ويحد من تفاعله على مستوى المنافسة العالمية في حقول التقنية الفائقة، كما ينطوي الاختيار الخاطئ لهذا الخصم الحضاري على خطر تنامي النزعات الدينية المتطرفة واستقطابها المتسارع لقوى التمييز العنصري والعرقي، وأخطر من ذلك في الانتهاكات الجوهرية للدستور والحقوق المدنية التي أشاعت القلق في أوساط النخب الأمريكية من خلال القوانين التي أقرها الكونجرس فيما يشبه قوانين الطوارئ في دول العالم الموسوم بالتخلف.

ومع التحولات الجذرية في الصين، والتي يجسد أكثرها خطورة وأهمية في بلورة العمل المؤسسي ونمو روح القيادة الجماعية وتبني العقلانية الإدارية وانحسار التسلط الإيديولوجي، مما ساعدها على تخطي معضلتها التاريخية المدمرة المتمثلة في التضخم، ومع استمرار النمو بمعدلات هي الأعلى في العالم، واتساع رقعة التنمية على الصعيد الجغرافي والإنساني لكي تشمل الأرياف، التي كان القائد التاريخي دينغ شاوبينغ قد أطلق منها تياره الإصلاحي الكبير، يتقدم كل ذلك القفزات التكنولوجية المثيرة التي توجها رجل الفضاء الصيني الأول وسط مزيج من الإعجاب والذهول، مع كل هذه التحولات المتسارعة في العالم الصيني الواسع ومع إدراك المؤسسة الأمريكية في تشكيلاتها المتعددة والمنبثة في عروق المجتمع بتهافت الخصم الحضاري المفتعل وما ينطوي عليه الصراع الدائر من التهديد المستتر وبعيد المدى، للأساس الحضاري والثقافي للمجتمع الأمريكي، فإن الأمريكيين يكتشفون بصورة مفاجئة الحقائق البسيطة التي وضعت أمامهم في أعقاب سبتمبر وأشاحوا بوجوههم عنها في حومة الغضب والهيجان، أن القوة وحدها لن تجتث الإرهاب والتطرف، إن جذوره تضرب في عمق التخلف والفاقة والاستبداد، في الظلم والتسلط الدولي والمحلي بأشكاله المختلفة، في تغييب الإنسان واستباحته وحرمانه وتدمير الطبيعة من حوله لصالح المتسلط المحلي المحتمي بمظلة الأجنبي والملتف بأرديته، وكانت أرض الواقع تنبت حقائق تملأ الأفق وتطلق الرياح التي تبعثر كل الأوراق وتفرض إعادة كل القراءات ومراجعة كل التأويلات، وها هم الأمريكيون يستجيبون لانحرافات موازين القوة، وحركة الإزاحة والزحزحة التي يجري تأكيدها، للعالم الجديد الذي يأخذ سمته في الانبعاث على خلفية الذهنية الأمريكية نفسها، العقلانية العملاتية المطلقة، رأسمالية الاقتصاد، العلم والتكنولوجيا، يترافق ذلك مع وعيهم المتزايد بخطأ خياراتهم في الصراع، ولكن استجاباتهم تأتي أمريكية الروح والشكل والمضمون، إنها استجابة الآمرية المتعالية والمتجاهلة للآخر، شؤونه وشجونه، معاناته وطموحه، أوجاعه ومآسيه، حيث يكشف المشروع الأمريكي عن مستوى القيمة في معادلات المخططين الأمريكيين لهذه المنطقة من العالم ذلك المستوى الذي يعكس موقع هذه المنطقة على خريطة القوة، فهذا المحيط الجغرافي والبشري الواسع بأبعاده الثقافية وتاريخه الممتد وحضاراته الأولى وإسهاماته الإنسانية الكبرى، تم اقتلاعه من وسطه الإنساني والتاريخي والثقافي وطمست كل الحقائق الماثلة على صفحة واقعه، كل التفجرات والأورام السرطانية على جسده، فلسطين وكشمير والصحراء الغربية وجنوب السودان وغيرها من البؤر التي امتدت لتشمل العراق وأفغانستان، جاء المشروع الأمريكي ليلحق هذا العالم الواسع باستراتيجيته الكونية طامساً ومتجاهلاً لطموحات شعوبه في بناء مشروعها الحضاري الخاص، إقامة أنظمتها الأمنية، صيانة استقلالها الوطني وثقافتها، جاء متلفعاً باطروحاته التقليدية، الديموقراطية والإنسان، المشروع الأمريكي اختزل الجغرافيا والبشر والتاريخ في صياغة مرتجلة تكشف فقط عن الارتباك الذي يعتري المخططين الأمريكيين، ذلك لأن محيط الفاقة الرازح تحت أثقال ساحقة من المعضلات والممتد من جبال الأطلس حتى سفوح الهيملايا بما في ذلك آسيا الوسطى والقوقاز، لا يمكن استئصال أدرانه المزمنة عبر خزانة الإسعاف التي حملها المشروع الأمريكي في عباراته العمومية واستعاراته المرتجلة، ولن يكون للمثاليات التي اطلقها مفعول من أي نوع، قبل أن تتجاوز المنطقة إشكالياتها المتجذرة في الاستراتيجية الأمريكية نفسها، قبل معالجة مسائل إنسانية أصبحت لطخة عار تشوه الجبين الناصع الذي تحاول الحضارة القائمة استعارته، ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذي يعانون من لا إنسانية البطش الإسرائيلي بينما يكابدون مستويات من العيش لم تعد لائقة بالبشر، وعشرات الملايين الآخرين من المشردين نتيجة الحروب والتفجرات والنزاعات التي تخدم أغراض الهيمنة الأجنبية، البشر البائسون الهائمون على وجوههم، ضحايا الخوف والاضطراب والاضطهاد المحلي، مظاهر العوز والفاقة ونقص التغذية وتلوث المياه والبيئة، كل الركام الهائل والمتكاثر الذي أنجبه تاريخ طويل من التقهقر والغزو وانتهاب الثروات من قبل الاستعمار الغربي وعملائه المحليين. إن المشروع الأمريكي يبدو ساذجاً وطفولياً إلى درجة النكتة في اختزاله وعموميته، انه مشروع مرتجل في سياق السياسة الأمريكية المعهودة المنبثقة دائماً وأبداً من مصالح متقلبة ونزقة، والمتأثرة بإرادة الحركة الصهيونية عندما تتعلق الأمور بالشرق الأوسط، فهذا المشروع لا يجهد نفسه كثيراً في إخفاء غايته الاستراتيجية القصوى، التي هي عزل المنطقة عن المصادر الحقيقية لمستقبلها الحضاري وقدراتها الكامنة لتجاوز أوضاعها الحالية، تلك الإمكانات التي يؤطرها كيانها الثقافي وهويتها العربية الإسلامية، يحولها إلى كتل بشرية فارغة من حس الانتماء والرابطة تخفق قلوب جماهيرها باللهفة إلى بريق (الحضارة) المنبعث عبر منارات الدولة العبرية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply