مشروع الشرق الأوسط الكبير قراءة في البعد الثقافي ( 2 – 2 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ربط مشروع الشرق الأوسط الكبير (انظر: نص الوثيقة في صحيفة الحياة 13 فبراير 2004) بشكل وثيق بين مصالح الدول الكبرى وتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية المطلوبة من الدول العربية والإسلامية لمواجهة الإرهاب والتطرف، واستندت الوثيقة بشكل مباشر على تقريري التنمية العربيين الصادرين عن الأمم المتحدة (وقد قام بوضعهما باحثون عرب)، فقد ورد في نص المشروع: " يمثل الشرق الأوسط الكبير تحديّاً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي، وساهمت " النواقص " الثلاث التي حددها الكتاب العرب لتقريري التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و 2003 الحرية، المعرفة، تمكين النساء في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ 8، وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة.. "، والجديد في الشرق الأوسط الكبير - وهو مشروع قدمته الولايات المتحدة كمقترح لشراكة أطلسية تجاه الشرق الأوسط - أنه ركز بالإضافة إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية على تحديث المجتمعات العربية والمسلمة، وعلى إجراء تحول ثقافي فيها.

وإذا كانت الإصلاحات السياسية والاقتصادية جزءاً رئيساً من الدعاية الأمريكية فما هي طبيعة التحول الثقافي المطلوب، وما هي أهدافه؟ فهل المطلوب نشر ثقافة الديمقراطية السياسية داخل المجتمعات العربية والمسلمة، وبناء رأي عام يطالب بالحريات السياسية وبحقوق الإنسان؟

وأنا هنا لا أريد أن أجعل هذا المقال في نقد الدعاوى الأمريكية بالديمقراطية والحرية، وفي الرد على هذا التقريرº فقد تولى هذه المهمة غيري من الكتاب والمثقفين، كما أنني أعتقد أن الإنسان العربي الأمي يستطيع أن يفند الدعاوى الأمريكية فالأمر جد واضح، لكن أريد أن ألفت الانتباه في هذا السياق إلى خطورة الأمر، وإلى مجموعة كبيرة من السياسات التي بدأت تطبق على أرض الواقع في كثير من الدول العربية خاصة في مجال التحول الثقافي المطلوب.

أعود لتساؤلاتي السابقة لأقول: بالتأكيد إنّ الولايات المتحدة لا تهدف إلى بناء رأي عام يطالب بالديمقراطية، أو ينادي بالحقوق السياسية للشعوب، فالرأي العام المقصود متوافر وبزخم شعبي وثقافي كبير، وهو نابع من رحم المعاناة اليومية للإنسان العربي، الذي ملّ فساد الحكومات وفشلها السياسي، والذي اكتوى بنار الاستبداد والتسلط وغياب الحريات وحقوق الإنسان.

إذن فما هي طبيعة التحول الثقافي وأبعاده في الرؤية الأمريكية، وما سر تأكيد تقرير الشرق الأوسط الكبير على العمل على تحديث المجتمعات العربية؟

أدع الجواب عن هذا السؤال للخبير الأمريكي انغلهارت في مقال له في مجلة Foreign Policy (عدد أكتوبر 2003 / النسخة العربية) بعنوان " الصدام الحقيقي للحضارات "، إذ استند مقال انغلهارت على فكرة رئيسة، وهي: أنّ صموئيل هانتنجتون في أطروحته حول صدام الحضارات قد أصاب نصف الحقيقة بأنّ الثقافة باتت أمراً مهمّاً بالنسبة للشعوب في العالم، وأنّ السمة الأساسية للصراع العالمي في المرحلة القادمة تكمن في الجانب الثقافي.

إلاّ أن المشكلة ليست كما ظن هانتنجتون مرتبطة بالقيم السياسية في العالم الإسلامي، فنتائج الاستطلاعات العالمية تظهر أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة أصبحت قيماً مرغوباً فيها، ومطلوبة بشكل كبير في المجتمعات المسلمة، لكن المشكلة الحقيقية تتمثل في المعتقدات الأساسية لهذه الشعوب المرتبطة بالثقافة الاجتماعية.

ووفقاً لاستطلاعات رأي واسعة حللها انغلهارتº فإن الشعوب المسلمة أقل تسامحاً تجاه المساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة، والعلاقات الجنسية، وحقوق المثلين، بعبارة أخرى: فإن الصدام الحقيقي للحضارات هو صدام حول المفاهيم الجنسية السائدة في الحضارات، والتي تعكس التباين القيمي الحقيقي في المعتقدات الأساسية.

وبعد أن ربط انغلهارت بين مستويات الإصلاح الثلاثة: السياسي والاقتصادي والثقافي، أكد على أن التحولات الاقتصادية بالتحديد ستؤدي دوراً مهمّاً في التغيير الثقافي المنشود، ووصل في نهاية مقاله إلى استنتاج رئيس وهو: أن الوصول إلى الديمقراطية من خلال الإصلاحات المطلوبة والضغوط الأمريكية أمر ممكن، لكن الحفاظ على الديمقراطية هو الأمر الصعب، وبالتالي فإنّ " الالتزام الحقيقي بالإصلاحات الديمقراطية سيتم قياسه بالرغبة في تخصيص الموارد الضرورية لتعزيز التنمية البشرية في العالم الإسلامي، إنّ للثقافة تأثيراً دائماً على الكيفية التي تتطور بها المجتمعات، ولكن لا يمكن للثقافات أن تكون القدر المحتوم لهذه المجتمعات "، والمسكوت عنه في مقال انغلهارت السابق هو أن الإصلاح الأمريكي المطلوب يرتبط بتغيير ثقافي شامل وجذري في العالم الإسلامي.

إنّ قراءة المقال السابق بشكل جيد تضعنا - في رأيي الشخصي - على الطريق الصحيح في فهم الإصلاح الثقافي المطلوبº إذ أن الجهود والرؤية الأمريكية لا تتوقف عند حدود القيم السياسية، وإنما تتعداها كما هو واضح في مشروع " الشرق الأوسط الكبير " إلى المرأة وتحديث المجتمعات، والتغير في مناهج التعليم، ودور الانترنت والمجتمع المدني والفئات المختلفة في المجتمعات العربية.. إلخ.

من ناحية أخرى فإن التحولات السياسية والاقتصادية تجلب معها القيم الاجتماعية المرتبطة بها، والمكونة من مفاهيم حاكمة على تصورات الإنسان وسلوكه الاجتماعي والأخلاقي، والحرية المقصودة بالدرجة الأولى هي الحرية الشخصية والاجتماعية وليست السياسية، والناظر في المجتمعات العربية التي دخلت في طور الخصخصة واقتصاد القطاع الخاص يجد تغيراً ملحوظاً في الثقافة الاجتماعية، خاصة لدى فئات الشباب والعنصر النسائي، مع ولوج المرأة إلى سوق العمل والأماكن المختلطة إلى فترات ممتدة إلى الليل، أو مع تنشيط قطاع السياحة والخدمات العامة، ناهيك عن دور الإعلام المرسوم بدقة لتحقيق هذه الأهداف كما سيأتي لاحقاً.

إن تكامل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية المطلوبة أمريكيّاً في المجتمعات المسلمة يعني خلق بنى اجتماعية تحمل تصورات ثقافية متأثرة بشكل كبير بالنموذج الأمريكي في نظرتها إلى الحياة والمجتمع، وفي سلوكها الأخلاقي، وهذا الجانب من التأثير والهيمنة أخطر بكثير من الجانب العسكري المباشر، وهو الذي أطلق عليه الخبير الأمريكي جوزيف ناي مصطلح " القوة الناعمة " The Soft Power.

المشروع الأمريكي الطموح في الإصلاح الثقافي، وفي نشر النموذج الأمريكي في المجتمعات المسلمة والعربية ليس جديداً على الدبلوماسية والمؤسسات الأمريكيةº بل هو امتداد للحرب الباردة الثقافية، التي بدأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ضد الاتحاد السوفيتي، ولكن هذه المرة ضد العدو الجديد وهو الحركات الإسلامية في حرب باردة ثقافية ثانية The Second Cold War كما أشار إلى ذلك عدد من المفكرين الأمريكيين (في وصف الحرب مع الحركات الإسلامية).

بناء على ما سبقº فإن الدبلوماسية الأمريكية بدأت بالفعل بالتوجه إلى المجتمعات العربية والمسلمة من خلال العديد من آليات العمل: البعثات الدراسية لنخب من المثقفين العرب، نشر الكتب والمجلات الأمريكية باللغات المحلية، دعم مؤسسات المجتمع المدني التي تتبنى القيم الليبرالية وتنشرها كمراكز الدراسات، ومراكز حقوق الإنسان، دعم الحركات النسوية ذات الطابع الليبرالي، والتركيز على النساء في عملية الإصلاح المطلوب، تعزيز التبادل الثقافي والمنح التي توجه إلى المثقفين والسياسيين لزيارة الولايات المتحدة، دور المنظمات غير الحكومية في تنشيط المجتمع المدني باتجاه التغريب، تقوية الارتباط بين عدد كبير من أصحاب الرأي والكتاب والمثقفين والصحفيين وبين المؤسسات الأمريكية، وتوزيع الجوائز والرشاوى المغدقة عليهم.

يضاف إلى ما سبق إنشاء مؤسسات إعلامية تنشر الثقافة الأمريكية، وتتبنى رؤيتها السياسية في المنطقة، كإذاعة " سوا " وقناة "الحرة"، وعدد من المجلات المختلفة، بيد أن الغريب والملفت حقاً للانتباه في الفترة الأخيرة هو الدور المشبوه والخطير الذي تقوم به عدة محطات فضائية عربية ذات أصول تمويلية معروفة ببث برامج شبابية خطيرة جدّاً، تتضمن وجود مجموعة من الشباب والفتيات في منازل مشتركة لفترات طويلة تستمر إلى شهور يعيشون معاً، وتذوب بينهم الحواجز، ويصل الأمر إلى حد ممارسات لا أخلاقية ضمن البرامج، وهذه البرامج وجرأة الإقدام عليها وتماهيها مع المشروع الأمريكي - بالنسبة لي - محير، ويدفع إلى البحث والتفكير حول مُعدي هذه البرامج وأهدافها وخطورتها، وأنا أشير هنا إلى برنامج يقدم على قناة أل LBC بعنوان " ستار أكاديمي "، وبرنامج يقدم على قناة MBC الثانية بعنوان " الأخ الأكبر "، والغريب أن هناك فتيات خليجيات في البرنامجين على الرغم أن المجتمعات الخليجية مجتمعات محافظة، كما أن البرنامج الثاني يصور في دولة البحرين مما أثار مشاكل كبيرة هناك (انظر: صحيفة الحياة: الأخ الأكبر" ينذر باستجواب وزير الإعلام البحريني، 25 /2/2004)، وكل هذا وذاك يدفع إلى أخذ مسألة التحول الثقافي بمنتهى الجدية.

وبعد،..

هل ستنجح الولايات المتحدة في تنفيذ مخططاتها في المنطقة؟ وهل ستتمكن من المضي قدماً في التأثير على المجتمعات العربية والمسلمة؟ في المقابل هل نرفض الإصلاح العامº لأن الولايات المتحدة تطالب به؟

بالتأكيد إن المرحلة القادمة خطيرة وحرجة، وتتطلب وعياً من نوع خاص وعلى مستوى عال من أهل الفكر والثقافة والحركات والمؤسسات الإسلامية، وتتطلب أيضاً مراجعة جذرية وحقيقية لخطابنا الإسلامي وكثير من مفرداته، وكذلك الأمر أدواته ولغته ومنهج مخاطبة الناس، فلا يكفي نقاء الفكرة كي تصل إلى الناس فلا بد من توخي الحكمة من خلال اللغة والأسلوب وأدوات الخطاب المختلفة.

إن فهم المشروع الأمريكي وأهدافه ومنطقة وأدواته سيساهم بشكل كبير في إدراك منهج التعامل معه، وهذا يقودنا إلى مطالبة المؤسسات الإسلامية البحثية بتشكيل فرق عمل لتقدم خططاً استراتيجية عملية ومنهجية للتعامل مع تحديات المرحلة والمستقبل القريب التي تواجه الأمة المجتمعات المسلمة، وبدون هذه الخطط سيبقى الجميع كحاطب ليل!.

وخطورة الجانب الثقافي والاجتماعي في المشروع الأمريكي أنه يتحرك على نفس الأرض التي ينطلق منها المشروع الإسلاميº أي المجتمعات والإنسان المسلم، وبالتالي يسعى الساسة الأمريكان إلى نقل ميدان المعركة إلى الحصون الداخلية وإلى الجانب الأخطر المتعلق بالبعد النفسي والفكري، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تفكير عميق وطويل، وقراءة متأنية قبل صوغ خطط العمل المطلوبة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply