أمة تحت الوصاية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تضمن المشروع الأمريكي لإصلاح وعلاج الخلل لدى الأمة العربية والإسلامية فيما عرف بمشروع الشرق الأوسط الجديد، متضمناً ومركزاً على مجموعة نقاط للعلاج يمكن تسميتها الوصفة الأمريكية لعلاج العرب والمسلمين من أمراضهم المزمنة، والتي تتلخص كما يشير التقرير في: الجهل، والتخلف، والاستبداد، والرجعية، وهي أمراض تجعلنا أمة مخاصمة لروح العصر بامتياز.

ومن هنا فإن الإدارة الأمريكية مشكورة لكي تعالجنا من هذه الأمراض المزمنة بعد أن شخصت الداء شرعت فوصفت العلاج، ويتلخص في أربع كلمات: إصلاح التعليم، وبناء مجتمع المعرفة، ونشر الديمقراطية، وبناء المجتمع الحر اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، وإنقاذ المرأة من براثن التخلف والرجعية، تلك هي روشتة العلاج التي كتبها السادة في واشنطن لإصلاح أحوالنا والدخول بنا إلى روح العصر الذي خاصمناه طويلاً.

وبغض النظر عن مدى دقة التوصيف من عدمه فإن الملفت للنظر أن أسيادنا في واشنطن تعاملوا معنا على أننا أمة قاصر لا تستطيع تصريف شئونها، ويجب على الآخرين أن يتولوا هذه المهمة النبيلة كواجب إنساني وحضاري يتطلع به السيد الأمريكي باعتباره راعي شئون العالم والقيم بأمره في ظل العصر الإمبراطوري الجديد.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل لم يكلف السيد الأمريكي النبيل نفسه بأخذ آرائنا في الدواء الذي يجب علينا أن نتجرعه علماً بأن الطبيب الأمين يجب أن يصارح مريضه بطبيعة مرضه، ومدى خطورته، وينصحه بالدواء، والمريض حر في تنفيذ مشورة الطبيب أم لا، ولكن يبدو أن السيد الأمريكي تعامل معنا من منطلق الأبوة، ورأى أننا مازلنا أطفالاً، ولا نعرف مصلحتنا، وبالتالي من واجبه كوصي وأمين علينا يقوم بدور الأب أن يعطينا الدواء الناجع دون مشورتنا.

لقد جاء نشر المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد بجريدة «الحياة» اللندنية في الأسبوع الماضي والذي توجهت به الإدارة الأمريكية إلى قمة مجموعة الثماني التي ستعقد في أوائل الصيف المقبل في ولاية جورجيا الأمريكية طالباً منهم الموافقة على المشروع، والاشتراك في تمويله لاجتثاث جذور الإرهاب في تلك المنطقة التي تهدد أمن العالم الحر واستقراره، كاشفاً عن تصرف الإدارة الأمريكية باعتبارها الموجه لشئون العالم، وصاحب الرأي، والوحيد الذي يجب أن يطاع من قبل جميع الأطراف، وهو ما يدعم حقيقة نزعة الهيمنة والرؤية الأحادية المسيطرة على الإدارة الأمريكية الحالية.

ورغم كثرة الردود التي كتبت في نقد ذلك المشروع باعتباره مشروعاً خارجياً من قبل العديد من الكتاب والباحثين العرب، وكان من أشد الردود قسوة رد الدكتور نادر الفرجاني المؤلف الرئيسي لمشروع تقرير التنمية الإنسانية العربية في العامين 2002/2003 الذي استندت إليه الرؤية الأمريكية في مشروعها لإصلاح الشرق الأوسط الكبير في أكثر من موضع، موضحاً انتقائية الرؤية الأمريكية، وعدم صدقيتها في تعاملها مع تقرير التنمية التي اعتمدت عليه.

وما يهمنا أن نشير إليه في هذا الصدد الوقوف عند بعض القضايا التي وردت في التقرير دون النظر في محتواه لأنه كان ضعيفاً في المحتوى، وفي المنهج، وفي تشخيصه للداء ووصفه للعلاج، وهو ما تناولته أقلام كثيرة بالنقد والتفنيد، ولا يسعنا أن نتمادى في هذا المجال، وهذه القضايا يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:

ـ أولاً العنوان الذي حمله المشروع وهو الشرق الأوسط الكبير، وهو ترديد لمقولة الثعلب المكار والصهيوني واسع الحيلة شيمون بيريز صاحب كتاب الشرق الأوسط الجديد الذي نشره منذ فترة طويلة مبشراً بعصر جديد تكون لإسرائيل فيه الهيمنة الاقتصادية على المنطقة، لتقودها نحو عصر جديد من الرفاهية والرخاء، وهو نفس ما تردده الإدارة الأمريكية الحالية في خطتها الجديدة، فهل كان هذا الاتفاق في تحديد العنوان من قبيل المصادفة؟

أم أن هناك أيدي صهيونية عبثت بالتقرير ووجهته نحو غايتها المنشودة سواء بالمشاركة الفعلية في صياغته، أو بالمشورة والتوجيه بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية في كل من واشنطن وتل أبيب وهما في أوج التفاهم والتناغم.

ـ ثانياً يفتقد التقرير في تشخيصه لأزمة الأمة العربية والإسلامية إلى المصداقية وذلك بخلوه من أي إشارة لدور الاحتلال سواء أكان الإسرائيلي لفلسطين أو الأمريكي في العراق وأثره على إعاقة التنمية في البلدين وفي توجههما نحو المستقبل وهو بذلك يناقض نفسه.

فكيف يتولى مسئولية الإصلاح وهو في الوقت ذاته يقف في وجه تحقيق هذا الإصلاح باحتلال دولة ذات سيادة تحت حجج ثبت كذبها وزيفها، وربما جاءت تصريحات تشانيز القائد الأمريكي في العراق إلى أن قوات الاحتلال ستبقى في العراق لسنوات مقبلة وليس لشهور فقط طعناً في هذه المصدقية، وكشفاً للنوايا الأمريكية بإطالة بقائها لأكبر فترة ممكنة طبقاً لاستراتيجيات وحسابات أمريكية مما يظهر أن موضوع نقل السلطة في العراق، وإجراء انتخابات ليس سوى تصريحات استهلاكية لكسب الوقت، وامتصاص غضب الشارع العراقي والعربي.

ـ ثالثاً التناقض في حديث التقرير عن ضرورة نشر قيم الحرية والديمقراطية مع واقع الاحتلال الأمريكي في العراق، وما أعلنه مؤخراً الحاكم الأمريكي في العراق بول بريمر برفضه أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع في دستور العراق الجديد بناء على طلب الشعب العراقي، فهل هي حرية وديمقراطية مفصلة بالمقاس، ولا ينبغي أن تشذ عن القالب المطلوب أن تكون فيه؟

أم أنها حرية حقيقة للشعب من حقه أن يضع المرجعية الثقافية والقانونية لدستوره متمشياً مع هويته الثقافية والدينية؟ أم أن تلك الشريعة الإسلامية وتعاليمها من وجهة نظر بريمر ورفاقه في واشنطن كما أعلنوا مراراً وتكراراً كانت مصدر الإرهاب، وبالتالي يجب أن تغيب تماماً من حياة الشعب العراقي وشعوب المنطقة، ومن هنا كان التركيز الأساسي للتقرير على التعليم وضرورة أن يقوم على قيم ومبادئ تؤكد معاني الحرية والتسامح والحوار.

ـ رابعاً لا أدري لماذا أضاف المشروع إلى مفهوم الشرق الأوسط الكبير خمس دول فقط أربع منها إسلامية هي باكستان وأفغانستان وتركيا وإيران والخامسة هي دولة الكيان الصهيوني؟ فلماذا تجاهل المشروع مثلاً دولة بنغلاديش ومعلوم أن خطة المشروع الطموح هي مقاومة التخلف والفقر والمرض باعتبارها الثالوث الذي ينهش في عظام المنطقة فيولد الإرهاب الذي يقض مضاجع السادة الأفاضل في واشنطن علماً بأن بنغلاديش دولة إسلامية ملاصقة لباكستان، وكانت جزءاً منها، وهي من أكثر بلاد العالم فقراً، فلماذا تجاهلها التقرير رغم أنها جزءاً من المنطقة التي تسعى واشنطن لتغييرها؟ ولماذا هذه الدول بالذات؟

ولماذا تتجاهل واشنطن عندما تتحدث عن التنمية في العالم الإسلامي وترجعه إلى ثقافة العصور القرووسطية التي تخاصم قيم الحداثة والحرية والديمقراطية تركز على نماذج الفشل وتجاهل بصفة مستمرة تجربة ماليزيا الرائدة مع أنها دولة إسلامية ومن النمور الأسيوية.

ـ خامساً يضع التقرير من أولوياته التركيز على التعليم، وبناء مجتمع المعرفة، ويشير إلى هجرة العقول المبتكرة إلى الخارج لفشل المجتمع العربي الإسلامي في استنبات نموذج مجتمع حر تنموي ناجح، فهل صحيح تسعى واشنطن لبناء مجتمع معرفي عربي يقوم على علوم التكنولوجيا الحديثة؟

وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا عمدت واشنطن إلى منع الطلاب العرب والمسلمين من دراسة تخصصات وثيقة الصلة بعلوم التقنية والتكنولوجيا الحديثة بعد أحداث سبتمبر 2001م على واشنطن ونيويورك، وماذا فعلت قوات الاحتلال الأمريكي في العراق لحماية أصحاب الخبرة من العلماء العراقيين أصحاب الكفاءات في مجالات العلوم الدقيقة التي اغتيل منهم حتى الآن تسعة من رموزهم الأكفاء، ومعلوم أن الموساد كان يخطط لتصفية هؤلاء العلماء من قبل الحرب الأمريكية على العراق فهل يتم اغتيال هؤلاء العلماء وتصفيتهم بعيداً عن أعين قوات الاحتلال أم تحت سمعهم وبصرهم وبرضاهم التام؟

وهل كان الكشف عن شبكة العالم الباكستاني عبد القدير خان أبو القنبلة النووية الإسلامية كما يسميه الغرب تمهيداً لتصفيته وتسليط الدور على تلاميذه في باكستان تمهيداً لتتبعهم والتخلص منهم كما هو الشأن مع العلماء العراقيين.

ـ وأخيراً هل فعلاً تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لنشر الديمقراطية في بلادنا، وأنها ضد الاستبداد والظلم الذي كان سبباً رئيسياً في تخلفنا وتراجعنا؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل ستوافق الولايات المتحدة عن نتائج انتخابات يفوز بها حزب إسلامي أو شيوعي مثلاً في العراق أو غيره من البلاد العربية والإسلامية، وهل ستدعم النتيجة في هذه الحالة؟ أم ستهدد باحتلال البلد الذي اختار توجهاً معيناً كما فعلت أوروبا مع الجزائر في الانتخابات التي أسفرت عن فوز التيار الإسلامي وجبهة الإنقاذ في أوائل التسعينيات في أول انتخابات حرة تشهدها الجزائر منذ أكثر من نصف قرن.

هذه بعض الملاحظات السريعة على المشروع الأمريكي الطموح نحو شرق أوسط كبير برؤيته المفروضة علينا لتنقذنا من براثن التخلف والرجعية، وتأخذ بأيدينا نحو مجتمع الرفاهية والحرية والتقدم، أما الرد على المشروع الأمريكي المعيب من جميع جوانبه سواء في التشخيص، أو في وصفه للعلاج، والذي يتدثر برؤية إمبريالية لا ترى الآخر إلا برؤية مشوهة لأنه يرفض التبعية والسير على خطاها.

وكيف يكون لنا مشروعنا النهضوي النابع من داخلنا، والذي تنادى به المصلحون والمفكرون في بلادنا منذ ما يزيد على قرنين من الزمان، الذي يعبر عن ذاتيتنا، ويرتكز على هويتنا الثقافية والدينية، والذي لا يخاصم روح العصر، ولا يعادي المدنية والتقدم فهذا هو حديثنا في المقال القادم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply