بسم الله الرحمن الرحيم
على الرغم من فظاعة العدوان الإسرائيلي على لبنان - وهو الذي لا زال يحصد مئات الأرواح، ويهدم البنية التحتية لدولة برمّتها -، وعلى الرغم من التواطؤ الواضح الفاضح للمجموعة الدولية التي وقعت رهينة الهيمنة الأمريكية ذات البعد الصهيونيº فإن جميع المعطيات توحي بأن عالم ما بعد العدوان على لبنان لن يكون كما كان قبله، لأن المبادرة التي حملتها الولايات المتحدة الأمريكية بغطاء إسرائيلي تحت مسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" سيحدد مستقبل الأنظمة، وطبيعة الدول في المستقبل القريب على الأقل بما يعزّز الهيمنة الأمريكية ببعدها الصهيوني، ويجعلها الموجّه الوحيد في سياسات العالم بعدما أضحت الموجّه الوحيد لثرواته.
* سيناريو أمريكي بإخراج صهيوني:
لقد تحدث المتتبعون كثيراً عن حجم التماهي الواقع بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية، كما تحدثوا كثيراً عن طبيعة النظامين، ومدى التغلغل المؤسساتي فيهما معاً بما يخدم المصلحة المشتركة.
وكثيراً ما اعتُبرت إسرائيل على أنها أكبر من مجرد حليف تقليدي، حيث صُنّفت بأنها المتحكم الرئيس في نظام الحكم الأمريكي بمؤسستيه: الجمهورية والديمقراطية، وهو ما أكده الرئيس جورج والكر بوش الذي أعلن بمجرد توليه الحكم بأن إسرائيل هي الحليف الوحيد والثابت في منطقة الشرق الأوسط.
وبناء على هذه النظرية يتم الإعداد بقوة لدمج الكيان الصهيوني في حلف الناتو، وقد عبّر عن ذلك كثيرون من بينهم رئيس الحكومة الإسبانية السابق: خوسي ماريّا أثنار، وذلك ضمن محاضرة ألقاها في اجتماع لأعضاء الحلف، بل إنه أكد قبل أيام قناعاته على اعتبار أن إسرائيل هي جزء من النظام الديمقراطي الغربي، وأن أي اعتداء عليها يُعتبر اعتداء على الغرب كله.
وتأتي تصريحات كوندوليزا رايس الأخيرة بشأن الأوضاع متماشية مع هذا السياق، فهي ما فتئت تؤكد بأن "آلام لبنان تُعتبر مخاضاً لميلاد شرق أوسط جديد" تتغير من خلاله المعالم، رافضة في السياق نفسه أي تدخل يُرجع المنطقة خطوات إلى الوراء لأن ساعة الحسم النهائي قد بدأت.
ولم تكن مهمة رايس الجديدة بصفتها "قابلة" لهذا المخاض العسير نشازاً لا ينسجم والمسيرةَ العامة للسياسة الأمريكية، لأن ميلاد شرق أوسط جديد يعني خريطة جديدة، ونظاماً عالمياً جديداً، "ووظائف" جديدة.
وضمن هذا السياق نفسه نفهم أن عدوان إسرائيل لم يكن مُجرّد رد فعل على أعمال "غير محسوبة العواقب" مثلما فهمت بعض الأنظمة العربية، وسارعت من ثم إلى إدانة حزب الله عبر التصريحات السياسية من جهة، والفتاوى الدينية من جهة أخرى، وإنما كان التصرف الصهيوني قائماً بناء على مشروع تم تدارسه مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من سنة، ونال موافقة البيت الأبيض وبركته كما نقلت ذلك صحيفة "سان فرنسيسكو كرونيكل".
وكتواصل مع مسيرة الحركة الصهيونية العالمية ذكر دافيد بن غوريون في عام 1957 بأن إسرائيل تنوي استحداث دويلة مسيحية في لبنان، وتضم بعض الأرض اللبنانية وفق ما نُشر رسالة بملحق مذكراته.
وفي عام 1996 حرّر المحافظون الجدد الأمريكيون دراسة أشرف عليها ريتشارد بيرل وتحمل عنوان: "قطيعة حقيقية، إستراتيجية جديدة لتأمين مملكة إسرائيل"، ثم سُلّمت إلى بنيامين ناتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني حينها، وجاء ضمن هذه الوثيقة على السعي لإلغاء اتفاقيات السلام بأوسلو، والقضاء على ياسر عرفات، ثم الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وقلب نظام صدام حسين لإرباك إيران وسوريا، وتفكيك العراق إلى دويلات مع إنشاء دولة فلسطينية داخله، ثم استغلال إسرائيل كقاعدة تكميلية للبرنامج الأمريكي المتعلق بحرب النجوم.
ويظهر أن هذه الدراسة قد وجدت طريقها للتنفيذ، فالكيان الصهيوني أعاد احتلال 7 بالمائة من الأراضي الفلسطينية، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة بالجدار العازل، مع ممارسة حصار اقتصادي على الفلسطينيين، وإلقاء القبض على بعض المنتخبين بما فيهم وزراء.
كما تم دفع منظمة الأمم المتحدة إلى الضغط على سوريا لكي تنسحب من لبنان، وهو ما يعني تمهيد الأرضية لعدوان إسرائيلي مرتقب، مع تداعيات اغتيال رفيق الحريري الذي كان يُحافظ وفق تقارير فرنسية على المصالح الفرنسية في لبنان، ثم تدمير المنشآت الاقتصادية اللبنانية والبنية التحتية، وما تبع ذلك من مقتل المئات، وتشريد مئات الآلاف من اللبنانيين.
وجاءت الوقائع الميدانية مطابقة للمخطط الصهيوني الأمريكي، حيث تم إسقاط نظام صدام حسين في العراق، وفتح الباب على مصراعيه أمام فتنة طائفية بين السنة والشيعة والأكراد تمهيداً لخلق دويلات متعددة داخل الدولة الأم، كما تم إسقاط نظام طالبان بأفغانستان بحجة دعم أسامة بن لادن على خلفية أحداث سبتمبر، علماً أن الخبراء تحدثوا عن تقرير أمريكي كان على طاولة الرئيس الأمريكي جورج والكر بوش في شهر أوت أي شهراً قبل أحداث سبتمبر يقضي بضرورة التدخل العسكري المباشر في أفغانستان، وتبني خيار التغيير الداخلي في إيران، وهذا التقرير أُعدّ في فترة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ولكنّ ظروف المصادقة عليه لم تتم إلا في عهد سيطرة المحافظين الجدد على البيت الأبيض الأمريكي.
ولعل هذه السياسة المتبعة هي التي تفسر ما أكده بوش الابن للرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي سعى لحماية المصالح الفرنسية في لبنان، حيث أكد له في اجتماع الثماني أن "القضية ليست عمليات إسرائيلية بتأييد أمريكي، وإنما عمليات أمريكية بتنفيذ إسرائيلي".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد