تهمة الإبادة الأمريكية : هل تدفع بالقوات الأممية إلى دارفور ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تكثف الإدارة الأمريكية الحالية الحديث عن الإبادة الجماعية التي تحدث في دارفور.

والإبادة الجماعية من محرمات القانون الدولي منذ عام 1946م، فقد أعلنت إذ ذاك الأمم المتحدة بقرارها 96/د/1 ـ المؤرخ في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1946م، أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها، ويدينها العالم المتمدن.

وفي المصطلح الأممي لا تعني الإبادة الجماعية بالضرورة قتل جماعة بأسرها، بل جاء في نص الاتفاقيــة المبــرمة عـام 48م ما يوضحها، إذ تقول:

«في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو عنصرية، أو دينية، بصفتها هذه:

أ ـ قتل أعضاء من الجماعة.

ب ـ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

ج ـ إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.

د ـ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

هـ ـ نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى».

وقد جاءت التهمة الأمريكية بالإبادة الجماعية بعد أن مهدت لها بمزاعمº حاصلُها أن حصيلة القتلى في ولاية دارفور ربما وصلت إلى 300 ألف قتيل وفقاً لبعض اللجان التابعة لمجلس العموم الأمريكي(1). أما الرقم الذي أعلنته منظمة الصحة العالمية فهو نحواً من 70 ألف قتيل وذلك قبيل عام وأربعة أشهر تقريباً، وتذكر بعض المصادر نحواً من 200 ألف قتيل حتى اليوم، أما تقديرات الحكومة السودانية فكانت حتى أبريل من عام 2004م تذكر نحو 600 قتيل على أقصى تقدير، كما ذكر السيد مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية إذ ذاك(2).

وبعد بضعة أشهر من تصريحه كانت الإحصائيات الأممية تتحدث عن نحو 30 ألفاً إلى 50 ألف قتيل، وقد علق الوزير على ذلك قائلاً: إن الأرقام أعلى بعشرة أضعاف من الأرقام الحقيقية.

وقال أمام مؤتمر صحفي عقده في القاهرة: إنه وفقاً للتقديرات الحكومية لا تتجاوز تكلفة النـزاع الدائر منذ 17 شهراً 5000 قتيل من ضمنهم 486 شرطياً. وقال: إن الأرقام مبالغ بها، وأتحدى الأمم المتحدة أن «تعطينا أسماء أو تُرينا قبور» أولئك الذين زعمت أنهم توفوا.

ولعل الوصول إلى حقيقةٍ, وسط هذا التباين عسيرº بيد أن بعض المؤشرات ربما أشارت إلى عدم دقة الإحصاءات الأممية وكذلك الأمريكية، فكما أشار الوزير فإن تلك الأرقام لا تعدو كونها مجرد تكهنات لن تسمي قتلى ولن تعد قبوراً، فهي لم تخرج بإحصائيات من مراكز صحية، وإنما تعويلها على حوادث محدودة، وشهادات وأقاويل لأفراد يقول غيرهم كلاماً آخراً، ونقطة أخرى مهمة تدفع للتشكيك في الإحصاءات الأممية فضلاً عن الأمريكيةº ألا وهي عدم وجود هؤلاء على أرض دارفور التي يتحدثون عن إحصائياتها إلاّ في المدة الأخيرة، فلم يتمكن الصليب الأحمر ولا الجمعيات من الانتشار بأي شكل في دارفور حتى نيسان/أبريل عام 2004م.

والحاصل هنا ثلاث مجموعات للأرقام عن حصيلة القتلى: مجموعة تقدمها الحكومة، وأخرى تقدمها الأمم المتحدة، وثالثة تقدمها الولايات المتحدة بلجانها المختلفة.

* هل الولايات المتحدة جديرة بتقديم مثل هذا الاتهام؟

وأياً ما كان الصوابº فإن السؤال الذي يرتسم في سماء الشرق الأوسط بمداد من دخان وغبار الآليات الأمريكية والحليفة في المنطقة يقول: هل يحق لأمريكا أن تتحدث عن خطر إبادة جماعية في دارفور، فضلاً عن أن تتخذ ذلك ذريعة للتدخل؟

لقد اعترفت الإدارة الأمريكية بمقتل نحو ثلاثين ألف مدني حيث تدخلت في العراق، وقد جاء هذا الاعتراف على لسان الرئيس الأمريكي قبيل مطلع العام الجاري والذي تصاعدت فيه أعمال القتل على نحو غير مسبوق، بينما تميل الجهات المعارضة للاحتلال إلى تقدير عدد القتلى بنحو ثلاثمائة ألف قتيل منذ بداية الحملة، وترى جهات أخرى توصف بالحياد أن عدد القتلى ابتداءً من عام 2003م وحتى اليوم بلغ 49760 قتيلاً وفقاً لما يبث في مصادر الإعلام المنتخبة الموثوقة(1)، وأما قبلها فقد نشرت صحيفة (فيليج فويس) الأمريكية في عدد يوم الأحد الموافق 31/8/2003م استناداً إلى دراسة ميدانية قام بها مئات الأفراد من (حزب الحرية العراقي) الجديد أوصلوا عدد القتلى العراقيين (المدنيين) منذ بداية الضربة الوقائية الأمريكية إلى حوالي 37 ألفاً و 137 قتيلاً، لتكون الحصيلة الإجمالية نحو بضعة وثمانين ألف قتيل، فضلاً عن المعاقين والمهجرين والمشردين.

وفي دراسة أخرى نشرتها قبل عامين تقريباً المجلة البريطانية الطبية (لانسيت) بالتعاون مع جامعة المستنصرية العراقية، قدر عدد المدنيين القتلى ذلك الوقت بنحو من مائة ألف مدني منذ 21 آذار عام 2003م وحتى أيلول عام 2004م، وقبل بضعة أشهر قُدر تجاوز العدد مائتي ألف قتيل، في حين تقدر بعض الجهات العراقية أعداد القتلى بما يربو على ذلك، فضلاً عن المفقودين ـ وهم ألوف ـ اختطفوا أو خرجوا، ولم يعثر لهم على أثر.

ولعــل الثقة فــي الأرقام الصادرة عن مجلات طبية ودراسات ميدانية ربما كانت أكبر، فالدراسات والمسح والإحصاءات أقرب للواقع من تخرصات الرئيس الأمريكي الذي نفى قائده العام (تومي فرانكس) قيامهم بإحصاء لعدد القتلى فقال: «We don't do body counts»(2) وهذا ـ كما لا يخفى ـ أمر مثير للدهشةº ولا سيما إن كان هؤلاء الذين لا يحصون القتلى، الذين سقطوا بأيديهم أو تحت حكمهم أو وصايتهمº يبالغون في عد القتلى بأرض لم يطؤها!

وقد أكدت دراسة صدرت حديثاً(3) من جامعة (جونز هوبكنز) الأميركية، وتُموِّلها جامعة أخرى مرموقة هـي (متشجنMIT) واقعية الدراسات السابقة فقد قال (جيلبرت برنهام) من مدرسة (جونز هوبكنز بلومبرج) للصحة العامة بالولايات المتحدة: «نقدر أنه نتيجةً لغزو التحالف في 18 مارس 2003م توفي 655 ألف عراقي وكانت وفاتهم زيادة على عدد الذين كان يتوقع وفاتهم في وضع لا يوجد فيه صراع». وأضاف أن ذلك يعني أن 2.5 بالمئة من السكان العراقيين لقوا حتفهم نتيجة للغزو والقتال المترتب عليه. ونشرت الخبر شبكة (BBC) في موقعها الإلكتروني تحت عنوان: واحد من بين كل 40 عراقياً يموت في العراق.

الجدير بالذكر هو أن الحكومة البريطانية وكذلك الأمريكية شككتا في هذه الإحصائية نظراً لكونها قائمة على المقابلات مع العائلات بدلاً من إحصاء الجثث جثة جثة! مع أن الدراسة قد شملت نحو 1849 أسرة تضم 12801 فرداً في 47 موقعاً، وقد تم اختيارهم عشوائياً من أنحاء مختلفة في العراق.

فكان من جملة رد الباحثين أن أساليب المسح نفسها استُخدمت لتقدير الوفيات في مناطق صراع أخرى مثل الكونغو وكوسوفو والسودان. بل قال (جيلبرت): «في دارفور استُخدم هذا النهج ذاته... واستُخدم هذا النوع نفسه من الدراسات في شرقي الكونغو، كما استُخدم في البوسنة»(1).

ودافع الباحث (جيلبرت برنهام) عن المنهج الذي اتبعته الدراسة، ووصف صعوبة جمع البيانات في أوقات الحرب.

وقال: إن 31% من العائلات التي شملتها العينة حمَّلوا قوات التحالف مسؤولية وفاة ذويهم.

وإذا بدا جلياً أن الوضع في العراق الرازح تحت نير الإدارة الأمريكية وأحلافها ليس خيراً من الوضع في دارفور، فهل يحق للإدارة الأمريكية أن تتهم غيرها بالإبادة الجماعيةº بينما يباد في العراق شعب بفعلها أو تحت مرآها وسمعها؟ بل وفي أفغانستان وفي كل أرض وطأتها أقدام جندها! ثم هل هي أهل لبسط الأمن حقاً؟

للأسف لم نرَ ما يشهد لها بالريادة في هذا الصدد، أما إشعال الحروب وإثارة النعرات العرقية والطائفية فقد رأينا قدرتها عليها.

بل فضلاً عن المناطق الملتهبةº هل حفظت الولايات المتحدة الأمن في أرضها!

لعل كثيراً من الناس يعلم أن ولاية تكساس ـ وهي ثاني أكبر ولاية من حيث المساحة بعد ألاسكا ـ تبلغ مساحتها نحو مساحة ولاية دارفور الكبرى، ولكن الذي لا يعلمه كثير من الناس هو أن عدد جرائم العنف في تلك الولاية خلال الأعوام ما بين 2000 ـ 2004م قد بلغ ما يربو على الستمائة ألف جريمة وفقاً لإحصائيات وزارة العدل الأمريكية(2)، فتأمل حال من يزعم الإزماع على بسط الأمن!

 

* دوافع الحملة الأمريكية الغربية:

أما الدوافع المعلنة من قبل الإدارة الأمريكية فهي الدوافع الإنسانية، ولعل الدوافع الإنسانية الأمريكية من العسير أن يصدقها العقل العربي ما لم تقرن بعقيدة أو مصالح ظاهرة، وإلاّ فأين تلك الدوافع الإنسانية يوم يباشر الإسرائيليون وظيفتهم في التخريب بكل إخلاص؟! فلا يبالون بهدم المنازل وإن كان فيها من فيها، حتى بلغ عدد القتلى من اللبنانيين خلال شهر نحواً من ألف قتيل، وبينما تقترف الجريمة الإسرائيلية وضح النهار، وتُنقل جهاراً على شاشات التلفزة، ويعج ببثها على رؤوس الأشهاد أثير السماء، وعلى الرغم من أن اليد الإسرائيلية قد طالت بقاعاً خارجة عن حدودها باعتبارها دولاً مستقلة كلبنان وقطاع غزة، وعلى الرغم من أن العالم أدان واستنكر، وشجب وندد، على الرغم من ذلك كله تظل الإدارة الأمريكية في أحسن أحوالها فاقدة لمشاعر الإنسانية بما فيها الحواس الخمس: فلا ترى.. لا تسمع.. ولا تتكلم، فإن نطقت قالت هُجراً، وآذت الأسماع بنصرها العدوان والاستبداد الصهيوني.

ولعله من الطبيعي بعد ذلك أن يشق على الشرق أوسطيين أن يصدقوا الدوافع الإنسانية للإدارة الأمريكية.

ومهما حاولت الإدارة الأمريكية التفريق بين الصورتين تظل القناعة الراسخة في جمهور الشرق الأوسط بأنه لا فارق إلاّ من حيث الأيدلوجية الصهيونية أو المصالح الأمريكية.

وهذا ما يفسر به بعض المعنيين سعي الإدارة الدؤوب للتدخل في منطقة دارفور.

فمن جهة فإن هناك حرباً مستترة بين الولايات المتحدة وفرنسا على مناطق النفوذ في القارة السمراء، وقد اكتسبت أمريكا جولات على أراض كانت السيطرة فيها فرنسية، مثل: زائير، وراوندا، وبوروندي، ولا تزال الحرب سجالاً في كل من: موريتانيا وأفريقيا الوسطى بما فيها تشاد، ولعل من الصعب فصل تطورات الأوضاع في السودان عن الأهداف الفرنسية في تشاد، فتشاد لا تزال في دائرة النفوذ الفرنسي، تتمركز فيها قوات فرنسية، كما تسيطر الشركات الفرنسية على المشروعات النفطية الناشئة فيها، وتذهب بعض التحليلات إلى اعتقاد أن الامتداد بين دارفور وتشاد ليس امتداداً قَبَلياً فقط، بل امتداد نفطي على الأرجح، فالخزانات النفطية الجوفية في تلك الرقعة يتوقع أن تكون ممتدة على جانبي الحدود.

ومن جهة أخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتخفيض وارداتها من نفط الشرق الأوسط بحلول عام 2025م بنسبة 75%، وقد جاءت هذه الدعوة على لسان الرئيس الأمريكي جوج بوش(3)، ولن يتأتى لها ذلك إلاّ مع الاستعانة بموارد النفط في آسيا الوسطى وأفريقيا. ومن وجهة نظر أخرى قد تفسر حرص بعض الأطراف الأوروبية على التدخلº فقد تحدث بعض المحللين عن تداول إمكانية ربط النفط السوداني، تحديداً من مناطق بحر الغزال، بشبكات أنابيب تمتد عبر تشاد إلى ليبيا، بما يسهل تصدير النفط السوداني والتشادي إلى أوروبا عبر سواحل البحر المتوسط. وهو مشروع تحدث عنه إبان اكتشافات النفط السوداني، وثمرته التقليل من تكلفة نقل النفط إلى أوروبا، كما أنه يؤَمِّن للأوروبيين مصادر نفطية إضافية قريبة، ويقلل من اعتماد الأوروبيين على النفط من مناطق يعد حلفها الأمريكي أقوى من الأوروبي.

ومن جهة ثالثة فإن تلك المنطقة الواسعة غنية بالثروات المهملة، فقد أشارت عدة تقارير صحفية إلى وجود معادن وثروات جديرة بالعناية الغربية.

ومن جهة رابعة فإن صورة (التوتسي) و (الهوتو) في راوندا ربما غلبت على مخيلة بعض القوى الدولية أثناء التفكير في شأن دارفور، ولا سيما مع كم أرقام القتلى الهائلة المتداولة في الإعلام الغربي بل العالمي، وقد كان لتأخر تدخل المنظمة الدولية في راوندا مطلع التسعينات من القرن الماضيº للحيلولة دون استمرار التطهير العرقي الذي مارسته مجموعتا التوتسي والهوتو بحق بعضهماº سبباً في إفناء مئات الآلاف في راوندا، وتبعاً لذلك تعطلت كثير من المصالح والطاقات.

ومن جهة خامسة فإن الفرصة سانحة لنشر قيم وأخلاقيات تعتقد صلاحيتها وجدارتَها بالانتشار بعضُ الدول التي عرفت برعاية (التنصير) باسم (التبشير)، وذلك وسط أمة مسلمة يغلب فيها الجهل، وتثار فيها النعرات تجاه كل أصل عربي.

ومن جهة سادسة فإن دخول القوات الأممية قد يمهد في مستقبله إلى ملاحقة المطلوبين أمريكياً بعد أن تعطى المطالبة طابعاً أممياً، أياً كانت مناصبهم.

ومن خلال ما سبق يظهر أن دوافع التدخل متعددة دينية، ودنيوية، وأخلاقية وفقاً للقيم والمعايير الغربية.

* المقترح (الأمريطاني) وتقييمه:

صدر مشروع (بريطاني أمريكي) يتداول الآن بين أروقة الأمم المتحدة، وتأمل أمريكا في موافقة فورية إجماعية عليه، «ومن شأن مشروع القرار الأميركي ـ البريطاني المقترح، في حال صدوره، تخويل تشكيل قوة من 17 ألفاً و300 عسكـري و3 آلاف و300 عنصر من الشرطة المدنية و 16 وحدة شرطة عسكرية»(1).

وإذا استحضرنا مرة أخرى الوضع في العراق وأضفنا إليه حقيقة أخرىº وهي أن عدد القوات الدولية الموجودة في العراق يفوق بنحو عشرة أضعاف القوات المقترحة لدارفور، مع أن مساحة دارفور تزيد على مساحة العراق بقرابة المائة ألف كيلومتر مربع، بدا جلياً أي ضرب من حفظ الأمن أو الحرية والديمقراطية يرجى أن تبسطه تلك القوات! ولا سيما في ظل تدخل تعارضه الدولة.

ولا ينبغي أن يغيب عن فطنة القارئ الكريم أن تعداد السكان في العراق يربو على ستة وعشرين مليوناً، وهذا يمثل نحو خمسة أضعاف سكان دارفور، الأمر الذي يحتم ألاَّ تقل القوات المبسوطة فيها عن خُمسِ التي تم بسطها في العراق لتخرج بنتيجة (مشابهة)! وذلك مع إهمال فارق المساحة، وهذا يتطلب مضاعفة العدد المقترح، طالما كان الوضع على تلك الصورة المأساوية التي تصورها الإدارة الأمريكية.

* التباين في موقف الحكومة إزاء دخول القوات الأممية والأجنبية في مناطق مختلفة:

لعل ما سبق أحد الأسباب التي حَدَت بالرئيس عمر البشير إلى اتخاذ موقف صلب من دخول القوات الأممية، فضلاً عن اقتطاع خمس مساحة السودان من سيادة الدولة بدخول تلك القوات مطلقة اليد، وزِد على ذلك التهديد الاقتصادي الذي قد ينجم عن انفلات الأمور من قبضة الحكومة في مناطق قريبة من حقول النفط، والتي قد يُتغول عليها بدعوى الإشراف وضبط الأمور، وأضف إلى ذلك التهـديـدات الثقـافيـة لرقعـة لـم يكـن ـ حتى عهد قريب ـ يعرف فيها غير الإسلام ديناً بخلاف الجنوب، مع عدم استبعاد تأجيج صراع عرقي قُدِحَت شرارته في تلك الأرض على غرار ما تأجج في العراق من احتراب طائفي وعرقي، وقد يفضي بالبلدين إلى تقسيم ليشهد الشرق الأوسط الجديد دويلات متجاورة متنافرة بينها ما صنع الحداد الأمريكي، وكل ذلك في عصر التكتلات الأممية الغربية، وعلى أحسن الأحوال يظل كيان الدولة هشاً مفتقراً إلى اليد الغربية مدة مديدة.

ولعل مما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو وجود نحو عشرة آلاف من القوات الأممية في أرض السودان بموجب اتفاقية سلام الجنوب، وقد يتساءل البعض: لماذا هذا الموقف المتشنج من البشير تجاه دخول قوات أممية في دارفور مع إذنه الفعلي بوجود قوات أممية في الجنوب؟! وبينما يرى البعض هذا الموقف ضرباً من التعارض والتناقض، يراه آخرون ضرباً من الوعي والنظر النافذ، فالبَونُ بين القوات الأممية في الجنوب والقوات الأممية المقترحة لدارفور كبير، فدخول الأولى تمَّ تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة(1) وهذا يقضي بأن طبيعة تلك القوات محدودة الصلاحيات تتلخص في العمل على مساندة حكومة السودان في حفظ السلام، وتفاصيل عملها وفقاً لنص القرار الصادر من الأمم المتحدة كالتالي(2):

«سيكون هنالك 750 مراقباً عسكرياً سيقومون بأداء مهام المراقبة والتحقق في مناطق مسؤولياتهم المحددة.

من بين قوات حفظ السلام، البالغ تعدادها 10.000 جندي، سيكون هنالك حوالي 4.000 عسكري يشكلون قوة حماية تكون مسئولة عن توفير الحماية لموظفي الأمم المتحدة ومعداتها ومنشآتهاº إضافة إلى مساعدة السلطات السودانية في حماية المدنيين الـمُعرَّضين إلى خطر داهم.

سيكون هنالك 4.000 آخرون يعملون في الأنشطة الإدارية واللوجستيةº إضافة إلى أداء مهام نزع الألغام وإعادة البناء».

فتلك هي مهام القوة الأممية في الجنوب، ولعل هذا ما يفسر عدم الجدية في إكمالهاº إذ لم يرسل من العدد المقرر غير نصفه، مع ما تسرب من تجاوزات مالية وغيرها متعلقة بهذه القوة السلمية(3)، وقد نجم عن ذلك إهمال اللاجئين والنازحين من سكان الجنوب، والذين يقدر تعدادهم بخمسة ملايين نسمة، فلم تقدم لهم الأمم المتحدة أو الولايات الأمريكية أو بريطانيا مع بقية الدول التي تطالب اليوم بإرسال قوات دولية لدارفورº لم تقدم الدعم المقرر، فقد جاء في تقرير المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة أن عدد اللاجئين الذين عادوا للجنوب بمساعدة المفوضية بلغ 10 آلاف شخص من بين 500 ألف شخص، وبينما تكلف الإعادة نحو 376 مليون دولارº لم تتسلم المفوضية العليا سوى 39 مليون دولار، أي قريباً من عُشِر المبلغ المقرر!

وقد صرح الدكتور (لام أكول) ـ وزير الخارجية الجنوبي التابع لحركة تحرير السودان ـ بأن المانحين الذين تعهدوا في العام الماضي بتقديم 5. 4 مليارات للسودان لم يقدموا سوى 30% مما وعدوا به.

هذا ما يتعلق بقوات حفظ السلام الدولية في الجنوب، وأما قوات الاتحاد الأفريقي فلا تتجاوز وظيفتها حفظ بنود اتفاقية (أبوجا) التي تمت برعاية أفريقية، كما أن طبيعة تلك القوات مكونة من خليطº في جملتهم قوات تجمع دولها مع السودان مصالحُ مشتركة كـ: مصر، وليبيا، وموريتانيا، والجزائر، ونيجيريا وغيرها.

وأما القوات الأممية المقترحة لدارفور فقد كانت أولاً مخولة للتدخل تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدةº والذي يخولها صلاحيات مطلقة لفعل ما تراه مناسباً دون كبير اعتبار لوجود دولة لها نظامها، بل ربما كانت الدولة في نظرها شأنها شأن أي جماعة متمردة، وقد جُوبه هذا القرار بالرفض التام من قبل حكومة السودان.

ثم جاء مشروع القرار الأمريكي البريطاني والذي وصفته الحكومة السودانية بأنه: «خبيث ومضلل»، مع أنه صمم باعتباره ضمن الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة، ولكنه في نظر الحكومة صيغ صياغة حملته كل جينات البند السابع الذي يتحدث عن التدخل بالقوة لفرض الأمن، متجاهلاً حكومة السودان، متعاملاً مع الوضع وكأن السودان دولة بلا حكومة، بل أعضاء حكومتها قد يتم التعامل معهم كما يتعامل مع المتمردين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعلى كافة الأصعدة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لعل مما يفسر التصلب إزاء التدخل الأممي هو أن الحكومة قد رأت الآثار التي ترتبت على دخول القوات الأممية تحت الفصل السادس، وعلمت ما قدمته للبلاد وماذا أخرت، وهذا كفيل بوضعها حداً لما كان على شاكلة تلك التدخلات أو أشد خطراً.

ومن جهة ثالثة فإن الحكومة السودانية فيما يبدو تطمع في نقاش مشكلة دارفور ضمن إطارها الإقليمي عن طريق الاتحاد الأفريقي، أو جامعة الدول العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك وفقاً للفصل الثامن المتعلق بالتنظيمات الإقليمية من ميثاق الأمم المتحدة، ولا تريد تدخلاً أممياً مشبوهاً، خاصة مع الإقرار الجزئي بتحسن الأوضاع بعد اتفاق (أبوجا)، بالإضافة إلى اختلاف الصورة المقدمة عن الأوضاع المتدهورة سواء من حيث أعداد الضحايا أو غيرها بين كل من الحكومة والمنظمة الدولية، فبينما تصور الوضع الولايات المتحدة والمنظمات الحقوقية على أنه إبادة جماعية، فإن الحكومة السودانية ترى أن ذلك مبالغ فيهº بل هو مشكلة قصارها أن تكون إقليمية يمكن حلها عبر المنظمات الإقليمية.

ومن جهة رابعة لئن كان دخول القوات الأممية ابتداءً في الجنوب ضمن البند السادس، ربما ساغ اضطراراً نظراً لاشتراط طرف الصراع (الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة قرنق) دخولها وإلزامها به من أجل تحقيق السلام، فليس ثم ما يُلزم الحكومة بذلك من الجهة القانونية في دارفور.

وأخيراً لا ينبغي أن يُغفل احتمال تمهيد الدخول إلى المطالبة بمجرمي حرب وفق التقييم الأمريكي، ومن ثم تنفيذ قرار المطالبة من قبل القوات الأممية إذا تم تبنِّيه، وهذا ما قد يطال مسئولين ربما كان تسليمهم تسليماً لسيادة الدولة بكاملها على أرضها. وكل تلك عوامل معتبرة في القرار السوداني.

 

*يار الحكومة السودانية وواجبها:

عوداً على بدءº وعلى الرغم من كل ما قد قيلº فإنه لا ينبغي أن تتلكأ الحكومة السودانية في البحث عن حل شامل لمشكلة دارفور، فلاشك أن في دارفور خللاً ينبغي أن يسدد، وشيء من انفلات أمني يجب أن يحفظ، ولئن كان الوضـع في تحـسن ـ باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة ـ فإن عجلة ذلك التحسن غير مرضية من جهة، كما أن العوارض التي تعتريها ربما أرجعتها القهقرى ما لم تتخذ التدابير الكافية.

ولعل حفظ الأمن في تلك الرقعة، التي لا تزال مضطربة، من جملة واجبات الدولة، ولا يفترض أن تنتظر موافقة الأمم المتحدة على خطة مقدمة منها لأجل حفظ الأمن، ولئن كانت الدولة على قناعة من أن بسطها عشرة آلاف جندي كفيل بإحلال الأمنº فحري بها أن تبادر إلى تطبيق ذلك.

وإلاّº فإن التقاعس وعدم طرح البرامج العملية لحل المشكلة كفيل بالتمهيد لدخول القوات الأممية ولو بعد حــين، بخــلاف ما لو تولت الدولة زمام المبادرة، وسجلت وجوداً في أرض الواقع قبل غيرها، وسعت في علاج الوضع الراهن، فربما أكسبها ذلك نقطة في الصراع من أجل حل الأزمة. ولعل هذه الخطوة لا بد منها لأجل ضبط الأوضاع، وإن أجلبت عليها بخيلها ورجلها بعض المنظمات الحقوقية التي تعتبر الحكومة السودانية، إلى جانب المليشيات، شريكاً في الإبادة المزعومة.

ومن الأمور التي تَسَعُ الحكومة أيضاً العملُ على تفعيل قوات الاتحاد الأفريقي للقيام بدور أكثر إيجابية، فالذي يظهر من التصريحات والتقارير الأممية والأمريكية وجود قنـاعة بـأنه لا سبيل لإحلال قوات بديلة عن القوات الأفريقية قبيل مطلع العام المقبل، مع التصريح بضرورة العمل على تحسين أدائها، كما يظهر من تصريحات الحكومة رضاها بالتعامل مع القوات الأفريقية، ولذا حسنت استفادتها من تلك القوات ذات الكم المقدر والبالغ نحو سبعة آلاف.

وعلى صعيد آخر لا بد من التحسب لرد الفعل الأممي الذي ربما تطور إلى نوع من فرض العقوبات الاقتصادية، كـ: منع تصدير النفط وغيره، وتحجيم ورود أنواع الحاجيات، ويكون ذلك ببذل الجهد السياسي الواعي الذي لا يغفل تفعيل الأحلاف الإقليمية ـ على ضعفها ـ لإيقاف تمرير قرار كهذا من شأنه أن يقهقر العملية السلمية في المنطقة، ويزيد معاناة المنكوبين أضعافاً، وبالإضافة إلى الجهد السياسيº لا بد من تفعيل جهود داخلية لإدخال الشعار القديم المتهالك: «نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع» حيز التنفيذ من جديد.

وأما الجبهة الداخلية فلا مناص من العمل على توحيدها على المصالح الوطنية، وهذا يتطلب التعامل مع أذرع المعارضة الداخلية المختلفة، والاستعانة بأولئك الذين يمانعون دخول القوات على الداعين إليها، والعمل على توعية من يعي منهم بسلبيات التدخل الأجنبي على المصالح الوطنية، والتي ربما جاء يوم من الدهر فملكوا زمام التصرف فيها، مع عدم إغفال خطاب القاعدة الشعبية وتنويرها، عن طريق الوسائل الإعلامية، بسلبيات دخول القوات الأممية.

ومما ينبغي التحسب له أيضاً رد الفعل الأمريكي المحتمل، والذي قد يصل إلى الدعم المباشر لأذرع التمرد، ولا مناص من التعامل معه سياسياً بالترغيب والترهيب، وعسكرياً بالتعبئة الجادة، مع التيقظ والردع الصارم.

وفي هذا الصدد يتوقع بعض المحللين بعض الخيارات الأممية المفتوحة، مثل: التدخل القسري المبـاشر في دارفور، أو التعامل مع رأس القيادة في الخرطوم، ولعل هذه الخيارات مستبعدة على الأقل في الوقت الراهن، على أن أقربها منالاً للحكومة الأمريكية التدخل القسري باستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، وهذا له آثار سلبية من شأنها تفجير الأوضاع في دارفور وغيرها، الأمر الذي لن يكفل تحقيق مصالح غربية، ولا قيم إنسانية، ولا سيما مع عرض الحكومة حل الأزمة بإرسال قوات قوامها نحو عشرة آلاف جندي إلى هناك.

ومن تأمل ماضي الخلاف حول قضية دارفور يجد أن الحكومة السودانية، خلافاً لما يصوره البعض، قد أفلحت في كسب نقاط على المائدة الدولية، وحسبك أن العقوبات كان يراد لها أن تُفرَض على الحكومة منذ يونيو 2004م، وفقاً للقرار 1556، بالإضافة إلى التغير الملموس في المقترح الأمريكي ليكون التدخل الأممي أقل حدة في مشروعه الجديد من سابقه المقترح تحت البند السابع، ولعل الحكومة السودانـية تستطـيع ـ بموقفها الصلب المعلن وعملها السياسي الدؤوب ـ التقليل من حدة المشروع الأخير، ليكون الخيار الأسوأ دخول قوات حفظ السلام الأممية تحت الفصل السادس وفقاً لمشروع يهذب المشروع (الأمريكي البريطاني) من بعض ما جاء فيه.

وبعدº فيظل المطلوب من الحكومة كثيراً.

 

----------------------------------------

(1) ينظر:. http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid4392000/4392535.stm

(2) وفقاً لما نَقَلته هيومن رايتس وواتش، ينظر:. http://www.hrw.org/arabic/reports/2004/sudan-dar8.htm

(1) يراجع مشروع (IRAQ BODY COUNT) على الرابط التالي:. http://www.iraqbodycount.org/

والبيانات في ازدياد مطرد على الرغم من الملاحظات على المشروع والتي تحجم عدد القتلىº لاعتمادها على بضعة مصادر إعلامية تحصر ما يذاع فيها.

(2) تناقلته وكالات الأنباء، وانظر مثلاً: (البي بي سي) على الرابط التالي:. http://news.bbc.co.uk/2/hi/middleeast/3672298.stm

(3) نشرت الدراسة في مجلة (لانسيت) الطبية البريطانية الشهيرة يوم الأربعاء 11/10/2006م، وقد قام بالدراسة أربعة من أساتذة الطب في كلية (بلوم بيرج) للصحة العامة بجامعة (جونز هوبكنز) في (بولتيمور) في ولاية ميريلاند الأميركية القريبة من واشنطن.

(1) كان ذلك في حلقة برنامج قناة الجزيرة الفضائية: (من واشنطن) بتاريخ 16/10/2006م، وفي موقع القناة نسخة من الحلقة على الرابط التالي:

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/89AD5F8A-CD2F-49E2-BF1C-4989BC8054F0.htm.

وقد أشارت وكالات الأنباء والصحف الدولية إلى هذه الدراسة في حينها.

(2) يمكن مراجعة الإحصائيات عن مكتب إحصائيات العدالة التابع لوزارة العدل على الرابط التالي:

http://bjsdata.ojp.usdoj.gov/dataonline/Search/Crime/State/TrendsInOneVar.cfm.

(3) وقد تناقلتها وسائل الإعلام وكثر حولها الجدل، ينظر الرابط التالي من موقع صحيفة القاردين البريطانية:

http://www.guardian.co.uk/usa/story/0،، 1700182، 00.html.

(1) ينظر الرابط التالي عن مكتب برنامج الإعلام الخارجي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية:

http://usinfo.state.gov/ar/Archive/2006/Aug/18-804383.html.

(1) يحسن الرجوع لميثاق الأمم المتحدة لمعرفة بنود الفصل السادس والسابع، وعلى رابط المنظمة الدولية التالي نسخة من الميثاق:

http://www.un.org/arabic/aboutun/charter/charter.htm.

(2) وذلك وفقاً لما جاء في قسم الوحدة العسكرية في صفحة بعثة الأمم المتحدة في السودان التابعة لموقع المنظمة الدولية، ينظر الرابط:

http://www.unmis.org/arabic/military.htm.

(3) وذلك وفقاً لما ذكر في ندوة صحيفة الأهرام بعنوان: «دارفور..مؤامرة تحت التنفيذ»، قدَّمها محمود مراد، وشارك فيها القائم بأعمال السفارة السودانية في القاهرة وآخرون، وذلك يوم الخميس بتاريخ 30/7/1427هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply