في غفلة من كل الأطراف العربيّة والإسلاميّة - والتي لا تتحرك دائماً إلا بعد خراب الدّيار - يواجه السودان حملة دبلوماسية دعائية وسياسية لفرض التدخل الأجنبي في إقليم دارفور، بعد أن اقترب اندمال جرح تمرد الجنوب حسب (الروشتة) والوصفة الأمريكية البريطانيّة الصهيونيّة.
وقد استبقت الحكومة السودانية هذه الحملة الدبلوماسية بالإعلان عن اتفاقها مع تشاد على نزع أسلحة المتمردين وقبائل "الجاجنويد" العربية التي تحملها واشنطن وكافة الأطراف الدوليّة مسؤولية تردي الأوضاع الإنسانيّة في"دارفور"، كما عين البشير وزير داخليته اللواء عبد الرحيم محمد حسين ممثلاً شخصيّاً له في دارفور، في إشارة إلى جدّية الحكومة في حل مشكلة التمرد.
وعلى الرغم من ذلك طالب متمردو "حركة تحرير السودان" بإقامة منطقة حظر للطّيران العسكري، وتسهيل حرية الحركة لعمّال الإغاثة، وإجراء تحقيق قضائي فيما أسمته "جرائم حرب" في دارفور، ومقاضاة المسؤولين عن ذلك بموجب القانون الدوليّ، قبل الشّروع في أيّ مفاوضات سياسية مع الخرطوم، وقالت الحركة: إنها ستقدّم مطالبها هذه لوزير الخارجية الأمريكية "كولن باول" والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان خلال زيارتهما السودان، وكانت الخرطوم قد وقعت اتفاقاً لوقف إطلاق النار لأغراض إنسانيّة مع حركتي التمرد الرئيسيتين في دارفور يوم 8-4-2004، لكن الجانبين يتبادلان منذ ذلك الحين اتهامات بانتهاك وقف إطلاق النار، و"حركة العدالة والمساواة" هي الفصيل الثاني الرئيسي المتمرد في دارفور.
نشأة الصّراع في دارفور:
وتعود الأسباب الرئيسة للوضع الراهن في دارفور إلى ديناميكيّات الصّراع على الموارد الأساسية في المنطقة حول المراعي والمياه، وهو صراع ارتبط بالتدهور المناخي الشديد والواسع النطاق الذي نجم بصورة أساسيّة عن ظروف الجفاف والتصحّر التي ضربت المِنطقة لمدة لا تقلّ عن ثلاثة عقود متصلة، علماً بأنّ معظم سكان دارفور يحترفون الزراعة والرعي كحِرفتين أساسيتين، الأمر الذي يؤدي دائماً إلى حدوث احتكاكات ونزاعات بين القبائل التي تعتمد في معيشتها على الرعي، وتلك التي تعتمد على الزّراعة.
غير أنّ تلك الاحتكاكات والتراكمات والنزاعات كان يتمّ احتواؤها بوساطة أعيان القبائل وفق أنماط متعارف عليها محلّياً، ولكن التدهور المناخي والبيئي أدّى إلى انكماش المساحات المتاحة للمرعى، وضمور موارد المياه، الأمر الذي زاد وتيرة الاحتكاكات القبليّة، وتصاعد حِدّتها، في وقت تراجع فيه دور الإدارة الأهليّة وعجزها عن السيطرة على هذه النزاعات، بالإضافة إلى تأثير بعض القوى السياسية على حركات التمرد الحالية، وتحويل الصراع إلى صراع دمويّ واسع النطاق بدعم من متمردي الجنوب وبعض عناصر المعارضة الشماليّة، وحيال تفاقم الوضع حاولت الحكومة جاهدة احتواء الأزمة، وإتاحة الفرصة للتفاهم والحلول السلميّة، واستمرت لأكثر من تسعة أشهر تمارس سياسة ضبط النفس، غير أنّ لجوء التمرد إلى أنشطة تدميرية أضرت ببنية المجتمع والدولة، مما أجبر الحكومة على التدخل باستخدام القوة من أجل فرض هيبة القانون والنظام.
أمّا ما يتردد عن انتهاكات الحكومة لحقوق الإنسان فإنّ حقائق الواقع تقول: إنّ الحكومة قد اجتهدت لحماية المواطنين وممتلكاتهم من الاعتداءات التي يقوم بها المتمردون، علماً بأنّ التمرّد هو الذي مارس انتهاكات حقوق الإنسان من خلال عمليات القتل والخطف، وممارسة مختلف أنواع الضغوط على المواطنينº الأمر الذي جعل المجموعات الأخرى تحمل السلاح للدّفاع عن نفسها.
وقد حاول التمرّد استغلال وسائل الإعلام ليمارس الضغوط على الحكومة من خلال اتهامها بممارسة انتهاكات ضدّ حقوق الإنسان، وفي هذا الخصوص يلاحظ أنّ الكثير من الجهات توجه الاتهامات للحكومة فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وفي تجاهل تام لما يرتكبه التمرد وهو ما يمثل خطأً جسيماًº لأنّ ذلك يعني تشجيع المتمرّدين على التّمادي في انتهاكات حقوق الإنسان، وقد اشتملت الانتهاكات الواسعة التي يمارسها المتمرّدون الضغط على النازحين واللاجئين لمنعهم من العودة لديارهم قبل فصل الخريف للحاق بالموسم الزراعي.
مسؤولية الحكومة:
ورغم ذلك حاولت الخرطوم الاجتهاد في زيادة الخدمات في منطقة دارفور، وقد تضمّن ذلك تطوير نظام التعليم والصّحّة والنظام الإداري، وتشجيع الاستثمار، وتوضح الأرقام الزيادة الكبيرة في مجال الخدمات الأساسيّة خاصة في التعليم والصحة، وتكفي الإشارة هنا إلى وجود ثلاث جامعات بولايات دارفور.
أما فيما يتصل بالمشاركة السياسيّة لأبناء دارفور فقد تطوّرت في جميع المجالات، وعلى جميع المستويات الاتحادية والولائيّة، إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه هنا أنّ الضغوط الاقتصاديّة الخارجيّة والتي تتمثل في العقوبات، ومشكلة الدّيون، إضافة لإيقاف المعونات الاقتصاديّة، وتجميد حقوق السودان في إطار اتفاقية" لومي "، والشروط المجحفة للتجارة الخارجيّة، وارتفاع أسعار السلع والمواد الخام كل ذلك أفرز ضغوطاً اقتصادية هائلة أثرت على جهد الدولة في معالجة الاختناقات التنموية في دارفور، وبقية أنحاء السودان، وقد أدّى ذلك بدوره إلى تداعيات أسهمت في تغذية الصراع الحالي في دارفور.
ونستطيع أن نقرّر أنّ الحكومة السودانيّة تعاملت مع أزمة دارفور بكثير من التروّي والعقلانيّة، وحتى العمليات الحربيّة التي جرت في مقاطعة دارفور كانت عمليّات مفروضة، إذ لا يعقل أنّ دولة ذات سيادة تقبل لشرذمة من المتمردين أن يتسللوا إلى عمق المدن، ويحطموا الطائرات، ويحرقوا الأسواق، ويخربوا المؤسسات، ثم إنّ العمليات نفسها كانت محدودة ومحكمةº لولا أنّ هنالك جهات إقليميّة وعالميّة سوقت لتداعيات هذه العمليات وحالات التشرد والنزوح التي يمكن أن تفرزها أيّ عمليات حربية في العالم.
الدور الأجنبي:
وفي الحقيقة فإنّ هناك أكثر من سبب يجعل السودان في مقدمة أجندة كثير من القوى العالمية والإقليميّة، حيث يجاور السودان تسعة دول افريقية متعددة الأزَمَات والديانات واللغات، وأمن كل هذه الأنظمة مرتبط بصورة أو بأخرى بأمن السودانº فمعظم قبائل السودان الحدوديّة في الشمال والشرق والغرب والجنوب هي قبائل مشتركة، نصفها في السودان ونصفها الآخر في الدولة المجاورة، فضلاً عن أنّ السودان دولة بمساحة مليون ميل مربع صالحة للزراعة والصناعة، ويرقد على موار هائلة من المياه الجوفية، والمعادن، والنفط، والثروات، وتجري تحته الأنهار.
ومن جهة أخرى تنظر بريطانيا على الدوام للسودان على أنّه مستعمرة تاريخيّة، ويجب أن تظل هذه (الفريسة الأفريقية) تحت مجهر التاج البريطاني، كما تنظر فرنسا إلى السودان كدولة مهمة تجاور (الشريط الفرنسي الأفريقي) والذي له أكثر من باب يفتح على السودان، ولابدّ أن تؤمّن هذه الأبواب جميعها.
ثم يأتي دور الولايات المتحدة الأمريكية (أسد هذه الغابة الكبيرة) في ظل انعدام التوازن العالمي، وهذا الأسد في عالمه الجديد يرى أنّ كل الصيد في الغابة العالمية هو ملكه، ولا يذهب شيء إلى أحد، ولو كانت عشيقته بريطانيا إلا بعد إذنه وعلمه.
والسودان دولة متعددة الأعراق، ومتباينة المعتقدات والأعراق والأمزجة، ولم يفلح السودانيون منذ عام 1956م حيث نال السودان استقلاله أن يصهروا هذه المكونات المختلفة لصالح صناعة شخصيّة محوريّة سودانيّة يشار إليهاº فلقد ظل الشمالي شمالياً، والجنوبي جنوبياً حيث ساعدت الأجندة العالميّة الاستعماريّة في ثقافة " تعميق الخلافات "بحيث يصبح السودان كله مناطق قابلة لفتح الجبهات المحترقة متى ما أرادت القوى الأجنبيّة، ويذكر أنّ مشكلة جنوب السودان التاريخيّة صنعها البريطانيون منذ أمد بعيد.
فالمسوّق الرئيسي في جبهة دارفور وتعميق أزمتها هي جهات لها مصالح متشابكة في مقدمتها (إزالة الحكومة الإسلامية الوطنية)، وإن لم تتمّ هذه الإزالة بالكامل فليس أقل من زعزعة الأمن، وخلق حالة من عدم الاستقرار حتى لا تحقّق هذه الحكومة الأصولية (برأيهم) أي مكتسبات وإنجازات تكون مبرراً لاستمراريتها.
ثم إنّ هنالك مصالح إقليمية متشابكة وأجندة قبلية متقاطعة، وما كان لهذه الأجندة الصغيرة أن تطفو على السطح لولا التّسويق العالميº فهذه (الفتن المحلية) ظلت خامدة، والقبائل في المنطقة تمارس فضيلة المعايشة منذ سنين بعيدة، وحلّ الإشكاليّات العارضة حول المراعي وموارد المياه في حينها، لكن لما خمدت النيران في الجنوب والشرق حوّل المُمَوّلون وسماسرة الحرب الإقليميين والعالميين استثماراتهم وإمداداتهم لدارفور وإلا من أين تأتي هذه الأسلحة والآليات التي تقدر بملايين الدولارات والتي تذكي هذه الفتنة؟!
فضلاً عن ذلك هنالك فصائل في المعارضة السودانيّة تحاول الوصول إلى سدة الحكم على جثث هؤلاء الأبرياء وتمزيقهم.
كما يبرز الدور الأريتري السلبي الذي يتمثل في احتضان حركات التمرد، ودعمها بالمال والسلاح وغير ذلك من الوسائل، كما أنّ بعض المنظمات التي تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة تسهم في تغذية الصراع من خلال ما تتيحه للتمرد من منابر إعلامية وسياسية، ومن اتهامات للحكومة بانتهاك حقوق الإنسان بهدف تصعيد الضغوط ضد الحكومة، الأمر الذي يصب في مصلحة التمرّد، وهو ما يعني إطالة أمد الصراع، وتراجع الحلول السياسية في الوقت الذي تحرص فيه الخرطوم على الحلّ السياسيّ السلميّ من خلال التفاوض الدائر الآن بقيادة تشاد.
الدّور الصّهيونيّ:
مشكلة السودان الأساسيّة هي مع الصهيونيّة التي تريد عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي، فللصّهاينة دور واضح في حرب الجنوب في محاولة لخلق دولة منفصلة معادية للعرب على مجرى النيل ولا تربطها روابط بمصر، بهدف السيطرة على المياه، وليٌّ ذراع كل من مصر والسودان، وقد سبق للكيان الصّهيونيّ تقديم مساعدات للحركة الشعبيّة لدى انفجار التمرّد مما مكنها من مهاجمة مشروع قناة (جونجلي) لحفظ مياه النهر من التبخر في الجنوب، ومما لا شك فيه أنّ الصهاينة يعملون في الوقت الراهن على تحريض بعض الدول على مجرى النيل لإعادة اقتسام المياه.
وإزاء هذه النظرة الشاملة لأزمة دارفور، وأطرافها المسلمين، ينبغي على كافة الحكومات العربية والإسلاميّة مدّ العون لكل الشعب السوداني لإخراجه من محنته المتلاحقةº إذ من المنتظر أن تنفجر الأوضاع مجدّدًا في شرق السودان حيث قبائل"البجا "، وفي الشمال حيث حركة "كوش" التي تطالب بتنمية مناطقها الفقيرة، وكل ذلك دون أن تشير مقرّرات قمة المؤتمر الإسلاميّ والقمّة العربيّة بفعاليّة إلى علاج الجسد السودانيّ المقبل على التّفَــتٌّت.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد