الملف الصحفي: السودان:
لقد كان الخلاف بين شمال السودان وجنوبه متمثلا في العديد من القضايا، وكانت هذه القضايا تمثل دائما أبرز نقاط التحاور خلال المفاوضات التي دارت بين الطرفين في وجود الوساطات المختلفة، وكان على قمة هذه القضايا تقاسم الثروات، وتقاسم الأمن والسلطة، وعملة البلاد الوطنية، وإعادة توزيع بعض المناطق المهمشة، وعاصمة البلاد القومية وسوف نتناول هذه الخلافات لإلقاء الضوء على كل منها ولتوضيح وجهة نظر كلا الطرفين مع إعطاء الصيغة النهائية للاتفاق القائم.
تقاسم الثروات
تم الاتفاق على تكوين لجنة قومية في الفترة الانتقالية لتوزيع الموارد تتكون من ممثلين للحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب ووزراء المالية في كل الولايات، بجانب اختصاصيين تعينهم رئاسة الجمهورية وممثلين لوزارتي العدل والاستثمار، دون أن يتم تحديد الصلاحيات وطرائق إدارة عمل اللجنة. وقد تم الاتفاق على إنشاء مفوضية خاصة بالنفط يرأسها وزير الطاقة.
وتعتبر قضية النفط في هذا المحور أعقد قضايا الخلاف خاصة فيما يتعلق بأمر تقسيم النسب بين الحكومة المركزية وحكومة الجنوب، حيث كانت الحركة تطالب بنسبة 67% من البترول، ثم اتفق الطرفان على اقتسام عوائد نفط الجنوب مناصفة بين الطرفين وألا يطالب الجنوبيون بأي عائد من نفط الشمال.
وقد أسهم اكتشاف النفط بكميات تجارية في جنوب السودان ومنح تراخيص في نوفمبر من عام 1974م لشركة شيفرون الأميركية للتنقيب في مساحة مقدارها 16. 5 ألف كم2، في توسيع فارق الثقة المفقود بين الجنوبيين وحكومة الخرطوم. وتتعاظم أهمية النفط لارتباطه بمصالح ودوائر دولية مؤثرة خاصة في أميركا.
وقد رأت حركة التمرد الشعبية لما يسمى بتحرير السودان بقيادة جرانج أنها أحق بثروات الجنوب، حيث يرون أن يكون لمناطق الثروات نصيب أكبر من الحكومة الاتحادية. يضاف إلى ذلك ضعف بناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب بسبب الحرب، مما يتطلب تكلفة مالية عالية يجب أن تقدر في توزيع النسب.
وفي الوقت الذي تأخذ فيه حكومة البشير بتلك الاعتبارات فإنها ترى في موقف الحركة مغالاة وشططاً يبلغ بها حد الطمع في الاستحواذ على ما يفوق الـ 70% من الثروة، الأمر الذي قد يثير تعقيدات وأزمات حادة وثورات في بقية الولايات.
وتفيد بعض المعلومات غير المؤكدة أن الحركة في مفاوضات أكتوبر الماضية وافقت على عدم مراجعة عقود البترول التي وقعتها الحكومة السودانية مع شركات صينية وماليزية وغيرهما، الأمر الذي - إذا صح - سيكون خطوة مهمة في طمأنة الحكومة وحلفائها الاقتصاديين خاصة من دول شرق آسيا الذين لهم مخاوف من وضع القدم الأميركية في هذه المنطقة. وتفيد مصادر حكومية أن الجانبين اتفقا على النظام الضريبي في المستويات الاتحادية والولائية على أسس المحاسبة المالية اعتماداً على مبدأ الشفافية.
وكان تقرير قد صدر من وزارة الطاقة الأميركية حمل موقفاً إيجابيا من التعامل الاقتصادي للحكومة في جانب موافقتها على شفافية عوائد النفط. وتأتي الإشارة الأميركية في سياق اتهامات وشكوك واسعة تحيط بعملية الإدارة الاقتصادية لعوائد النفط، حيث يتردد الحديث عن وجود صفقات سرية ودورة مالية باطنية تشرف على ضبط تلك العوائد.
العملة الوطنية
تصر الحركة الشعبية على أن تكون لحكومة الجنوب عملة وسياسة نقدية خاصة بها، وهو ما تعترض عليه الحكومة بشدة وتدلل به على وجود نوايا انفصالية مستترة للحركة، غير أن الأخيرة من جانبها تنفي ذلك وتبرر للاقتراح بأنها تريد إدارة اقتصادها وفق أسبقيات محددة دون أن تفرض عليها قيود من قبل الحكومات الاتحادية. ولقد مضت الحركة في اتجاه إقرار الواقع حيث اعترفت في أكتوبر الماضي بأنها شرعت في طباعة عملتها.
ولكن في المقابل يجد موقف الحكومة الرافض لتخصيص عملة وسياسة نقدية منفصلة للجنوب مساندة قوية من قبل خبراء البنك وصندوق النقد الدوليين الذين يرون أنه لا يمكن إدارة دولة واحدة بعملتين مختلفتين وسياستين نقديتين منفصلتين. ويرى البعض أن الحركة تستخدم ورقة العملة والسياسة النقدية كأوراق تكتيكية للحصول على مكتسبات أخرى في ملفي السلطة والمناطق الثلاث.
ويردد بعض أعضاء وفد الحكومة المفاوض أن الحركة لا تريد إتمام الاتفاق على ملف الثروة قبل أن تصل لحلول -تناسبها هي- تحفظ بها توازناتها الداخلية خاصة في ملف المناطق الثلاث.
المناطق المهمشة
وهي مناطق تحسب حالياً على شمال السودان ولكن الحركة تريد إلحاقها بالجنوب وفق حجج تاريخية وسياسية وهي: جبال النوبة، وأبيي، والنيل الأزرق.
جبال النوبة
وهي مناطق ذات أغلبية سكانية أفريقية وتنشط فيها الكنائس المسيحية التي شهدت تمرداً عسكرياً على حكومة الخرطوم عام 1987، إلى أن استقر بها الوضع بعد التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار بين حكومة السودان والحركة الشعبية بجنيف في يناير/ كانون الثاني 2002 خضعت بعده المنطقة لإدارة ثلاثية مشتركة بين الحكومة والحركة وممثلين لبعثة الدول العربية، مع وجود رقابة دولية عسكرية على اتفاق وقف إطلاق النار.
منطقة أبيي
وهنالك منطقة أبيي التماسية التي تبعد 50 كلم عن بحر العرب [نهر صغير بين الشمال والجنوب|]، وهي منطقة يعيش فيها خليط من القبائل الأفريقية والعربية ومعظمها رعوية، وكل طرف يدعي سيادته التاريخية على المنطقة ويصف الآخرين 'بالغرباء'. وتعتبر أبيي أكثر المناطق الثلاث حساسية في ملفات التفاوض لاعتبارات اجتماعية وثقافية واقتصادية متعددة.
وأكثر نقاط الحساسية في تناول قضية أبيي أن عدداً مقدراً من أبناء المنطقة هم قيادات في الحركة الشعبية ويتفاوضون باسمها، وفي المقابل تعتبر القبائل العربية [المسيرية والرزيقات] القاطنة في تلك المنطقة حلفاء إستراتيجيين لكل الحكومات التي تعاقبت على السودان، حيث كانت تلك القبائل تمثل حائط صد قويا في وجه حركات التمرد الجنوبية المسلحة. كما أن هنالك عدداً مقدراً من قيادات الجيش السوداني ينتمون إلى تلك القبائل.
وترى الحركة أن أبيي كانت تابعة للجنوب لمديرية بحر الغزال قبل 1905، ولكنها ضمت من قبل الحاكم العام البريطاني للشمال مديرية كردفان بقرار إداري.
وتطالب الحركة بإعادتها إلى الجنوب بقرار إداري مماثل يصدر من رئيس الجمهورية، ولكن الحكومة ترى أن منطقة أبيي منطقة تمازج بين المسيرية والدينكا - القبيلة التي ينتمي إليها قائد الحركة جون قرنق - على مدى حقب طويلة تتجاوز القرن السابق.
وتستند الحكومة إلى مذكرات وتقارير أعدتها الإدارة الاستعمارية البريطانية بأن قبيلة الدينكا أنقوك المقيمة هنالك ظلت على حرصها ومثابرتها بأن تكون إلى جانب المسيرية في شمال السودان، وأن ناظر الدينكا كوال أروب عندما خيرته الإدارة البريطانية بين البقاء في الشمال أو الالتحاق بالجنوب في 1934 فضل الشمال على الجنوب. وعندما مات الناظر كوال وخلفه ابنه دينق مجوك الذي طرح عليه مرة أخرى أمر العودة إلى الجنوب عام 1951 اختار بدوره البقاء في الشمال.
اختيار دينكا أنقوك لمرتين البقاء في الشمال يجد بعض التفسيرات من قبل قيادة الحركة الشعبية، التي ترى أن القرار كان فوقياً صادراً من ناظر الدينكا لاعتبارات اقتصادية واجتماعية خاصة به، ومتعلقة بوضعه كزعيم في الشمال يحظى بامتيازات أكبر من نظرائه في الجنوب.
وتقول الحركة إن هنالك متغيراً كبيراً طرأ على العلاقة بين الدينكا والعرب في منطقة أبيي في عهد الرئيس إبراهيم عبود الذي حكم السودان من 1958-1964، وحاول إنهاء مشكلة الجنوب عبر العمل العسكري مع برنامج للأسلمة والتعريب، في ذلك الوقت تأثرت العلاقة بين الدينكا والمسيرية سلباً بتلك السياسات وبدأت مجموعات كبيرة من أبناء دينكا أبيي تتجه للالتحاق بحركات التمرد الجنوبية، وحالياً يعتبر أبناء الناظر دينق مجوك هم من أبرز القيادات العسكرية في الحركة الشعبية.
منطقة النيل الأزرق
أما منطقة النيل الأزرق الضلع الثالث في مثلث الأزمة والتي تسيطر الحركة على بعض مناطقها ويوجد عدد من أبنائها ضمن صفوفها، فإنها ألحقت بجبال النوبة وأبيي لاعتبارات داخلية متعلقة بالحركة التي تقترح بأن تدار جبال النوبة والنيل الأزرق بواسطة رئاسة الجمهورية، وتوضعا تحت إدارة نائب الرئيس الذي هو رئيس حكومة الإقليم الجنوبي.
وتتمسك بمعاملة المناطق الثلاث [أبيي وجبال النوبة والنيل الأزرق] بشكل مواز للجنوب، وترى أن تُدار تلك المناطق على نمط مشابه لإدارة الجنوب بحيث تستثنى من تطبيق الشريعة الإسلامية.
ورغم أن الحكومة رفضت مبدأ التفاوض حول المناطق الثلاث تحت مظلة الإيغاد المعنية في الأصل بإحلال السلام في جنوب السودان فقط، ولكنها عادت وتراجعت عن ذلك الموقف، وفق منطق يقول إنها لا تمانع في التداول حول هذه المناطق، باعتبار أن المشاكل والمظالم التي تعاني منها مماثلة تماماً لمناطق أخرى بعضها على بضعة كيلومترات من العاصمة الخرطوم.
والحرج الذي تقع فيه الحركة الشعبية وهي تقصر اهتمامها التفاوضي في الجنوب والمناطق الثلاث، هو أنها تطرح نفسها كحركة قومية تريد التحول إلى حزب سياسي، بينما تبني مطالبها على تحقيق مكاسب لجهات ومناطق محددة، ويكون الرابط الإثني هو الناظم المركزي لعلاقاتها، الأمر الذي قد يثير عليها غضب واستياء جهات ترى نفسها خارج أطروحات الحركة التفاوضية، بل إن مآلات التفاوض لا تسير في اتجاه مصالحها -إن لم تكن تسير ضدها- رغم أن الحركة حاولت أن تتدبر لذلك بمد حبال الصلة مع المجموعات المتمردة بولاية دارفور وتحتفظ لنفسها بصلات معقولة مع مجموعات شرق السودان.
السلطة
وتعتبر قضية تقسيم السلطة التي لم تجد حظها من البحث والنقاش في الجولة الماضية أكثر الملفات تعقيداً حيث تتعدد فيها البنود وتتداخل فيها المطالب من كلا الطرفين، فكل طرف يريد أن يكون نصيبه من 'السلطة' في مراكز القيادة و'النفوذ' في الخدمة المدنية، ما يوفر له مساحة سيطرة تعينه في المعارك الانتخابية القادمة من خلال التقرب إلى الجماهير.
وتقف على قمة هذا الملف قضية مؤسسة الرئاسة في الفترة الانتقالية..هل تكون رئاسة دورية تبادلية بين الرئيس عمر البشير والعقيد جون قرنق ثلاث سنوات لكل منهما؟.وهذا ما تقترحه الحركة ويجد رفضاً مغلظاً من قبل الحكومة التي تقترح في المقابل رئاسة تراتبية يحظى فيها الرئيس البشير بسنوات حكم الفترة الانتقالية [ست سنوات] على أن يكون قرنق نائباً له بصلاحيات موسعة.
ويقترح الوسطاء أن تكون لنائب الرئيس الجنوبي حق النقض لقرارات الرئيس فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة باتفاق السلام، وأن تكون له سلطة غير مقيدة مركزياً في إدارة شؤون الجنوب بحيث يجمع بين رئاسة الجنوب وإنابة الرئيس على مستوى المركز.
الحكومة في موقفها الراهن ترفض المقترحين بحجة أن المقترح الأول قد يخلق تعقيداً في إدارة البلاد في وقت بالغ الحساسية، كما أن رئيس الجمهورية سيكون مسؤولاً عن الجيش القومي في وقت لا تزال فيه الحركة محتفظة بقواتها، فليس من المنطق أن يكون لرئيس دولة ما جيشان في نفس الوقت. أما المقترح الثاني فترى أنه سيخلق وضعاً مشكلاً يجعل من مؤسسة الرئاسة مؤسسة تشاكسية يتم في داخلها التنازع حول الاختصاصات. وترى الحركة في المقابل عبر مقترحها للرئاسة التبادلية أن ذلك يساعد علي تعزيز الثقة ويمنح وحدة السودان فرصاً أوسع في ما بعد الفترة الانتقالية.
وداخل هذا الخلاف المركزي هنالك معارك تفاوضية شرسة، حول نصيب كل طرف منهما في قسمة السلطة على المستوى الوزاري وما هو أدنى وعلى مستوى المجالس التشريعية، حيث يسعى كل طرف لتوسيع حصته، وأثناء ذلك يتم النقاش حول مشاركة القوى السياسية الأخرى الشمالية والجنوبية وأنصبتها من الكعكة. وتتخذ هذه القوى مواقف متباينة من الذي يجري في نيفاشا الكينية رغم أنه يجمعها شعور مشترك بالقلق والشك في أن ينتج التفاوض، شراكة ثنائية بين الحركة الإسلامية والحركة الشعبية تقصي بقية القوى خارج الملعب السياسي، رغم التطمينات الإعلامية التي يرسلها الطرفان، وبرغم أن نائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه قد أكد في ختام المؤتمر العام للحزب الحاكم الذي عقد بالخرطوم أن اتفاقية السلام لن تكون صفقة سياسية ثنائية، وأن الإنقاذ جاهزة لدفع المهر.
ومن القضايا موضع الخلاف في ملف السلطة طبيعة العلاقة بين الحكومة المركزية والولايات الجنوبية، حيث ترفض الحركة أن تكون هنالك علاقة مباشرة بين المركز والإدارات الولائية في الجنوب، وترى أن العلاقة يجب أن تكون بين الحكومة المركزية والحكومة الإقليمية في الجنوب على أن تقوم على الندية.. دون أن يصل نفوذ المركز للوحدات الإدارية التابعة لها.
العاصمة القومية
وتعتبر قضية وضعية العاصمة القومية من القضايا المثيرة للجدل حيث تقترح الحركة استثناء العاصمة من القوانين الإسلامية التي ظلت تحتكم إليها لأكثر من 20 عاماً منذ إعلان النميري تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك باعتبارها عاصمة مشتركة للجنوب والشمال معاً وللمسلمين والمسيحيين كذلك. وتجد الحكومة حرجاً أيدولوجياً كبيراً في قبول ذلك في أوساط قواعدها التنظيمية.
بعد كل هذا يبدو واضحاً حجم المساحة الفارقة بين الطرفين التي يصعب ردمها في أيام معدودات، ولكن تبقى طريقة الجنرال لازاراس سيمبويو التي تقوم على إغلاق الأبواب ووضع الورق على الطاولات للإمضاء فقط دون التعليق أو الاعتراض، هي الطريقة الأقرب للتكرار في هذه الجولة التي ظل باول يؤكد أنها ختامية.
فأي اتفاق سلام لابد أن يشتمل على 'خارطة طريق' تبدأ بإقامة حكومة 'موسعة' تشمل الأطراف السياسية الفاعلة في البلاد، وتنتهي بإقامة نظام ديمقراطي يكون صندوق الانتخاب فيه هو الحكم الفصل في كل نزاع سياسي. وهذا بدوره يعني احتمال وقوع تغييرات جوهرية على المشهد السياسي السوداني، قد لا تكون محل ترحيب من بعض القوى المؤثرة حالياً.
وإذا كان هناك شيء يجمع بين الحكومة الحالية ذات التوجه الإسلامي وخصمها اللدود المتمثل في حركة التمرد الجنوبية التي تدعي تمثيل الأقلية الجنوبية غير المسلمة خصوصاً والقوى العلمانية عموماً، فهو عدم إيمانهما بحاكمية صندوق الاقتراع.
فالحركة الشعبية لتحرير السودان ظلت ترفض من حيث المبدأ نتائج العملية الديمقراطية منذ ما قبل انتخابات عام 1986، وتفرض شروطاً مسبقة يجب الالتزام بها وإلزام المجتمع السياسي بها بصورة مستقلة عن الإرادة الشعبية. ولها في ذلك منطق يقوم على أن الأقلية الجنوبية لها حقوق ومصالح يجب التسليم بها من قبل الغالبية، وإلا فإن الجنوب سيفضل الانفصال.
وعلى سبيل المثال فإن إصرار الأغلبية على تبني نظام حكم ذي طابع إسلامي يعني بالضرورة تحويل الأقلية غير المسلمة إلى مواطنين من الدرجة الثانية بحسب قادة التمرد، وبالمثل فإن الإصرار على عروبة السودان وإسلامه تعني تهميش الأفارقة السودانيين والافتئات على هويتهم. ولهذا فإن هناك مبادئ لا بد أن يسبق الاتفاق عليها الدخول في العملية السياسية الديمقراطية، منها تحديد هوية الدولة ومكان الدين منها وإقامة نظام حكم لامركزي، مع إعطاء الأقلية 'حق فيتو' على قرارات الأغلبية يصل غايته في إعطاء الجنوب حق تقرير المصير إذا تعذر الاتفاق على أسس للتعايش يرضى عنها أهل الجنوب.
من جانبه فإن التيار الإسلامي كان يرى أن هوية البلاد ومكانة الدين فيها هي مسلمات لا يمكن المساومة عليها، وأن أي محاولة لإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية أو إضعاف الهوية العربية الإسلامية للبلاد هو تجاوز يبرر رفع راية الجهاد. وقد برر الإسلاميون انقلاب يونيو/ حزيران 1989 بالباعث المزدوج للدفاع عن الشريعة الإسلامية ضد أعداء الإسلام وعن حق الأغلبية في تحديد نظام الحكم وطبيعته ضد ابتزاز الأقلية العلمانية وداعميها الأجانب.
من هنا فإن قبول الطرفين بآلية يكون الحكم الفصل فيها في نهاية المطاف هو رأي الأغلبية في إطار عملية ديمقراطية، يعني المخاطرة بمواجهة نتائج غير مقبولة كانت في السابق مبررا للاحتكام إلى منطق السلاح.
ولعل ما يطمئن هؤلاء هو أن أي اتفاق سلام لا بد أن يتضمن ضمانات ضد مثل هذه النتائج غير المرغوبة، وأن جميع القوى ستقبل بأن تضمن مثل هذه الضمانات في أي دستور مقترح للبلاد. وهذا مطلب منطقي لا يماري فيه أحد. ولكن النصوص وحدها لا تكفي، خاصة أن كل نص هو حمال أوجه. فعلى سبيل المثال فإن طرفي النزاع والقوى السياسية الفاعلة في البلاد -ومن ورائهم القوى الإقليمية والدولية - مجمعون على القبول بمرجعية اتفاق ماشاكوس الذي تم توقيعه في يوليو/ تموز 2002، وهو في جوهره إعلان مبادئ ينص على حق شمال السودان ذي الغالبية المسلمة في الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية في أموره مع استثناء الجنوب من ذلك، ومنح الجنوب حق تقرير المصير، واعتماد نظام حكم مركزي يكون محايداً في أمور الدين.
ولكن تفسير هذا الاتفاق سرعان ما أصبح موضع نزاع بين أطرافه بحيث أدى في وقت سابق إلى نسف أكثر من جولة مفاوضات. فقد ارتأت الحكومة أن الاتفاق حسم قضية الشريعة وسريان أحكامها في شمال البلاد، في حين رأت حركة التمرد أن النص على وجود نظام مركزي مشترك يعني استثناء العاصمة من تطبيق القوانين الإسلامية، لأن العاصمة هي مركز 'الأرضية المشتركة' التي يجب أن تكون محايدة فيما يتعلق بأمور الدين، وإلا فإن استثناء الجنوبيين من أحكام الإسلام لا يكون قد تحقق إذا كان وجودهم الضروري في عاصمة البلاد يعني خضوعهم لأحكام الإسلام.
إضافة إلى ذلك فإن حركة التمرد ترى أن حق تقرير المصير يجب أن ينطبق على ما أصبح يعرف 'بالمناطق الثلاث'، وهي جيب 'أبيي' الكائن في إقليم جنوب كردوفان، ومنطقة جبال النوبة الواقعة في نفس المنطقة، ومنطقة تلال الانقسنا في منطقة جنوب النيل الأزرق على حدود الجنوب من جهة وبمحاذاة الحدود مع إثيوبيا.
وتقطن كلا من هذه المناطق قبائل أفريقية تعيش في نزاع مع عناصر أخرى عربية تعيش معها في المنطقة أو بالقرب منها، وينشط فيها الجيش الشعبي. وترى حركة التمرد أن هذه مناطق قتال يجب أن ينطبق عليها ما ينطبق على الجنوب، وأن التزامها تجاه مقاتليها في تلك المناطق لا يسمح لها بالتخلي عنهم، والقبول بحل منفرد للجنوب كما تطالب الحكومة ومن ورائها الوسطاء.
هذه الخلافات تشير بوضوح إلى التعقيدات التي ينتظر أن تواجه أي اتفاق سلام حتى في القضايا التي يعتقد أن الاتفاق قد تم حولها. ويزيد من تعقيد الأمور أن أي اتفاق لا بد أن ينص على مبادئ عامة أو خطوط عريضة تفتح مجالاً واسعاً للتأويلات والاجتهادات في مرحلة التنفيذ، مما قد يجدد النزاع والصراع حولها.
وحتى في النقاط التي تم اتفاق مفصل حولها، فإننا نلمس وجود ثغرات واسعة ونقاط احتكاك محتملة قد تفجر الاتفاق في أي مرحلة
محاذير تقاسم الأمن والسلطة
ولنأخذ مثلاً اتفاق الترتيبات الأمنية الذي تم التوصل إليه في الجولة الشهيرة في سبتمبر/ أيلول الماضي التي شارك فيها لأول مرة زعيم حركة التمرد جون قرنق والنائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه، واعتبرت نقطة تحول في مسار عملية التفاوض.
هذه الاتفاقات مثلت خطوة جريئة حيث اعترفت بوجود جيشين ومنحتهما في الفترة الانتقالية اعتباراً متساوياً، كما قبلت بأن يخلي الجيش الحكومي كل مناطق الجنوب في الفترة الانتقالية، وأن تحل محله قوات مشتركة قوامها 24 ألف جندي تتكون مناصفة بين الجيش الحكومي وقوات التمرد، مع وجود قوات مشتركة بنفس التكوين في 'المناطق الثلاث' [6000] وفي العاصمة [3000].
وتعتبر هذه خطوة كبيرة لأن الحكومة تقوم فيها عملياً بتسليم المتمردين المناطق التي ظلوا يقاتلون 20 عاماً للاستيلاء عليها بدون نجاح، وهذه المرة بلا قتال ولا حرب، وهو تنازل كبير بكل المقاييس.
ولكن هذه ليست هي القضية، فالإشكال هو أن هذه الترتيبات تنص على استمرار وجود قوات الجيش الشعبي [تقدر بأكثر من مائة ألف مقاتل] في الجنوب إلى جانب القوات المشتركة، كما تنص على أن تعامل هذه القوات على قدم المساواة مع الجيش الحكومي. وفوق أن هذا يعني دفع رواتب هذه القوات من خزينة الدولة، وهو مطلب مستحيل عملياً، فإن وجود هذه القوات بهذا التركيب يعني عملياً انفصال الجنوب واستباق الاستفتاء المنتظر في نهاية الفترة الانتقالية.
ويمكن لحركة التمرد التي ينتظر أن ينص اتفاق السلام على توليها الإدارة المدنية في الجنوب منفردة، أن تعلن انفصال الجنوب من جانب واحد عند أي بادرة خلاف دون أن تستطيع الحكومة المركزية أن تفعل شيئا في المقابل لافتقادها للمبادرة العسكرية بعد انسحاب قواتها من كل مناطق النزاع وتركها في يد قوات التمرد.
ولكن أكبر المحاذير سيكمن في صيغة تقاسم السلطة، ذلك أن عناصر الاتفاق بين الحكومة وحركة التمرد هي حتى هذه اللحظة اتفاق على الاختلاف، لأنه عملياً لا توجد أجندة مشتركة بين حركة علمانية غير مسلمة وحركة إسلامية ذات أجندة راديكالية. ونجاح مثل هذا الاتفاق يعتمد على تقاسم مناطق النفوذ والابتعاد عن الاحتكاك.
ولكن الطرفين لم يقبلا بعد بمنطق هذا التقاسم، إذ تصر الحكومة على استمرار نفوذها في الجنوب في حين يطالب قرنق بموقع مميز في الحكومة المركزية التي تتصرف في شؤون الأقاليم الأخرى.
إضافة إلى ذلك فإن بنية السلطة في الحركتين هي احتكارية انفرادية، كما يتضح من الصراعات المستمرة داخل الحكومة [كان آخر مظاهرها إقصاء د. غازي صلاح الدين المسئول الأول عن مفاوضات السلام من موقعه في مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2003، وقبل ذلك إقصاء وسجن د. حسن الترابي] وداخل الحركة التي عانت من اتشقاقات متلاحقة. ويقتضي الاتفاق من الطرفين ليس فقط فك احتكار السلطة كل في منطقة نفوذه، وإنما القبول بالمشاركة فيها من قبل طرف كان يعتبر حتى قبل أشهر العدو الأول والخصم، بل والنقيض السياسي والأيدولوجي.
وهذه تحديات تتطلب إمكانيات ومهارات لم يثبت حتى الآن توافرها لدى الطرفين الرئيسيين والقيادات الحالية.
الصيغة المقترحة.. نزاع على النفوذ
وبحسب الصيغ المقترحة حالياً فإن البلاد ستدار خلال الفترة الانتقالية من قبل حكومتين متنافستين، ومركزين من مراكز القوى على الأقل. ولكل من هاتين الحكومتين برنامجها المتناقض تماماً مع الأخرى، وأخطر من كل ذلك جيشها الخاص. وكما هو معروف من تجارب دول أخرى حاولت هذا النموذج [لبنان وسيراليون وكمبوديا وإثيوبيا] فإن هذه وصفة لعودة تفجر الحرب الأهلية، وهو أمر لا يمكن تلافيه إلا بتدخل خارجي مباشر أو بانتصار حاسم لأحد الأطراف.
وإذا ما تم الاتفاق على صيغة نائب للرئيس له حق الاعتراض، أو تناوب رئاسي أو صيغة أخرى مماثلة، فإن من الواضح أن البلاد ستشهد تنازعاً مستمراً على الصلاحيات والسلطات سيزداد تعقيداً بوجود لاعبين آخرين على الساحة من الشمال والجنوب، بعضهم مسلح.
هذا بالطبع إذا تم التوصل إلى صيغة اتفاق مرضية للأطراف في الأساس، وهو أمر لا يزال موضع شك، وإذا وجد الاتفاق طريقه إلى التطبيق، وهو موضع شك أكبر.
وفي الصيغ المقترحة حتى الآن فإن الحكومة هي التي ظلت تقدم التنازلات الكبرى، كما ظهر من الاتفاق الأخير بين الحكومة وبين التجمع الوطني الديمقراطي في ديسمبر/ كانون الأول 2003.
فالحكومة لم تكن تعترف من قبل بالتجمع ولا بدعواه تمثيل كافة قوى المعارضة، كما أنها لم تكن تقبل بأطروحاته المتمثلة في الخضوع لانتخابات ديمقراطية حرة، وتطبيق مبدأ 'قومية' مؤسسات الدولة بما فيها الجيش والأجهزة الأمنية والخدمة العامة ولجنة الانتخابات. ذلك أن الحكومة قضت السنوات الأربع عشرة الماضية وهي تجتهد في تطهير الجيش والخدمة العامة من كل من يشتبه في ولائه الكامل للنظام، كما أنها قامت ببناء أجهزة أمنية موالية للحكم 100%.
وفي السنوات القليلة الماضية شهدت مؤسسات الدولة حملة تطهير جديدة شملت هذه المرة أنصار رجل الحكم القوي سابقا حسن الترابي، مما أظهر عدم الاستعداد للتسامح مع أي شبهة عدم ولاء حتى في صفوف الإسلاميين الموالين. أما القضاء فحدث ولا حرج.
وهذا يشير إلى إشكالين رئيسيين: الأول هو مدى جدية الحكومة في نيتها فك احتكار أجهزة الدولة والسماح لخصومها باختراق هذه المؤسسات التي تمثل خط الدفاع الأول عن الحكم. فكيف مثلاً ستسمح الحكومة للمعارضة بنفوذ داخل الأجهزة الأمنية والجيش دون أن يهدد ذلك وجودها؟ ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن الحكومة قد دخلت في التزامات سابقة من قبل، كما حدث في اتفاقية الخرطوم للسلام التي تم توقيعها مع فصائل جنوبية هامة عام 1997، واتفاقية جيبوتي التي وقعت مع زعيم حزب الأمة الصادق المهدي عام 1999.
وفي كلا الاتفاقين التزمت الحكومة بالتزامات قريبة من تلك التي التزمت بها حالياً، ولكن أياً منهما لم يؤد إلى نتيجة، وبالخصوص لم يقد إلى أي تخفيف من قبضة النظام على السلطة أو احتكاره لها. وهذه التجربة تمثل تحذيراً من تطور مماثل تلتزم فيه الحكومة بالتزامات تفوق طاقتها وتنكص بعد ذلك عن التنفيذ، ويتفجر النزاع من جديد بصورة أكثر خطورة.
الإشكال الثاني هو أن الحكومة قد دخلت كذلك في التزامات متناقضة، فهي من جهة ملتزمة للجيش الشعبي بقدر من المشاركة في السلطة ونصيب من غنائمها، وهي من جهة ملتزمة للقوى السياسية الأخرى بتوسيع المشاركة في الحكم.
في هذا المقام فإن الجيش الشعبي يطالب لنفسه ولأنصاره الجنوبيين بنصيب محدد من السلطة ومن مناصب الدولة يصل 40% بحسب تقديرات مفاوضيه. وحتى لو نقص هذا النصيب إلى النصف أو نحو ذلك كما تطالب الحكومة، فإن المحصلة أن تجاذباً سيقع بين مطلب قومية أجهزة الدولة وبين مطالب التقاسم بين فرقاء الحرب.
ويزيد من تعقيد هذه المسألة مطلب قومية الجيش، وهو يعني عند الحركة استيعاب مقاتليها في الجيش الحكومي. وفوق أن هذه وصفة لتفجيرات قادمة [كيف يمكن استيعاب عناصر 'مليشيات إسلامية متشددة' كما يصف المتمردون الجيش الحكومي، مع مليشيات معادية ذات طابع ديني وعرقي مخالف؟]، فإن صعوبات أخرى ستكتنف هذه الصفقة.
على سبيل المثال فإن الجيش الشعبي سيمنح ما شاء من الرتب العسكرية لرجاله ويصر على استيعابهم في القوات النظامية بنفس تلك الرتب، مما سيعني قلب معادلة القوة داخل الجيش بجرة قلم.
ولعل من المفيد هنا أن نذكر بأن استيعاب قوات التمرد في الجيش النظامي بعد اتفاقية أديس أبابا عام 1972 ساهم في تفجير التمرد الحالي، رغم أن العدد كان محدوداً وقتها [6000 عنصر] والخلاف الأيدولوجي بين الطرفين كان غائباً. فقد مثل الجنود المستوعبون قوام حركة التمرد، واستفادوا من تدريبهم داخل الجيش ومعرفتهم بأسراره [بما في ذلك اختراقهم لنظام اتصالاته ووجود عناصر موالية داخله] لإلحاق هزائم سريعة وحاسمة بالقوات الحكومية في مراحل الحرب الأولى.
تلخيصاً يمكن أن يقال إن اتفاق السلام المرتقب يواجه صعوبات كبيرة وتحديات عصيبة الطريقة الوحيدة لتجاوزها هي الفصل بين المبادئ العامة والإجراءات التي اتفق عليها، والتي تتمثل في اعتماد المنهج الديمقراطي لفض النزاعات، وبين الحظوظ السياسية للأطراف المباشرين في النزاع.
ويكون ذلك عبر اعتماد ضمانات دستورية وإجرائية وشخصية [مثل العفو العام وضمان بعض المصالح المكتسبة] بحيث لا يصبح البقاء في الحكم مسألة حياة أو موت للأطراف المعنية.
وهذا يستتبع بالضرورة أن تقبل الحكومة والحركة بأن احتمال خسارتهما السلطة وارد ومرجح وأن يستعدا لهذا الاحتمال، وهو ما لا توجد دلائل عليه حتى الآن، وهذا مبعث لقلق شديد لكل حريص على استقرار البلاد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد