حتى الجامعات غمرتها العولمة !


بسم الله الرحمن الرحيم

 

في كتابه Grammars of Creation ت يقول (جورج ستاينر) ناقد الثقافة المقارنة، الذي يدرس حاليا في اكسفورد، تخيل أن نعشا أنزل لتوه إلى اللحد، ثم سمع صوت رنين الهاتف الجوال الخاص بالميت منبعثا من داخل القبر المحكم المغلق..إنه بحق أصدق تعبير عن عصرنا المحموم المكتظ، فالهواء من حولنا يبدو مشبعا بصرير يكاد يسمع، تحدثه موجة عارمة من الثرثرة التي تدور حول الأرض بسرعة خارقة.وكلما قل ما نريد أن نقوله، كلما ارتفعت الذرى التي تصلها تلك الموجة.

 

فالخصوصية، والعزلة، والحنين للماضي، والذكريات، والماضي، والتاريخ، كلها غارقة في هذه الموجة. ويشهد على ذلك التضخم في برامج الحوار الحي في الإذاعة والتليفزيون عبر القنوات الفضائية، وهذا الكم الهائل من رسائل الجوال التي تصلنا، والتحول إلى النصوص الأقرب إلى لغة الكلام في غرف الدردشة بالإنترنت، وكذلك الرسائل الإلكترونية التي تنهال علينا من أجهزة الحاسب الآلي، والصفير المستمر لماكينات الفاكس، ولعلنا نذكر زمنا كان يقال لنا فيه (اسكت فالجدران لها آذان)! لقد مورس فن الصمت في بعض البلدان وفي بلدان الكتلة الشرقية سابقا، والذي كان يهدف إلى الهروب من أذن المراقبين أو تنصت أجهزة الأمن.

 

إن موجة الثرثرة التي تغمر العالم اليوم ليست، فيما يعتقد إلا الوجه المقابل لفشل اللغة، والتشكك في قدرتها على التعبير، والتي كانت واضحة بالفعل في الأدب العربي القديم.

 

إن هاجس كون اللغة لم تعد قادرة على الاستجابة لبدايات القرن الحالي، أو التلاؤم مع التجربة الإنسانية، وأن فسادها من خلال الخذلان السياسي، وغوغائية الاستهلاك الضخم، كما يقول أستاذ الأدب الألماني، وولفجانج فروهوالد سوف يحولها إلى أداة للانغماس في البوهيمية.

 

 وبنفس القدر الذي أصبح عليه تاريخ العلم ذاته تاريخ انسحاب اللغة، وتاريخ التشكك في اللغة وفي التجربة اللغوية، والذي وضح فيه الابتعاد المخيف لمجالات أكثر اجتماعية، واقتصادية، وسياسية وثقافية، وعلمية عن (لفظية) الثقافة (والذي يرمز له الآن بالتحول الرمزي في ثقافتنا) تتغير الجامعة أيضا.

 

فالجامعة، قبل كل شيء، معرضة لمتطلبات السوق غير المنطقية، والأيديولوجية تأخذ شكل نظرية اقتصاديات الأعمال التي تحولت إلى أيديولوجية.

 

فلقد دخلت أيديولوجية القيمة مقابل المال الجامعات على مستوى العالم كوباء سرطاني. وقد أعلنت جريدة الجارديان الأسبوعية عن طرح كتاب (رون بارنيت) في الأسواق. هذا الكتاب يقيم الدليل على كيف أن أيديولوجية المبيعات قد اكتسبت لنفسها قدما راسخة في الجامعات البريطانية. وتثبت كيف أن بعض الأفكار، مثل المقاولات، والجودة، والتنافس، والإدارة، قد غيرت عادات وتقاليد الجامعات. ويعتقد (بارنيت) أن هذه القيم الجديدة تتحدى الهوية التاريخية، والقيم التقليدية للجامعة، إن الجامعة، على مستوى العالم لا تمر بمجرد أزمة، ولكنها في قلب عملية تحول تتزايد بسرعة رهيبة، وهي عملية قد غيرت الهوية التي تطورت عبر 1700 سنة، وتتحرك في اتجاه تجارة وبيع العقليات، وإلى معنى من معاني الانتماء إلى تعليم وتدريب السوق، هذا السوق حول العلاقة بين الأستاذ والطالب إلى علاقة مندوب المبيعات والزبون (بما في ذلك كل حقوق الثقة في المنتج، وتعدد قنوات تقديم الشكاوى)، إنه أمر يهدد المهمة الثقافية لمؤسسة الجامعة.

 

إن المبدأ الأساسي للجامعة بأشكالها المختلفة باختلاف البلدان، نشأت كلها من فكرة أساسية في العصور الوسطى.

 

فالجامعة تقوم على العلاقة بين الأستاذ والطالب، والتي تتم عن طريق اللغة، ويقول (وولفجانج فروهوالد):

 إن الجامعة الحديثة تقوم على العديد من الأسس:

(1) مفهوم العلم غير الكامل والذي لن يكتمل أبدا

(2) العلاقة بين الأستاذ والطالب، التي تنشأ من العلاقة الندية بين الباحث القديم والباحث الجديد عن العلم

 (3) المتابعة التي يمارسها الطالب على الأستاذ (من خلال اهتمامه بموضوعات الدراسة)، وتلك التي يمارسها الأستاذ على الطالب. فلو لم يجتمع الطلبة حول المدرس بمحض إرادتهم، قد يذهب المدرس إليهم للمساعدة في الوصول إلى أهدافه، بربط تجربته الخاصة بهم، بل قد تنتقل المعلومات في اتجاه واحد من الأقوى إلى الأضعف، ولكن بشكل أقل حيوية فكريا، وبعقلية أكثر انطلاقا وجرأة من جانب الطلاب، لتصل إلى كل الاتجاهات كما يشير لذلك (فون هامبولدت).

 

لا يجب أن ينظر إلى الجامعة على أنها مركز استهلاك، أو مركز تسوق، أو مكان تباع فيه المعرفة المغلفة تغليفا يجعلها سهلة التناول، والاستهلاك، والفحص، ولكن يجب أن ينظر إليها على أنها مؤسسة توفر مساحة للعقل حتى يعمل في حرية، ومكان يجتمع فيه المتمكن مع قليل الخبرة، والمتمرس مع المبتدئ، والمسن مع الشاب من الباحثين ليتناقشوا حول الأفكار، والمنهج، والحلول.

 

فقد حققت الجامعة الأمريكية هذا النموذج من أنقى صوره، وهو ما كفل لها الريادة بين جامعات العالم حتى يومنا هذا، لذلك فللجامعات مهمة ثقافية تفوق في أهيمتها مهمتها التعليمية. فهي تتضمن النظرة الكلية للتجربة والموضوعية، أي المهام المساوية لذلك في الأهمية، والمتمثلة في اكتساب المعرفة، والوصول لحلول وتوجيهات فوق المحيط الهائل من الجهل، والذي يبدو في موضوع البحث في كل العصور، مجرد جزيرة، وليس كفارة، وبهذا المعنى فالجامعات جزء من (الثقافة الأخلاقية) لأي أمة، فهي المؤسسات العالمية المحلية.

 

يجب على الجامعة أن تلعب دورا يختلف تماما عن مجرد كونها مكان إنتاج لسلع خاصة. حتى وإن كان ذلك بسبب تجدد العلوم التي انزلقت إلى النزعة التجريبية والصمت، فقد أصبح لزاما على الجامعة أن تستغل إمكاناتها النظرية، التي لم تستغل بعد إلى حد كبير، خارج نطاق ألعاب اللغة، وتافه الفكر، لتبحث عن سبل وجسور عبر جبال البيانات، حتى تستطيع أن تقدم نظرية للعالم الذي أصبح غير شفاف، والذي لا نستطيع معه الآن أن ننظر إليه ككيان واحد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply