نوادي نخب العولمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

-1-

لنخب العولمة نواديها ومحمياتها ومجالها الخاص بها يلتقي المنتمون إليها بجنباتها لمناقشة أمر أو تدبير شأن أو للتسامر العفوي دونما حرج أو تعكير صفو.

هم يتجاذبون إليها من كل ذي صوب وحدب، من عالم الأعمال والمال والاقتصاد، من عالم السياسة والاستراتيجيا والحرب، من عالم الإعلام والإعلان والإشهار كما من عالم الكتابة والفكر والشعر لا فيصل بينهم في الوظيفة يذكر ما داموا مجتمعين على خلفية من وفاق تام حول النظرة إلى قضايا الكون في حاضره كما في المستقبل.

والمقصود بنخب العولمة هنا لا يحيل فقط على الشركات العالمية الكبرى ذوات السلطات الواسعة في تحديد حال اقتصاد العالم ومآله (تحتكم بعضها على أرقام معاملات يتجاوز النواتج القومية الخام للعديد من الدول) ولا على الدول الكبرى التي تقوم (وإن بطرق غير مباشرة على الشركات إياها) بل وأيضا وبالأساس على مجموعات الفكر والبحث والتنظير التي تقوم على إنتاج الرمز (نظريات وطروحات وتصورات) وتعمل على ترويجها لتغدو بسلطة العنف أو بوسائط السلطة الناعمة " عقيدة الكون " تمثلا وسلوكا ونظم حكم.

والمقصود بالنوادي إنما تلك " الفضاءات المغلقة " ذات الأبواب الموصدة التي يعمل خلفها باحثون وخبراء من جنسيات وأطياف علمية مختلفة يجتمعون بدورات (أو عندما يتطلب الأمر ذلك) لتوصيف مكامن الخلل بالكون وصياغة الوصفة التي من شأنها وفق تصورهم، علاج ذات المكامن أو التخفيف من أعبائها.

لا يقتصر الأمر هنا على مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية التي أقامتها هذه الشركة الكبرى أو تلك، هذه الدولة الكبرى أو تلك بغرض استقطاب "أوكار الفكر" من هذا المجال أو ذاك، بل ويتعداه إلى النوادي العالمية التي تستوظف الشبكات في تواصلها وتبادل الأفكار فيما بين منضويها أو تقيم لهم الملتقيات الدورية بغرض اللقاء المباشر وحسم ما قد يعلق من أمور ومن قضايا.

هي نواد غير رسمية لا يستطيع المرء تحديد سلطها بدقة ليس فقط كونها تتجاوز الدول القطرية والحدود الوطنية، ولكن أيضا لأنها تحيل على فضاء غير محدد المعالم حتى وإن تسنى للمرء تعيين بعض من عناصره وأعضائه:

* فأعضاؤها غير معروفين (حتى وإن عرف بعضهم). وهم لا يمثلون جماهيرا ولا هم منتدبون من لدن دولة قائمة السيادة ولا تم انتخابهم من لدن هذه الجهة أو تلك للتعبير عن صوتها أو التفكير في حل مشاكلها الآنية والمستقبلية.

 

*والمنخرطين فيها لا رقابة عليهم تذكر فيما يتراءى لهم مناطق ومجالات للبحث والتفكير إذ بإمكانهم الانتقال دونما حرج من الاقتصادي والسياسي إلى الاجتماعي والثقافي، ومن الذاتي الخاص إلى العام الشامل، ومن الاقتصاد السياسي للمناطق والجماعات الضيقة إلى اقتصاد العولمة بفروعه المختلفة وتشعباته.

 

*والمنضوون تحت لواء ذوات النوادي لا يعمدون إلى الشفافية والوضوح في إبلاغ آرائهم وتصريف مقترحاتهم (حتى وإن تجرأ بعضهم على نشر ما يعتقد)، بل تراهم يلجأون بغرض التأثير على الأقل، إلى استعمال قنوات غير رسمية، غامضة وملتوية يتعذر معها على المرء العادي معرفة قوتهم الحقيقية وعلى المختص تقييم درجة ذات القوة في صناعة القرار أو التأثير على الذين يحررون صيغته النهائية مضمونا وشكلا.

 

إنها بالتالي، وبمحصلة أولية على الأقل، نخب ونواد تجتمع وتشتغل خارج إطار السلط المؤسسة التي من المفروض أنها مفوضة للتقرير في حاضر الكون ومستقبله، وتجتمع وتشتغل دونما تفويض شعبي لديها وتجتمع وتشتغل دونما رقابة ديموقراطية مباشرة على أعمالها.

إنها صورة طبق الأصل لسياق وحركية العولمة التي لا قدرة للمرء في ظلها على الإبداء برأيه بشأن قراراتها أو صيرورتها في الزمن أو في المكان.

 

-2-

ليس بمقدور المرء (ولا بمستطاع غيره من مستويات) تحديد عدد هذه المنتديات ولا تعيين أماكن انعقادها ولا حصر حجم أعضائها أو المنتسبين إليها، إذ هي بردهات الدول الكبرى وضمن هياكل الشركات العابرة للقارات ومن بنيان الجامعات ومراكز البحوث والدراسات وما سوى ذلك.

 

لكنها، وإن توزعت نقط تواجدها وتفرعت ضروب اشتغالها، فإنها تلتقي انتظاما ودورية بمحافل سنوية كبرى لعل أكبرها وأكثرها موسطة إعلامية ملتقى دافوس السنوي.

 

والواقع أنه لأكثر من ثلاثين سنة مضت يستقطب منتجع دافوس السويسري أهم صناع السياسة والمال والأعمال والفكر من مختلف بقاع الكون في إطار الاجتماع السنوي لما أضحى "المنتدى الاقتصادي العالمي".

 

هم يعبرون عن " روح دافوس" حيث يتوحدن "الزمن العالمي" كل يناير من كل سنة ويتقلص المكان...حيث لا أثر لأماكن التسلية المتاحة في مؤتمرات أخرى اللهم إلا سبل التزلج المحصورة المدة والمجال.

 

لا تلتقي نخب منتدى دافوس للمتاجرة المباشرة (حتى وإن كانت إمكانات الحصول على عقود متوفرة) ولا تحتكم على جدول أعمال محدد لا مجال للالتئام إذا استنفذت بنوده وفض اللقاء، ولا تلتقي لغرض الحوار من أجل الحوار... لا نعتقد أنها تلتئم لهذه الأغراض (حتى وإن كانت غير مستبعدة)... إنها تستهدف غايتين اثنتين لا طبيعة براغماتية مباشرة بصلبهما:

 

* فهي تتغيأ "إثارة وعي" المسيرين السياسيين والاقتصاديين المجتمعين (سيما الأعضاء الجدد ضمنهم) إزاء الشروط العامة والآليات القمينة بتصريف فلسفة العولمة القائمة (أو المراد لها القيام) ونشر المبادئ النيوليبيرالية التي تبني لها في الشكل كما في الجوهر.

 

إنها تتغيأ نشر "القيم" الكبرى التي تبني لذات الفلسفة المنظومة والسياق وتحدد لها الأدوات والسبل.

 

*وهي تتطلع لنشر " تمثل للعالم" كما تؤمن به أو يبدو لها أنه "الأسمى" قياسا إلى تمثلات أخرى تخال لها أنها من مرتبة دنيا أو لا قيمة لها حتى.

 

إنه تمثل للعالم يدفع بأطروحة وجود "مصلحة عامة كونية" للكل واجب الدفاع عنها والدفع بها حتى في تباين بنيات الدول والحكومات واختلاف مستويات التنمية الاقتصادية التي بلغتها.

بالتالي، فنخب العولمة بالحالة الأولى كما بالثانية، إنما تعبر عن "أممية لرأس المال" من الواجب توسيع فضاء إشعاعها لتطال شتى بقاع الأرض.

هي كذلك دون شك، لكنها أيضا "أممية للفكر الواحد" لا يتراءى من بديل عنها إلا ضرورة السير في ركبها وتطويع البنى والمؤسسات، الأفراد والجماعات كي لا تبقى عصية على صهر ما تنتجه ذات الأممية من أفكار وتصورات، من معتقدات وسلوكيات ... حتى الشاذ منها، الغير قابل للتطبيق بفضاءات أخرى لها ذاتيتها وخصوصياتها.

ولئن لم يكن يصدر عن منتدى دافوس قرارات ذات صبغة تنفيذية أو محمية بقوة قاهرة تستلزم تطبيقها، فإنها أفكار وتصورات غالبا ما تعمد المنظمات الدولية الكبرى إلى ترجمتها ببرامجها وسياساتها لتغدو تدريجيا ولكأنها تتوفر على منطوق الإكراه البدني بالنسبة لدول العالم وحكوماته وشعوبه.

 

-3-

لا يستطيع أحد أن يتجنب الاعتقاد بأن المنتديات العالمية الكبرى (وفي مقدمتها منتدى دافوس السنوي) إنما هي وبكل المقاييس "سلط خفية" وإلى حد بعيد موازية لسلطات الدول والحكومات.

 

إنها سلط "ناعمة" تدفع بمنطق أولوية الفكر ومركزية النقاش والحوار، لكنها لا تفتأ تضحو سلطة خشنة عندما تتحول ذات الأفكار ومواضيع ذات النقاش والحوار إلى سياسات اقتصادية واجتماعية قد لا يسلم منها الفرد ولا الجماعة.

 

لهذا الاعتبار (ولربما دون سواه) تتزايد المعارضة بشأنها وترتفع أصوات المناهضات ضدها والاحتجاج على اجتماعاتها من لدن العديد من منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن البيئة وعن حقوق الإنسان وعما سوى ذلك.

 

والحقيقة أن مسلسلات مناهضة المنتديات العالمية من قبيل منتدى دافوس إنما تتأتى من ثلاثة اعتبارات تعود بانتظام وقوة كلما تسنى لهذه المنتديات الانعقاد أو تم التعرف على مكان إقامة "ضيوفها":

 

* الأمر الأول ويتعلق بطبيعة هؤلاء وصفتهم ومستوى الانتداب لديهم للنطق باسم هذه الجهة أو تلك.

فعلى الرغم من وجود رؤساء دول وحكومات منتخبين يعبرون (على المدى القصير تحديدا) عن سياسات بلدانهم، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء غير مخولين (على المدى الطويل) لصياغة "سياسات الكون" ولا لهم الصفة الشرعية للتقرير باسم مئات الملايين من البشر الذين هم مادة ذات السياسات ومكمنها بداية وبنهاية المطاف.

إن الذي غدا يقرر مكان هؤلاء وبالنيابة عنهم، على المدى القصير والمتوسط، إنما هي الشركات المتعددة الجنسيات التي تدغم مصالح العالم في مصالحها. وهي الدول الكبرى التي عبر هذه الشركات او غيرها، تصيغ سياسات لأفراد وجماعات لم تنتدبها لذلك و لا فوضت لها أمر النطق باسمها.

إنها مسألة مشروعية لطالما دفع بها مناهضو هذه المنتديات ونددوا بمبدأ الوصاية الذي يجره خلفه شكلا ومضمونا.

 

* الأمر الثاني ويرتبط بالنخبوية الكبيرة التي تطبع ليس فقط صفة الحاضرين بمنتجع دافوس (من الرئيس الأمريكي إلى آخر رئيس بإفريقيا) بل وأيضا مداولاتها وما يصدر عنها من بيانات وتوصيات.

إنها بالمحصلة ملتقيات لا يبعث القائمون عليها بدعوات الحضور (فما بالك بالحديث أو المحاضرة) إلا للذين يتبنون نفس المنظومة الفكرية أو طال بهم مدى رفضها فاضحت القابلية لديهم قائمة للانضمام إليها.

إنها تشبه نوادي الشركات والمؤسسات القطرية التي لا يدخل في عضويتها إلا العاملون بها أو المتعاطفون مع تصوراتها أو الذين لهم صلة بذلك من قريب أو بعيد.

 

 

* أما الأمر الثالث فيكمن في غياب الشفافية الذي يميز أعمال هذه المنتديات (وهي في خلوة بجبال الألب) يخال للمرء معها أن الذي يحاك هناك إنما هو مؤامرة على الكون يتواطؤ الفاعل في خضمها مع المفعول به زمنا وفي المكان.

إنها كذلك وأكثر، فيما نعتقد، ليس فقط لما ذكرناه من أسباب ودفوعات، بل وأيضا كونها تعمل في معزل عن تطلعات الجماهير ورغبات الشعوب... لذلك تأسست على أنقاضها (بموازاتها أعني) منتديات مناهضة لها لعل أبرزها "المنتدى الاجتماعي العالمي" الذي ينطلق بموازاتها وبجدول أعمال مناف لجدولها لكن دونما إعمال من لدنه لمبدأي النخبوية والسرية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply