بسم الله الرحمن الرحيم
في ظل هذه التحديات في مستواها العلمي، والسياسي، والاجتماعي، والحضاري، وبخصائص العولمة المتميزة بارتباط المصير الإنساني ببعضه البعض، وبإفلاس الأديان الأخرى أمام تحديات العلم، وهيمنة النموذج الغربي، الذي أصبغ فوضاه على العالم، فأصبحت أزمته أزمة عالمية، تأثرت بها كل الأمم والمجتمعات، إضافة إلى أزمتنا الخاصة بنا. وفي سبيل مواجهة التحديات التي يطرحها عصر العالمية، سواء على مستوى تحدي النموذج المعرفي، أو تحدي الأزمة الأخلاقية، أو تحدي الفساد الكوني.
في هذا كله، ما هو دورنا؟ وما العمل الذي يقوم به المسلم حتى يحفظ ذاته من الذوبان؟
وكيف يساهم في حل أزمة الإنسانية التي تنتظر منقذاً، يرفعها من مهاوي الإخفاق والجدل الوضعي وأوهام المادية، إلى مستوى نور الهدي الرباني، واستقامة المنهج، ووضوح الرؤية القائمة على التوحيد لله - عز وجل -؟
لا شك أن المأزق العالمي، الذي تعيشه الإنسانية إن على مستوى الروح أو المادة أو العقل وإن على مستوى الحضارة بعمومها، لا يمكن مواجهتها بالانكفاء على الذات، أو بالاستقالة من مجال صناعة التاريخ، كما "لا يمكن مواجهته بانفعال عاطفي بالإسلام، أو إيمان نظري بقدرة الإسلام على حل مشكلات البشرية، وأنه صالح لكل زمان ومكان"(1).
وإذا كان العالم اليوم موحد في مصيره، ويتوجه نحو تجميع قواه في صورة مصير مشترك، قد يصاغ على غير ما نرغب، وأن البشرية صارت تعمر الأرض، وكأنها في عمارة واحدة تتقاسم طوابقها الأمم، تربطهم وشائج، مهما كانت هذه الوشائج. فما هو دورنا نحن؟
فهل نتمثل قول الشاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
أم هل نتبع سنن من سبقنا إلى الحضارة والتقدم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلناه(2)؟ أم هل يكون لنا دور؟ فنوطن أنفسنا، جاء في الحديث: "لا يكون أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس فأحسنوا وإن أساؤوا تتجنبوا إساءتهم"(3)، وننقذ سفينة البشرية من الغرق، وننجو وينجو معنا غيرنا، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها..."(4).
إن أي دور للمسلم في هذا العصر، لا يمكن تصوره إلا دوراً قائماً على ركائز نحسبها مهمة، هذه الركائز تضبط هذا الدور، وتؤصله، وتحقق فيه الفعالية، وتمنحه الوعي، وتجعله عملاً محققاً للقدوة العلمية والعملية. هذا الدور يقوم على نظرية واضحة عمادها الوحي إطاراً وتصوراً، والواقع ممارسة وإعماراً.
ومن أهم هذه الركائز التي تشكل ضامنا لتجاوز التحديات والحفاظ على كينونتنا الحضارية نجد الوعي بالذات الإسلامية، والوعي بخارطة الواقع الحضاري، وتكامل الأصالة والفعالية، ودخول التاريخ من باب الواجب، وتقديم نموذج عملي للإسلام مثلما كان على عهد السلف الصالح.
والوعي بالذات الإسلامية أمر ضروري، ومهم ودونه لا يمكن أن نحل مشكلاتنا، ولا أن نبلِّغ الهداية إلى الآخرين، ورسالتنا في عصر العالمية تتحدد بمدى فهمنا وتمثلنا للقيم الإسلامية، ولا يمكن أن نحقق التغيير المطلوب إذا لم نرتفع إلى مستوى الإسلامº لأننا لكي يتحقق التغيير في محيطنا يجب أن يتحقق أولا في أنفسنا، وبذلك تتوافر شروط رسالة المسلم في هذا العصر، وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين.
ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير، والتغيير يقتضي تغيير ما بالنفوس أولا، إذا كان منهج الرسالة يقتضي هذا، فإننا نستطيع أن نتكلم عن وسائل الرسالة أو الطرق العملية لتطبيق هذه الرسالة كي تفي بمهمتها، ألا وهي الإنقاذ أو مواجهة حالة إنقاذ أو حالة طوارئ تخص المسلم وتخص الإنسانية عامة. عندها يجب على كل مسلم أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة: أن يعرف نفسه، وأن يعرف الآخرين، وأن يعرف الآخرين بنفسه ولكن في الصورة المحببة(5). والأمر هنا يتمثل في الانسجام مع أهداف وغايات الرسالة الإسلامية، والتطابق معها، على مستوى التصور العقدي، وعلى مستوى الممارسة العملية.
والوعي بالذات الإسلامية يعني تحقيق وتمثل المثل الإسلامية، وأن يعيشها الفرد المسلم والمجموع، وأن تصبح صبغة لمفردات الحياة اليومية للمسلم، وليس فقط التلفظ بعبارات التوحيد والتوكل والرضا والإتقان للأعمال، وغيرها.
فالتوحيد الذي هو جوهر الذات الإسلامية، ينبغي أن يحياه المسلم في أبعاده الاجتماعية والنفسية والعلمية، فعلى المستوى النفسي يربط المسلم مصيره وأمله وتوجهاته وأهدافه بالله - عز وجل -، فيخلص التوجه إلى الله، ليحقق وحدته من التمزق، وعلى المستوى الاجتماعي تنتفي مظاهر الصراع والتناقض ويكون توجه المجتمع نحو التكامل والتآلف، فتحكمه مبادئ الاستخلاف والإعمار والتسخير والعبودية لله - عز وجل -، وعلى المستوى العلمي يتحقق لدى المسلم وحدة الحقيقة، وانسجام سنن الله في الكتاب وفي الأنفس والآفاق والتاريخ، فلا يحدث عنده تناقض بين الوحي والكون، ولا بين الوحي والعلمº لأن الوحي هدي صادق، والعلم توجه صادق بحثا عن الحقيقة.
لهذا، فإن الوعي بالذات الإسلامية يقتضي أن يحياها المسلم ويحقق بها غايات الحق من الخلق، كما كان الجيل الأول رضوان الله عليهم، إذ كانوا قرآنا يمشي، فالمسألة لا تتمثل في تلقين أو في إعادة تلقين المسلم عقيدتهº ولكنها تتمثل في إعادة تلقينه استخدامها وفعاليتها في الحياة(6).
ثم أن مواجهة أي غزو فكري تتطلب هذا الوعي بالذات، حتى يميز المسلم بين تفوق ذاته الإسلامية، وقصور مصدر هذا الغزو، وبالتالي تحقيق الحصانة من الغزو، والقضاء على عنصر القابلية للاستضعاف والغزو.
فقبل أن نواجه الغزو الفكري، لا بد من بناء شخصيتنا، وتحصين أنفسنا، لنصبح ممنوعين من تأثير الغزو، ليس عندنا قابلية له... وإذا تحصنا، لم يعد للغزو تأثير فينا.. ولهذا لا بد لنا إذا رغبنا ألا تؤثر فينا مخططات المتربصين، أن نبني شخصيتنا بحيث تكون مصبوغة بصبغة الإسلام، وموسومة بميسم الإيمان(7).
والوعي بالذات الإسلامية يستتبعه ويرتبط به ويكمله الوعي بالخريطة الحضارية للمجتمع الإنساني الراهن الذي يتشكل من حضارات، وكل حضارة تعبر عن نموذج حياتي متميز عن غيره، وفهم الحضارة مقرون بوعي مذهبيتها ونظامها الفكري ومشروعها الاجتماعي ومنهجيتها المعرفية التطبيقية(8).
كما أنه من الواضح أن الضمير الإنساني في هذا العصر لم يعد يتكون في إطار الوطن والإقليم، بل إن الضمير الإنساني إنما صار يتكون على ضوء الحوادث العالمية التي لا يستطيع أن يتخلص من تبعاتها، فإن مصير أي جماعة إنسانية يتحدد جزء منه خارج حدودها الجغرافية. فثقافة العالم أصبحت تتحدد أخلاقياً وتاريخياً داخل تخطيط عالمي(9).
خاصة مع التطور الذي دفعت به الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتلاهما من تطورات وأحداث عالمية أحدثت تأثيراً في وعي الإنسان واهتماماته ولم يعد وعيه يتشكل بشكل انعزالي عن المؤثرات الخارجية، ومن هنا فالوعي بها، ووضعها في الحسبان يمكن من التفاعل الإيجابي معها. لذلك فإن المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي(10).
ولم يعد من المستساغ علمياً وواقعياً الغفلة عن ما يجري من حولنا في القرية العالمية، وإلا فإن وعينا سيصيبه الضمور، ونجهل المعالم التي تتحرك على منحاها أحداث التاريخ، فالمستوى الشخصي للمسلم حتى ولو نما نمواً نسبياً، يمكن أن يبدو في حالة تضاؤل، بقدر ما ينمو تطور الآخرين بسرعة أكثر، والواقع أن الوعي الاجتماعي الذي كان يتكون منذ حين في دائرة محدودة أمام منظر محدد عموماً، بنطاق بلاد معينة هي الوطن، قد أصبح يتكون اليوم في إطار أكثر امتداداً بدرجة لا تضارع، وفي منظر أكثر انفساحاً.
فالوعي بالذات الإسلامية والوعي بخارطة الوجود الحضاري الإنساني يتشكل ويتطور وينضج باتساع دائرة الاهتمام التي يوليها كل منا عنايته، فبالنسبة لفرد من الجزائر ودوائر وعيه المتعاقبة من الجزائر إلى العالم العربي إلى العالم الإسلامي وصولاً إلى الدائرة الإنسانية، يمكن أن يتشكل وعيه حسب اتساع دوائر الاهتمام فبقدر ما يعي فيه الفرد المولود في الجزائر أو السعودية مثلاً دائرته ويتخطى إلى الوعي بمشاكل العالم العربي واتجاهاته وآماله، بقدر ما يكتمل وعيه ذاته وينمو مستواه الشخصي، وبقدر ما يتخطى دائرة داخلية إلى أخرى خارجية بقدر ما ينمو عالم أفكارهº وعندما يبلغ وعيه الاكتمال المتطابق مع الدائرة العالمية يكون مستواه الشخصي قد بلغ أقصى اكتماله، بحيث ينبث حضوره في سائر أجزاء المعمورة.
لهذا فالاهتمام بالآخرين يفرضه واجب ديني إسلامي لمعرفة مصير المسلمين في العالم وكيفية الحفاظ على وجودهم الديني والحضاري وبعث حضارتهم من جديد، ويفرضه المنطق الإنساني، وتحتمه التداخلات بين الشعوب والأمم في عصر العولمة، كما أن في حياة الشعوب التي تواجه في عصر العولمة مشكلات خاصة بكيانها، ومشكلات مشتركة، تعبير عن امتداد كيانها في عالم الآخرين، وتأثير العامل التكنولوجي الذي صاغ بالنسبة لكل شعب ضرورات من نوع خاص تفرض على حياته التزامات ومسؤوليات جديدة في نطاق أوسع من نطاقه التاريخي الجغرافي المعتاد(11).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) فريدة صادق زوزو، البعد المقاصدي في فقه عمر بن الخطاب وأثره في المذهب المالكي، رسالة ماجستير غير منشورة، ص13.
(2) الحديث: " لتتبعن سنن من كان قبلكم... "
(3) انظر: كنز العمال، رقم43035، ط5، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401هـ/1981م، ج15/ص772º والترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، رقم2075، وقال حسن غريب، تحفة الأحوذي للمباركفوري، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ج6/ص145º وانظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للشيخ القاري، كتاب الآداب، الفصل الثاني، رقم5129، عن حذيفة، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، ج8/ص853. كما أخرجه الهيثمي في الزوائد عن ابن مسعود بلفظ آخر، انظر: مجمع الزوائد، باب القياس والتقليد، ط2، دار الكتاب العربي، ج1/ص180.
(4) الحديث أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب(6)، هل يقرع في القسمة؟ والاستفهام فيه، رقم2493، انظر: فتح الباري، المكتبة السلفية، القاهرة، ج5/ص157.
(5) دور المسلم ورسالته، ص ص58-59.
(6) قضايا كبرى، ط1، دار الفكر، دمشق، 1991م، ص123.
(7) أحمد عبد الرحيم السائح، في الغزو الفكري، ص ص79-80.
(8) عبد العزيز برغوث، الوعي المعرفي القرآني ومنهجية التغيير الحضاري، مخطوط، ص90.
(9) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص121.
(10) مشكلة الثقافة، ص116.
(11) مالك بن نبي، تأملات، دار الفكر، دمشق، 1988م، ص ص 7-8.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد