المصائب تتوالى على رأس الرئيس الأمريكي بوش الابن، وهكذا هي المصائب لا تأتي فرادى، خاصة إذا كانت من ذلك النوع الذي يمثل نهاية الظالمين والمتكبرين.
فبعد أن فقد الحزب الجمهوري (حزب الرئيس والمحافظين اليمينيين الجدد) السيطرة على الكونجرس بعد هزيمته أمام الحزب الديمقراطيº تلقى بوش الصفعة الثانية باستقالة وزير دفاعه وصديقه المقرب دونالد رامسفيلد، وها هي الصفعة الثالثة تهوي على وجه بوش، وتحرمه من أحد مشعلي الحرائق، وكارهي السلام، ومصاصي الدماء: جون بولتون.
فقد اضطر جون بولتون لتقديم استقالته بعد أن أعلنت إدارة بوش عزم الرئيس الأمريكي عدم عرض ترشيحه على الكونغرس، وقد وافق بوش على مضض على قرار جون بولتون إنهاء خدمته، وتقديم استقالته، وكان تدهور الوضع في العراق بين الأسباب الرئيسية لهزيمة حزب الرئيس بوش، ومن ثم استقالة بولتون التي كان يتوقعها المراقبون منذ خسارة الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الشهر الماضي.
وجاء قبول بوش لاستقالة بولتون من واقع الاضطرار لا الاختيار، بعد أن تأكد من عدم قدرته على تخطي العراقيل التي وضعها الديمقراطيون على تعيينه في الكونغرس، حيث بات من الصعب الحصول على مثل هذه الموافقة من الكونغرس الذي أصبح يسيطر عليه الديمقراطيون بعد الانتخابات الأخيرة.
وظل جون بولتون مثيراً للجدل لكونه حسب من عملوا معه متغطرساً، لا يتحلى بالدبلوماسية، ومن أبرز المحافظين الجدد في الدائرة المحيطة بالرئيس، كما أنه يعد من أبرز وأشد المؤيدين والمتحمسين لإسرائيل.
إفلاس بوش سياسياً:
مشهد التهاوي لأركان المحافظين الجدد يؤكد حقيقة سياسية واحدة لا خلاف عليها بين مؤيديهم أو معارضيهم وهي إفلاس سياستهم العامة، تلك السياسة التي لم يجن الجمهوريون منها سوى الفشل في الداخل، وتشويه صورتهم في الخارج، وكانت منطقة الشرق الأوسط أكثر من دفع ثمنها.
لقد كان بوش الابن شديد السعادة بجون بولتون، ويصفه بأنه يمثل قيم أمريكا، هذه القيم والمبادئ التي تحدث عنها بوش هي نفسها التي كان يتحدث عنها رامسفيلد، ويدافع عنها بصواريخه ودباباته وجنوده، في حين لم تثمر سوى الحرب الأهلية في العراق بشهادة كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة، والعنف والفقر في أفغانستان بإفادة المنظمات الدولية.
بولتون مشعل الحرائق:
هذه الاستقالات المتتالية والمذلة لمتشددي الإدارة الأمريكية من المحافظين الجدد هي النتيجة الحتمية للممارسات المتطرفة والخرقاء لهذا الفريق، وهي النتيجة الحتمية للاستهتار والاستخفاف بقدرات الدول، وأرواح ومقدرات وخصوصية وإرادات الشعوب، فقد حدث هذا كله من خلال الممارسات المتطرفة دون الوعي بالخطوط الحمراء في السياسة، والجهل بأساليب اللعبة السياسية من خلال عدم الوصول إلى نقطة اللاعودة مع الخصوم.
وعلى سبيل المثال فجون بولتون هو الداعي لحل كل المشاكل عن طريق الحروب، حرب على كوريا، وحرب على إيران، وحرب على العراق، وحرب على سورية، وحرب على لبنان...الخ.
فالحرب عند هذا المغرور الأرعن هي الحل السحري لكل مشكلة! فقد بدأً من تأزيم الوضع مع الخصوم، وممارسة سياسة الأمر الواقع ومنطق القوة، والوصول بهم إلى طريق مسدود سياسياً، ومن ثم طرح حله السحري المتمثل بإرغامهم وإخضاعهم لإرادة الإدارة الأمريكية عن طريق الحروب، وتكسير الرأس، فهو الذي عطل المحادثات النووية مع كوريا الشمالية، ودعا لمهاجمتها، مما مكنها من القدرة على إنتاج أسلحة نووية، وهو الذي ساهم من خلال استراتيجياته الخرقاء في استمرار تطوير إيران لبرنامجها النووي، وهو من ساهم في تأزيم الوضع في العراق مما أدى إلى غرق القوات الأمريكية في المستنقع العراقي، ودفع إدارته دون أن يقصد إلى الاستعانة بسورية وإيران لتهدئة الوضع في العراق، وبالتالي إعادة مفاتيح القوة لهذين البلدين كدولتين فاعلتين في المنطقة بعد قطع العلاقات معهما، وهو عكس ما أرادته الإدارة الأمريكية! وهو الذي تعامل بطريقة هوجاء وخرقاء مع الملف اللبناني الدقيق دون الإلمام بخصوصية ودقة هذا الملف مما أدى إلى حصول الأزمة الحالية في لبنان.
الديمقراطيون أرغموا بوش على التراجع:
وهكذا فإن بوش الذي ظل 3 سنوات لا يمل من الكذب عن تحقيق إنجازات في العراق أقر بعد هزيمة الجمهوريين الأخيرة بأن نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس تعكس الفشل في إحراز تقدم في العراق، وأعلن في أعقاب ذلك عقب سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب عن استقالة رامسفيلد في محاولة لتهدئة غضب الأمريكيين بشأن الأوضاع المتدهورة في العراق، وقال: إنه يعلم دلالة الانتخابات، وتصويت الناس، وما تظهرها من عدم رضا عن الحرب في العراق، مشيراً إلى أن السياسة المتبعة في العراق لم تحقق الآمال المرجوة منها.
لقد كانت انتخابات التجديد النصفي بمثابة تصويت على حرب العراق، ونتائجها تعكس رفضاً قاطعاً من الناخبين الأمريكيين لأسلوب إدارة بوش للحرب، مما جعل بوش يضحي برامسفيلد، ثم جون بولتون تحت ضغط الديمقراطيين الذين حملوا رامسفيلد مسئولية تصاعد العنف والفوضى في العراق، وفشل قواته في إحلال السلام والاستقرار هناك، وحملوا أيضاً جون بولتون عدم التعبير بأمانة عن مصالح الولايات المتحدة الحقيقية.
بوش أصبح مثل البطة العرجاء:
لقد كان يوم الثلاثاء 7 نوفمبر 2006 يوماً رائعاً، حيث قرر فيه الشعب الأمريكي محاسبة رئيس جمهوري لعقمه ولاحتقاره القانون، وللطريقة التي قام بها ومساعدوه بتمريغ وجه أمريكا في الشرق الأوسط وبالذات في العراق.
كما كان هناك احتفاء شبه عالمي عكسته تعليقات الصحف العالمية بالهزيمة المدوية للحزب الجمهوري بزعامة بوش، ونجاح الحزب الديمقراطي في السيطرة على الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، على نحو بات يحاصر الرئيس بوش، ويشل قدرته على التحكم في صنع القرار، وأصبح حاله خلال العامين الأخيرين من ولايته الثانية (2006 - 2008) كحال "البطة العرجاء"، لأن المتوقع ألا يجد سهولة في تمرير القوانين والاعتمادات المالية التي يريدها، وخاصة بشأن دعم الحرب في العراق في ظل وجود كونجرس يهيمن عليه الديمقراطيون المعارضون لاستمرار التورط الأمريكي في العراق.
وبعد أن ظل بوش يردد حتى الأيام الأخيرة من انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس أنه لن يتخلى عن رامسفيلد، ويريده أن يستمر وزيراً للدفاع في إدارته حتى نهاية عام 2008º سارع إلى الإطاحة برامسفيلد، ليكون ذلك دليلاً على نهاية العنجهية والغطرسة في صنع القرار، وبدء الاعتراف بالحقائق الواقعية بدلاً من اللغة الفوقية والشعارات الأيديولوجية والعقائدية اللاهوتية المتطرفة في توجيه السياسة الخارجية، التي صاغتها مجموعة "المحافظين الجدد" من اليمين الأمريكي المسيحي المتطرف المخترق من اللوبي الصهيوني، والذي يعتبر دعم إسرائيل مسألة عقيدية، ورسالة لاهوتية إلهية لا نقاش فيها.
وها هو بوش يضطر مرة ثانية للإطاحة بجون بولتون أحد أبرز قادة اليمين المتطرف، ويبدو أن العامين القادمين وحتى نهاية ولاية بوش الثانية سيشهدان اضطراراً كثيراً ومواقف أكثر إذلالاً للرئيس الأمريكي المتطرف.
العالم ينتظر رحيل بوش نفسه:
إن اتباع النهج العدواني لفرض الهيمنة الأمريكية لا بد أن يقود إلى انفجار سلسلة من الصراعات والحروب التي تجعل العالم يعيش في دوامة لا تنتهي من المآسي والآلام والمعاناة، ويصبح حلم السلام أملاً عزيزاً وصعب المنال في مثل تلك الأجواء، لهذا فإن الأمل أن تكون حركة التصحيح التي قام بها الرأي العام الأمريكي بإسقاط المحافظين الجدد، وهزيمة الجمهوريين بداية صحوة ضمير وعودة الوعي والحيوية إلى المجتمع الأمريكي على نحو يعيد تصحيح السياسة الخارجية الأمريكية باتجاه السعي إلى تكريس السلام بدلاً من إشعال الحروب والصراعات والفوضى التي طبعت حقبة هيمنة المحافظين الجدد على القرار الأمريكي خلال السنوات الست الماضية في إدارة بوش.
لقد أصبح العالم كله متشوقاً لذلك اليوم الذي تسقط فيه إدارة بوش المتطرفة، أو على الأقل انقضاء ولاية بوش الثانية ورحيله غير مأسوف عليه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد