إنه لمن دواعي الإحباط أنه لا يوجد في مفردات قواميس القيادات العربية أنظمة وأحزاباً كلمة اسمها الاستقالة، ولذلك فإن التساؤل الهام الذي عنونت به مقالي لا يعدو كونَه صرخةً في واد، وطلباً للنار في قديم الرماد، وتبقى الاستجابة للتساؤل كمخض الماء لا يخرج منه "زبدة" ولو مخضته العمر كله، ولا نساوي بين حالوتس العدو ونصر الله الأخ ولو جار.
وإذا كانت كثير من القيادات العربية ترسخت في الحكم رغم الهزائم المتكررة فلماذا نطلب من السيد "حسن نصر الله" الأمين العام لحزب الله أن يستقيل وهو الذي حقق نصر مؤزراً في شهر أيار من عام 2000م عندما أرغمت قوات المقاومة الإسلامية الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من الجنوب اللبناني على وقع الرصاص الذي كانت تلاحقه به المقاومة وهو يترك الجنوب منسحباً إلى داخل إسرائيل.
ففي حديثه الذي أذيع من قناة المنار مساء الجمعة 19 كانون ثاني الجاري أثنى "نصر الله" على رئيس الأركان الإسرائيلي "دان حالوتس" لأنه استقال بعد الفشل الذي ألحقه بالجيش الإسرائيلي في حرب تموز - آب عام 2006م، وحسب رأي "نصر الله" فإن هذه الاستقالة إنما هي مراجعة ذاتية تفتقدها قيادات كثيرة في العالم العربي، ويبقى أن "نصر الله" استعرض في حديثه نصف الكأس الملآن بالماء، وتغاضى عن نصفه الفارغ عندما أكد أن خسارة الجيش الإسرائيلي كانت بسبب صمود المقاومة على مدى 33 يوماً.
واستطراداً فقد ذكّر "نصر الله " بأن حرب الأيام الستة في حزيران عام 1967م التي انهزمت فيها الجيوش العربية لم تكن إلا حربَ ست ساعات - كما أخبره بذلك ضابط عربي كبير - تم فيها تحطيم هذه الجيوش، أما باقي ساعات الأيام الستة فكانت لوصول الجيش الإسرائيلي إلى كامل الأراضي التي احتلها في تلك الهزيمة.
واستطراداً مرة ثانية تناسى نصر الله أن "حافظ أسد" حليفه الأوثق كان أحد القادة العسكريين الكبار الذين انهزموا في تلك الحرب، وهو يقود الجيش السوري كوزير عسكري للدفاع في سورية، ولم يقدم استقالته بل تمت ترقيته بعد ذلك ليصبح رئيساً لسورية على مدى ثلاثين عاماً.
ولو عدنا للنصف الفارغ من الكأس لوجدنا أن حزب الله خسر خسارة استراتيجية يحاول نصر الله لفت الانتباه عنها، فالكل يدرك أن أهم نتيجة لحرب (تموز - آب) كان اضطرار المقاومة للانسحاب شمالاً بعيداً عن الحدود مع إسرائيل، وهو ما كان ليحصل لولا الخطأ الذي اعترف به "نصر الله" وهو أن أسر الجنديين هو الذي استدرجه للحرب.
أحد الاستراتيجيين العسكريين قال: إن القائد الذي يخوض حرباً عليه أن يستقيل سواء أربح الحرب أم خسرها، أما الخاسر فما عاد بإمكانه أن يقود جنوده بعد أن تسبب في هزيمتهم، وأما الرابح فإن غرور النصر يمنعه أن يتعامل مع الناس وكأنهم مثله.
على أنني لا أطالب حسن نصر بالاستقالة بسبب حرب (تموز - آب)، وما جرّته من خراب ودمار فحسب، فلعل الدمار الاقتصادي الذي يتربص بلبنان بسبب الاعتصام الذي لا يعرف أحد إلى أين سيأخذ لبنان، وبدأ في أول أيام كانون أول الماضي قد يكون ضرره أشمل وأعم، فقد رأينا القنوات الفضائية تنقل شكوى الناس مما حل بلبنان من كساد اقتصادي بسبب هذا الاعتصام الأعمى الذي لا يعرف له اللبنانيون نهاية، وهو بلا شك يتعلق بكلمة واحدة من "نصر الله" لو قالها لوجدنا الجميع يتفرق حتى ولو خالفه شركاؤه.
الرجوع عن الخطأ أفضل من التمادي فيه، وما سمعناه من نصر الله في حديثه التلفزيوني آنف الذكر يدل على أن الاعتصام لم يحقق أياً من أهدافه التي سعى لها قادة المعتصمين، باستثناء خسارة مؤكدة في اقتصاد لبنان، وتوسيع شقة الخلاف بين اللبنانيين.
ومع ذلك "فبعض الشر أهون من بعض"، ما يعني عندي أن بقاء نصر الله على رأس حزب الله هو أفضل ألف مرة من مجيء "نعيم قاسم" أو غيره، على الأقل فإنه يتمتع بمقدرة على محاكمة الأمور إذا أراد ذلك، بينما غيره من قادة الحزب لا يجيد إلا لغة التهديد، وما أردته من مطالبته بالاستقالة هو استقالته من أفكاره التي استحدثها بعد انسحابه من الجنوب.
وما كان هذا التراجع ليحصل لولا أسر الجنديين وما جره على لبنان وعلى حزب الله، فالفصائل اللبنانية لم تكن في وارد إثارة موضوع تخلي حزب الله عن سلاحه الذي نص عليه القرار 1559 لولا أن القرار 1701 فرض ذلك، وقبله اللبنانيون بمن فيهم حزب الله لوقف الحرب التدميرية التي شنتها إسرائيل، فالموزاييك اللبناني الهش ما كان ليسمح بإثارة قضية شائكة مثل الطلب من حزب الله التخلي عن سلاحه.
كثير من المراقبين يعتقدون أن "نصر الله" قد وصل إلى قمة صعوده يوم انسحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في أيار عام 2000م، وهو الآن يعيش رحلة الهبوط، وما لم يوقف الاعتصام فإن الإصرار قد يسرع في رحلة الهبوط هذه، فهل يدرك ذلك "نصر الله" قبل فوات الأوان؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد