أفرز التواجد الروسي في منطقة الشرق الأوسط على مدار الأيام المنصرمة سؤالاً منطقياً من قبل المتابعين لتطورات الأحداث السياسية، سواء في المنطقة أو خارجها: لماذا الآن تحديداً هذا التواجد الروسي؟
أحسب أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في تحليل الكاتب الصهيوني 'بن كسبيت' بصحيفة معاريف العبرية 28/4/2005م تحت عنوان 'روسيا تلعب دوراً مزدوجاً'، أكد فيه أن موسكو وجدت التوقيت ملائماً الآن للعودة مرة أخرى إلى الحلبة السياسية الدولية بقوة، وبالطبع فإن أزمات الشرق الأوسط والصراع الدائر فيها بين الفلسطينيين و'الإسرائيليين' هو أنسب الطرق وأقصرها لعودة الدب الروسي'.
أضف إلى هذه الجزئية التي عرضها الكاتب الصهيوني المقرب من رئيس الوزراء الصهيوني 'أرييل شارون'º جزئية أخرى لا تقل أهمية تتمثل في التصريحات العلنية لوزيرة الخارجية الأمريكية 'كوندوليزا رايس' خلال زيارتها الأخيرة لموسكو 19/4/2005م، والتي انتقدت فيها سيطرة 'الكرملين' القوية على وسائل الإعلام والسلطة في موسكو، وطالبت الرئيس الروسي 'فلاديمير بوتين' بعدم السعي للحكم لفترة رئاسية جديدة بعد رئاسته الحالية.
وأدت هذه التصريحات لغضبة إعلامية روسية، حيث اعتبرت صحيفة 'نوفوستا' الروسية التصريحات الأمريكية بأنها تدخل سافر في الشؤون الداخلية الروسية.
من هذا المنطلق جاء الرئيس الروسي لمنطقة الشرق الأوسط حاملاً في جعبته العديد من 'كروت اللعب السياسية'، أظهرت في نهاية جولته بالمنطقة أن موسكو يمكنها بالفعل العودة بقوة لمعادلة ميزان القوى في العالم، وإن كانت عودتها هذه المرة ليست لها محدداتها الأخرى نتيجة تغير الظروف الدولية والداخلية.
البداية من مصر:
بدأ بوتين زيارته للمنطقة بزيارة مصر, وهي الزيارة الأولى له للقاهرة, والأولى لرئيس روسي لمصر منذ عام 1964م، حيث أسفرت الزيارة عن بيان مصري - روسي مشترك يدخل في إطار البيانات الرسمية المعتادة لمثل هذه اللقاءات، لكن أفرزت الزيارة على الجانب الآخر - وتحديداً في الكيان الصهيوني - جدلاً كبيراً، حيث تناقلت وسائل الإعلام العبرية [موقع 'إن إف سي' الصهيوني الشهير، وصحيفتا 'هاأرتس' و'يديعوت أحرونوت' 28/4/2005] تقريراً وصفوه بأنه 'مخابراتي'، جاء فيه أن بوتين حاول العمل على إقناع مصر بالسير على الدرب الإيراني فيما يتعلق بالمشروعات النووية، أضاف التقرير أن مصر مُترددة إلى الآن في قبول العرض الروسي على خلفية الخوف من رد الفعل الأمريكي، والضغط الدولي الذي سيعقب البدء في هذا المشروع في حال موافقة مصر عليه.
وربما كان الخبر المقتضب الذي نشرته صحيفة الأخبار المصرية صباح يوم الخميس 28/4/2005 حول تصريح لمسؤول عسكري روسي كبير بالموافقة على طلب مصر شراء أسلحة روسية ما استند إليه التقرير العبري حول اشتمال اللقاء بين مصر وروسيا على بيع روسيا لعدد 1000 صاروخ ستريلا إس 18 للقاهرة، وهو الأمر الذي عاد التقرير ونفاه في نهايته بالقول: إن 'مصر لم توافق على طلب روسي بشراء صواريخ حديثة كانت سوريا قد اشترتها مؤخراً من روسيا'، وحسب التقرير فإن 'موسكو تخشى من أن تقوم مصر بشراء تلك الأسلحة من الصين'، وهو ما يعني تكذيب التقرير لنفسه!
بوتين يساعد الأعداء:
زيارة بوتين للمنطقة لم تلقَ القبول الكامل لدى الكيان الصهيوني، وهو ما تجلى في عناوين المقالات العبرية الرئيسة اليومية وتفاصيلها، فالكاتب الصهيوني 'إليائيل شحر' كتب في صحيفة معاريف 28/4/2005 تحت عنوان 'بوتين يساعد أعداء إسرائيل' قال فيه: إن بوتين جاء للشرق الأوسط لمساعدة أعداء إسرائيل، ولم يقصد شحر بذلك مصر، بل انتقل للحديث عن الدور الروسي الحالي في تعزيز المشروعات النووية الإيرانية، وبالطبع - وكما هو معتاد في الصحافة العبرية - فإن ذكر إيران دائماً ما يكون مقروناً باسم سوريا، لذا فقد قفز الكاتب الصهيوني على ما أسماه بالمخاوف الأمنية 'الإسرائيلية' من الصفقة الروسية لبيع الصواريخ قصيرة المدى المضادة للطائرات لدمشق.
في هذا السياق رمى بوتين الكرة في الملعب الصهيوني عندما قال في مؤتمره الصحفي بالكيان الصهيوني 29/4/2005: 'أتفهم تماماً المخاوف الإسرائيلية بشأن هذه الصفقة، وإمكانية أن تنتقل هذه الصواريخ لحركة مثل حزب الله اللبناني، لكن هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة، فهذه الصواريخ التي تم بيعها لسوريا هي صواريخ مضادة للطائرات، وقصيرة المدى، ولا تشكل تهديداً لأراضي دولة إسرائيل، ولكي تصيب هذه الصواريخ أهدافاً إسرائيلية فهذا لن يحدث إلا إذا دخلت قوات إسرائيلية إلى الأراضي السورية'، والتفت بوتين للصحفيين الصهاينة متسائلاً: 'هل تنوون غزو سوريا'؟!
بوتين عند الحائط:
فور هبوط بوتين مساء الخميس 28/4/2005 لمطار 'ابن جوريون' الصهيوني بدا التحرك الروسي مخالفاً بعض الشيء لما جاء في الميديا العبرية، وإن كان لم يرقَ بالفعل لمستوى طموحات وآمال الصهاينة، فبوتين طلب من حاخام الحائط العربي 'شموئيل برانكوفيتش' أن ينقل للشعب اليهودي اعتذاره الشخصي لمحاولته لمس حجارة الحائط الغربي، ووصف بوتين الحائط بأنه أقدس مكان لليهود في العالم.
هذه التصريحات وصفتها صحيفة 'هتسوفيه' الصهيونية 30/4/2005 بأنها مجرد محاولة فقط لتهدئة الجانب 'الإسرائيلي' عن رد فعلها حيال التقارير الخاصة بتعاون روسي عسكري على أعلى مستوى مع كل من طهران ودمشق.
أضف إلى ذلك طرح بوتين خلال مؤتمره الصحفي بالقاهرة لفكرة عقد مؤتمر دولي في موسكو لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وهو الطرح الذي لم تتمهل واشنطن في محاولة التفكير فيه، فخرج المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض 'سكوت ماكليلان' ببيان ترفض فيه واشنطن المقترح الروسي، لكن الأسباب واضحة وجلية، فالموافقة على عقد هذا المؤتمر برعاية روسية يعني - من وجهة النظر الأمريكية - إقحام موسكو طرفاً قوياً ثانياً في العملية السلمية في الشرق الأوسط أمام واشنطن، ما يعيق تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة إلا بعد إجراء 'مقايضات' مع الجانب الروسي.
دعم روسي للفلسطينيين:
يبدو أن تسلسل أحداث زيارة بوتين التاريخية - كما وصفتها الصحف العبرية - للمنطقة يؤشر لبدء حقبة جديدة في المناورات السياسية الروسية - الأمريكية، دليل ذلك أن بوتين رد سريعاً على رفض واشنطن للفكرة الروسية بشأن عقد مؤتمر سلام في موسكو، فأعلن بوتين خلال لقائه برئيس السلطة الفلسطينية 'محمود عباس' أبو مازن عن دعم روسي عسكري للسلطة، وهو ما أدى لقلق أمريكي ظهر جلياً وسريعاً في تصريح 'آدم إيرلي' الناطق باسم الخارجية الأمريكية: [توجد مساحة معينة من القلقº إننا نخشى بأن تجد هذه المعدات طريقها إلى أيدي 'الإرهابيين' - على حد وصفه -، وإلى أولئك الذين تعهدوا باستخدام العنف من أجل تحطيم عملية السلام بين الفلسطينيين و'الإسرائيليين'].
وبدا أن تصريحات بوتين مدروسة بالفعل، وموجهة لكل من واشنطن وتل أبيب، فأرجع تقديمه للدعم العسكري للسلطة الفلسطينية إلى الرغبة في التعاون مع السلطة في مكافحة ما أسماه 'بالإرهاب'، وأكد أن السلطة لا يمكنها الوفاء بتعهداتها الأمنية بدون المعدات العسكرية، وتدريب أفراد الأمن, وهو الأمر الذي ترفضه واشنطن وتل أبيب.
على الفور أيضاً أعلنت الحكومة الصهيونية رفضها لتصريحات الرئيس الروسي، وأكدت أنها لن تسمح لروسيا بإرسال معدات عسكرية إلى السلطة الفلسطينية.
بطبيعة الحال لم يترك بوتين التصريحات التي سبق لوزيرة الخارجية الأمريكية 'كوندوليزا رايس' التفوه بها تمر مرور الكرام، وحسب مراسلة صحيفة 'يديعوت أحرونوت' في روسيا 'نتاشا موزجوفيا' قالت في تقريرها بالصحيفة عدد الجمعة 30/4/2005 ': [ربما بسبب قرب إسرائيل من الولايات المتحدة فضل بوتين استغلال لقاءاته مع الرئيس ورئيس الوزراء لتوجيه انتقاد حاد لإدارة بوش، فقد أوضح الرئيس الروسي أن المحاولة الأمريكية لفرض الديمقراطية على العالم العربي تضعضع الاستقرار في الشرق الأوسط].
يبقى أن نشير إلى أن هذا الموقف الروسي ليس نابعاً من التعاطف الروسي مع القضايا العربية والإسلامية - وما أحداث الشيشان عنا ببعيد -، بل نابع من لعبة المصالح السياسية التي ترى فيها كل دولة كيفية تحقيقها بالطريقة التي تراها في هذا الصدد، فلا مانع من الدعم العربي لموسكو دون إهمال القضية الشيشانية، بما يحقق في نهاية المطاف المصالح العربية والإسلامية التي أحوج ما تكون هذه الأيام إلى وجود طرف قوة ثانٍ, في العالم، ما دام العرب قد تخلوا عن وحدتهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد