العلمانية وفصل الدين عن الدولة دعوة قديمة جديدة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

منظومة التشريع الاسلامي

قبل أن ندخل في صلب الموضوع أنقل ما قاله غير المسلمين بحق التشريع الإسلامي ومن قبل جهات صاحبة اختصاص.

 

-يذكر العلامة مصطفى أحمد الزرقاء - رحمه الله تعالى -في كتابه المدخل الفقهي العام الجزء الأول ما يلي: في الثاني من تموز عام 1951 عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمرا في كلية الحقوق من جامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي برئاسة المسيو ميو أستاذ التشريع الإسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس حضره عددا من أساتذة الحقوق في الجامعات العربية والغربية ومن المستشرقين، وفي خلال بعض النقاشات وقف أحد الأعضاء وهو نقيب محاماة سابق في باريس فقال: أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ.

 

وفي ختام المؤتمر وضع المؤتمرون تقرير نقتطف منه: أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها. وان اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات، ومن الأصول الحقوقية، هي مناط الإعجاب، وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها، انتهى كلام الشيخ ص 6-9.

 

وكما قيل والفضل ما شهدت به الأعداء، فعجيب أمر قومنا يزهدون بما عندنا ويذهبون شرقا وغربا يريدون منا أن نأخذ بتشريعات لا تمت لبيئتنا بصلة كما أنهم يريدون منا أن ننسلخ عن أصالتنا التي ذخرت بتراث فقهي مجيد بما يحتويه من مبادئ وأسس ومرونة تمكنه من الاستجابة لكل الحاجات في كل زمان وبيئة.

 

والآن نأتي الى النظام التشريعي في الإسلام حيث سيتم تناوله من خلال ركيزتين أساسيتين:

أولا وضع التشريعات والأنظمة الوضعية.

ثانيا - التشريع الإسلامي

أولا وضع التشريعات والأنظمة الوضعية:

معلوم أن القانون يتكون تدريجيا فيخضع للتعديل والاستبدال والإلغاء فكلما أرتقت مدارك الإنسان ومعارفه كلما ارتقى في التشريع.

ولكن تبقى هذه القوانين هي من صناعة البشر الذين مهما أو توا من الكمال فإنهم يبقون بشرا لا يستطيعون إقامة قانون خالد صالح لكل زمان ومكان.

والاختلاف في القوانين بين أمة وأخرى دليل على الاختلاف في العادات والأعراف وثقافة المجتمع وعقيدته حيث أن لكل أمة خصوصيات، فهل يعقل أن نجعل من خصوصيات الآخرين مرجعية لنا.

ومن خلال التدقيق في كل القوانين الوضعية نجد أنها تفتقد إلى المبادئ الأخلاقية والتي تنبع من وازع الضمير ومحاسبة النفس ومراقبة التصرفات والسلوكيات.

كما أن هذه القوانين تفتقد للكمال والصلوحية ولا تستطيع الموازنة والتوافق بين النظرة إلى الكون والإنسان والحياة مما يجعل فيها ثغرات دائمة وتشوهات مزمنة.

 

كما أن هذه القوانين تفتقر إلى العدالة فهي قد تكون عادلة مع رعايا الدولة ولكنها ظالمة ومجحفة بحق الآخرين خارج الدولة، وبما أنها من صناعة البشر فيتم تفسير هذه القوانين بما يخدم مصالح هذه الدول فيتم التلاعب بها كلما اقتضت مصلحتهم لذلك.

 

وبمراجعة متأنية ومنصفة للمائة عام الأخيرة نقف على كوارث وجرائم ارتكبت بحق البشرية وباسم هذه القوانين.

 

ثانيا التشريع الإسلامي:

- قلنا في الحلقة الأولى أن الإسلام دين ودولة فهو عقيدة تحرر العقل من الجهل والخرافة والانغلاق، وأخلاق تهذب النفس وتدعوها نحو الفضائل، وعبادة روحية تربط الإنسان بخالقه ليبقى دائما في حالة مراقبة لتصرفاته وسلوكه، وتشريع ينظم شؤون الحياة وعلاقة الإنسان مع خالقه وعلاقته مع نفسه وعلاقته مع الآخرين على مستوى المجتمع والدولة.

 

 - ولتحقيق هذه المنظومة المتوازنة جاء الإسلام بتشريع شامل ومتوازن فلقد شمل جميع القواعد والأسس والمبادئ اللازمة لإقامة حياة اجتماعية ضمن الدولة.

 

ولا ننكر أنه في بعض الأحيان ترتكب أخطاء في التطبيق لكن هذه الأخطاء لا تستوجب استبعاد الشريعة ونظامها فطالما أن هناك مبدأ فهو المرجع ولا قداسة لاجتهادات الأشخاص.

 

- وبالعودة إلى النظام الإسلامي فإننا نجده تضمن كل متطلبات القوانين والأحكام على المستوى الخاص والعام فكان نظاما بمبادئ عامة وردت في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتركت مساحة واسعة للاجتهاد بالتفصيلات حسب مقتضيات الزمان والمكان والبيئة والظروف والمستجدات.

 

- إن التشريع الإسلامي نظاما ربانيا ارتضاه خالق الكون للبشرية فهو خالقها ويعلم ما ينفعها ويضرها فوضع لها نظاما صالحا لها في كل عصر ومصر فهل يعقل أن نستبدل النظام الرباني بنظام بشري مازال إلى اليوم يعاني من ثغرات قاتلة.

 

-كما أن النظام الإسلامي خلا مما يسمى طبقة رجال الدين الذين عانت منهم البشرية في بعض الديانات، فلم يعرف الإسلام لا في عهد النبوة ولا في عهد الراشدين ولا في العهود الأخرى طبقة رجال الدين، بل هناك فقهاء وعلماء دورهم توضيح وتبيان أحكام الشريعة فلا يحرمون حلالا ولا يحلون حراما ولم يعرف هؤلاء الفقهاء بأي ميزة تميزهم عن باقي أفراد المجتمع إلا بعلمهم وهذا ما جعل العامة يحترمونهم ويجلونهم ويقدرونهم بل حتى أن أركان الدولة كانت تهابهم لأنهم يدركون دورهم في الوقوف بوجه الأخطاء والانحرافات وقد حفل تاريخ الإسلام بمواقف العلماء ضد بعض الولاة الذين حادوا أحيانا عن الطريق.

 

إن هؤلاء العلماء كانوا مثل الأطباء في تشخيصهم للمرض ثم وصف العلاج المناسب وشأنهم شأن أصحاب الاختصاصات الأخرى.

 

-إن التاريخ الإسلامي حافل بآلاف المواقف التي تؤكد بعد العلماء عن السيطرة على أركان الدولة وهيمنتهم على الحياة العامة بل نجد مواقفهم صارمة بحق الولاة الذين انحرفوا ومن هذه المواقف:

-الفقيه منذر بن سعيد في الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر الذي أنشأ مدينة الزهراء وأنفق عليها الأموال الطائلة حتى أنه أتخذ للصرح الممرد قبة من ذهب وفضة فما كان من الفقيه منذر إلا أن وقف وبحضور الناصر مؤنبا له قائلا ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله وفضلك على العالمين، حتى أنزلك منازل الكافرين، فاقشعر الناصر لهذا القول وقال له انظر ما تقول فرد عليه منذر ألم تقرأ قول الله - تعالى -: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون)، فوجم الناصر ودموعه تجري ثم قام شاكرا للفقيه منذر وأمر بنقض القبة، انه موقف لرد انحراف الناصر في استخدام المال العام وبذلك كان الفقيه وكيلا عن أموال الشعب وليس رجل دين يبتز أموال الشعب.

 

-لما ثار بعض سكان لبنان على عاملها علي بن عبد الله بن عباس فقام بتفريقهم وأجلاهم عن ديارهم ولما علم إمام الشام وعالمها الإمام الأوزاعي بذلك كتب إلى والي لبنان يذكره بالنصوص التي تدعوا للعدل والإنصاف بحق الآخرين فما كان من الوالي إلا أن أعادهم إلى قراهم وبيوتهم، فهل كان الفقهاء رجال دين يساعدون على الظلم والاضطهاد.

 

إن بطون الكتب تحدثنا عن مواقف ستبقى درة في جبين التاريخ في مواقف الفقهاء والعلماء.

 

فلمصلحة من يتم الترويج لهذه الدعوة في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأت فيها، إن حال هؤلاء كمن يمارس الاضطهاد تجاه أفكاره نفسها لأنهم يريدون استنبات شجرة غريبة في بيئة غريبة غير بيئتها.

 

إن حال هؤلاء حال رجل نظر فأبصر ففكر ثم دبر فتوصل إلى فكرة عبقرية كما يزعم فخرج علينا بنظرية كما يزعم قائلا لنا نريد أن نخرج السمك من الماء من أجل أن تعيش في البر وتقطع علاقتها الوجودية مع الماء، ثم عمل ما بوسعه من أجل أن يتأقلم السمك مع المحيط الجديد فسخر لذلك كل الإمكانيات والوسائل لنجاح تجربته ولكن من حوله نصحوه وقدموا له البراهين أن تجربته فاشلة وأنه يمارس جريمة بحق السمك لكنه لم يسمع لهم بل شكك بكل نصائحهم وأثار حولها الشبهات وبعد فترة أكتشف فشل تجربته، وبدل أن يعترف بجريمته بحق هذا الكائن وفشله الذريع بدا يكيل التهم للبيئة المحيطة.

 

إن من يريد استنبات شجرة العلمانية لا يسمعون نصحا ولا يقبلون رأيا ويصرون على مناطحة الصخور فهل هؤلاء مستعدين بعد تجاربهم الفاشلة أن يغيروا فكرهم ومنهجهم وبذلك يكونون مخلصين لشعوبهم وأمتهم وهذا أفضل ما يمكن أن يفعلوه.

 

على هؤلاء أن يدركوا أن المسلمين مهما اعتراهم الضعف والتراجع وتقليد الغالب لكنهم رغم كل ذلك حددوا مكانهم ومرجعيتهم وهذا الأمر قد حسم لصالح الإسلام فلماذا يصر هؤلاء على مواقفهم وكل يوم يفاجئون بفشل جديد يلاحقهم.

 

وبما أن السمك لا يعيش إلا في الماء وكذلك الإسلام هو المرجعية التي لا نعيش بدونها، وهذا لا يمنع من الاعتراف بخلل وقع هنا أو هناك في بعض التجارب سواء في الماضي أو الحاضر وهذا يدعونا إلى دراسة هذه التجارب بموضوعية فنصوب ما وقع من أخطاء وانحرافات وننمي مات حقق من نجاحات ونطور ما يحتاج إلى تطوير في ضوء المقاصد العامة للشريعة الإسلامية حتى نضمن تجربة ناجحة تستفيد منها البشرية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply