الأصالة والحداثة قراءة في فكر د. زكي نجيب محمود (1)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

زكي نجيب محمود علم من أعلام العلمانية المعاصرة عرف بمنهجه القائم على الفلسفة الوضعية المنطقية، التي تُهمش كل ما يتصل بعالم الغيب وعلى ضوئها ألّف عدداً من الكتب من أشهرها: (خرافة الميتافيزيقا) وكان محل نقد كثير من علماء مصر ومفكريها، لكنه بقي متمسكاً بمنهجه هذا وأعاد طبع كتابه دون تغيير يذكر سوى تعديل العنوان إلى: (موقف من الميتافيزيقا) مع مقدمة تبريرية جديدة.

والحق يقال أنه بعد أن اطلع على التراث العربى تغير موقفه المهاجم إلى موقف آخر أقل حدة، وأكثر مراوغة!، وهذا ما وضّحه في كتابه: (تجديد الفكر العربي المعاصر) الذي اعترف فيه بجهله بالتراث العربي ودعوته إلى الجمع بين الأصالة والمعاصرة فالأصالة شكل والمعاصرة مضمون.

 ويسرنا في هذه المجلة أن نقدم هذه الدراسة التقويمية لفكره بعد أن استغلت وفاته من قبل الإعلام العلماني في تكريسه رمزا من رموز الفكر العرى المعاصر.  - البيان –

 

بعض الأفكار والاهتمامات تنقدح في الذهن ثم تختفي، والبعض يرسب في أعماق النفس، بحيث تبقى (تلح ) على صاحبها، وكأنها تذكر بنفسها ووجودها.

 وأذكر- حتى هذا اليوم - تلك الساعات التي كنا نناقش فيها- ونحن في مرحلة الدراسة المتوسطة- الأمم المتقدمة وغير المتقدمة، وحاولنا بسذاجة أن نحدد (معايير ) لذلك.

ثم كرت الأعوام وكثرت وتنوعت الاهتمامات، ولكن موضوع التقدم ومن هو المتقدم؟ لم أستطع دفعه، وقد حملني ذلك على قراءة كل بحث أمكنني الوصول إليه، مستهدفاً التعرف على الموضوع، حتى تصورت في فترة أن الجواب يمكن أن أجده في كتب التاريخ أو في (تفسير التاريخ ) وحملني ذلك على أن أكتب في هذا الميدان كتاباً، ثم تابعت ما يكتب عن التغير والتطور وعن الثوابت وماهيتها.

 

الدكتور: زكي نجيب محمود ونظريته

 قد قرأت أخيراً للدكتور زكي نجيب محمود، فوجدته يحمل هذا الاهتمام حتى ليقول (...إن قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا، ربما كانت أهـم ما تعرضت له من اهتمامات بالتفكير وبالكتابة، ثم ما هو أكثر من ذلك، فقد أصبحت.

على يقين من أن هذه المسألة هي أم المسائل الثقافية فيه جميعاً...

 إذ هي حقاً القضية التي يصح أن نقول حيالها قولة (هاملت) في أزمته النفسية: أن أكون أو لا أكون ذلك هو السؤال).

 يعترف بعد ذلك الرجل بصراحة بأنه في أول حياته العلمية، وحتى أواسط الستينات من القرن الميلادي، لا يرى في الحياة القومية (إلا صورة واحدة، هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة هذا العصر... ).

 فقد اتخذ من حضارة الغرب مقياساً يقيس به شعوب الأرض قاطبة، فكل من اقترب من الغرب وحضارته فهو متقدم، ومن ابتعد فهو متأخر (هكذا كان الرأي عندي حتى لقد بلغت فيه حدوداً من التطرف، الذي لم يعرف لنفسه حيطة وحذراً).

ثم يعقب على ذلك: بأن الأمر كان يبدو له وكأنه مجرد بدهية من البدهيات، التي لا تحتاج حتى إلى البحث أو التأمل.

 ثم يحاول طرح نظرية تزرع نوعاً من الوئام والسلام بين (الأصالة والحداثة) وقد حمله هذا الاهتمام، لقراءة التراث، بعد أن وضع لنفسه منهجاً، وراح على أساسه يقرأ التراث، وسيطرت عليه فكرة (التطور) سيطرة أفسدت عليه منهجه، كما استحضر بعض قراءاته للفكر الاستشراقي الغربي، معتبراً بعض مقولاته مسلّمات من مثل (إن الثقافة تراثنا هي ثقافة صدق المقولة فهو يحاول البحث لها عما يسندها فيقول: (ثقافتنا الموروثة ثقافة مدارها (الكلمة) وثقافة عصرنا مدارها (الجهاز)....

فبينما الكلمة الموروثة توحي إليه بشيء، تجئ (الأجهزة) فتوصي إليه بنقيضه، وبين النقيضين يقع - أي الإنسان عندنا- فريسة سهلة) ثم يردد مقولة المستشرقين ويضج أمامها (كيف) فيقول: (كيف غلبت النظرة العلمية على اليونان والغرب كله بعدهم - وغلبت النزعة الصوفية على الشرق الأقصى)؟.

 ولكنه وهو يحاول وضع منهج سلام بين (الأصالة والحداثة )، يقول بأن الثقافة العربية كان لها القدرة على الجمع بين النظر العلمي والوجدان الصوفي.

أسئلة لتحديد المراد:

 يطرح سؤالين حول الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم هما:

 1- ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن الشخصية العربية (الأصلية) وأعتقد أنها (الأصيلة )؟.

 2- ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟.

 ويرى أن تحديد ذلك يساهم في صنع (المركب الواحد) وعن الشق الأول، يرى أن هناك ذاتا إلهية خالقة، وعالم كائنات مخلوق لذات الله، وبينهما كائن ميزه خالقه فجعله حاملى (أمانة) ذلك هو الإنسان، وهو (كائن خلقي بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيمة أخلاقية محددة معينة، أُمليت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، وأن يضيف إليها ما يناقضها).

 ثم يضيف الدكتور أن هذا (التكليف) الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا بالمسؤولية، و هي أخلاقية وشخصية، فلا يحملها أحد عن أحد.

ثم يذكر أن الثقافات الأخرى لها مفاهيم مختلفة، فالبعض يرى الأخلاق (واقعية) فما ثبت نفعه، التزمناه، وما ظهر ضرره تركناه، ونظراً لتبدل النفع والضرر فإن المبادئ الأخلاقية (نسبية) وغير مطلقة، والبعض الآخر يرى أن للإنسان مطلق الحرية أن يتخذ لنفسه ما يشاء من قرارات، بشرط واحد: هو أن يكون مسؤولاً عن قراره، ولا أحد يمكنه أن يملي عليه مهما كان.

ثم يقرر الدكتور أن الوقفة العربية مختلفة عن كلا المذهبين.

 لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا تعرضنا لخطر الجمود ولو سبحنا أحراراً مع تيار الزمن وتغيراته، تعرضنا لانحلال الشخصية، وغاية ما أستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة، فيها من السعة ما يمكننا من التصرف قي إطارها بدرجة من الحرية، تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في عصرنا.

ومن مميزات الثقافة العربية كذلك تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة، لياذاً بما هو ثابت ودائم، فكل ما في الأرض والسماء فان وزائل متغير أبداً يتحول أبداً، ففيم التمسك به، وهو عاجز عن التماسك بذاته؟ أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء، والصيرورة والتغير الدائب، من حال إلى حال؟ لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم....)

 هذا الكلام وإن كان ظاهره جيد إلا أنه غير صاف تماماً من لونه المتطور ثم إن الدكتور ينساه حين يتذكر التربية (العلمانية) والتعليم العلماني، الذي تغذاه منذ صغره حتى كبره، ينسى كل ذلك حين يباشر الحديث عن (التقدم ) التقدم

 يطرح الكاتب سؤالاً (كيف ألتزمُ النظرة العلمية الصارمة، لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقاً إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام، لأظل محتفظاً بهذه السمة الغريبة في نظري؟ ).

 سؤال جيد، أحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد أجاب عنه حين قرر: أن لا تعارض بين العقل والنقل، فإذا وجد التعارض أخذنا بالقطعي منهما.

 بعد هذا تطغى على الدكتور النزعة والتربية العلمانية فيقول (إني لأُرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان، بشرط ألا نسمع لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر).

 هذه هي العلمانية (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ولنقرأ كذلك (بغير هذا الفصل الحاد بين العالمين يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر، وصوفية الأصل الموروث).

 أنا لا ألوم الدكتور فتربيته وتعليمه جاءت علمانية، وقد أفسدت عليه رؤاه، كما أفسدت منهجه، وإذا كان الغرب - لأسباب خاصة - تبنى العلمانيةº فلا يعني ذلك وجوب أن نتبناها، ذلك أن الإسلام غير النصرانية الكنسية، والشروط الموضوعية غير متوفرة عندنا، وليس هنا مجال بحث العلمانية، وبشروطها الموضوعية.

التقدم، المبادئ، التغير، الفردية بعد هذا يحاول الدكتور التعريف بثقافة العصر، فيرى من المفيد دراسة (التقدم)، (المبادئ)، (التغير)، (الفردية)، والهدف بيان أبعادها في الفكر المعاصر.

 ويهمنا بحثه في (التقدم) الذي يرى فيه أنه أبرز ما يميز العصر الحديث كله، و منذ ثلاثة قرون وحتى اليوم.

 وخطورة البحث أنه جاء منحازاً كلياً، وجنح الكاتب إلى الوصف الأدبي، فلنقرأ  (إنك لكي تتقدم من حالة إلى حالة، لابد أن تعد الحالة الأولى متخلفة بالنسبة للحالة الثانية، فالنقلة لا تكون تقدماً إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها نقلة مما هو أسوأ، إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر، فضلاً عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ، ومعنى ذلك أن (الماضي) دائماً، وفي كل الظروف، أقل صلاحية من الحاضر، ذلك إن زعمنا أن الحضارة (تقدم) وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.

 وههنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى، لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن نشرب بروح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة وكمال... ).

من اليونان إلى هيغل وماركس إلى د. زكي

 الذي لا أشك فيه أن الدكتور زكي بحكم دراسته الفلسفة، قد اطلع على فكرة: أن الحضارة في تقدم مطرد، حيث قال بذلك بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء هيغل فجعل منها نظرية، فسر بها تاريخ الإنسانية، حيث اعتبره (صراع متناقضات)، كما قال بأن كل عهد يأتي يكون أرقى من سابقه، والحضارة التالية يجب أن تكون أرقى من سابقتها، بل إن أوجه الحضارة في رقي دائم لا سبيل إلى مقاومتها، وقد نقلت الماركسية ذلك عن معلمها (هيغل ) حرفياً وسلمت به - وإن لم تكف عن شتمه -.

 ولكنّ مؤرخاً مثل توينبي يقول (لقد ارتقى علمنا فبلغ درجة لم يسبق أن بلغها، ومع ذلك فقد انتكسنا في نفس الوقت في الحروب الطبقية والقومية والعنصرية، إلى أعماق قد لا يكون سمع بها أحد قبلنا، وهذه المشاعر السيئة، تجد لها متنفساً في أعماق القسوة الغليظة المصممة علمياً).  لقد تحمس الدكتور زكي فاندفع يؤيد (نظرياته ) بأقوى من المنادين بها.

 - يتبع -

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply