العلمانية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مما هو مقرر أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد من تحديد المفاهيم حتى يمكن الحكم عليها حكما صحيحا، والعلمانية لفظ وجد في كتبنا العربية حديثا عند ترجمة ما يقابلها في اللغات الأجنبية عن طريق الإدارة العامة للتشريع والفتوى بمجلس الأمة المصرى - آنذاك - كما هو ثابت في الموسوعة العربية للدساتير العالمية التي أَصدرها المجلس المذكور سنة 1966 م. وبعيدا عن صحة النطق بهذه الكلمة، الذي ذهب فيه الكاتبون مذاهب شتى، وكان فرصة استغلت للدعوة إلى وجهة نظر معينة كما هو شأن المتشابه من النصوص الذي جاء فيه قول اللّه تعالى: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله... } آل عمران: 7،. بعيدا عن ذلك، فإن نسبة العلمانية إلى العلم أو العالم ليست على قياس لغوى، وهى ترجمة للكلمة الإفرنجية " لاييك " أو" سيكولا ريسم " وتعنى " لا دينية" على أي وجه تكون، وفي أي ميدان تطبق، وعلى أي شىء تطلق. وهى نزعة أو اتجاه أو مذهب اعتنقه جماعة في أوروبا في مقابل ما كان سائدا فيها في العصور المظلمة، التي تسلط فيها رجال الدين على كل نشاط في أي ميدان، مما تسبب عنه ركود وتخلف حضاري بالنسبة إلى ما كان موجودا بالذات عند المسلمين من تقدم في كل المجالات. وكان معتنقو هذا المذهب في أول الأمر في القرنين السابع عشر والثامن عشر قد وقفوا من الدين موقف عدم المبالاة به، وتركوا سلطانه يعيش في دائرة خاصة، واكتفوا بفصله عن الدولة. ومن أشهر هؤلاء "توماس هوبز " الإنجليزي المتوفى سنة 1679 م، " جون لوك " الإنجليزى المتوفى سنة 1704 م، " ليبنيتز" الألمانى المتوفى سنة 1716 م، " جان جاك روسو" المتوفى سنة 1778 م. وفي القرن التاسع عشر كانت المواجهة العنيفة بين العلمانية والدين، وذلك لتغلغل المادية في نفوس كثير ممن فتنوا بالعلم التجريبى، إلى حد أنكروا  فيه الأديان وما جاءت به من أفكار، واتهموها بتهم كثيرة كرد فعل للمعاناة التي عانوها من رجال الدين وسلطانهم في زمن التخلف الذي نسبوه إلى الدين، ذلك الدين الذي كان من وضع من تولوا أمره، والدين الحق المنزل من عند اللّه بريء منه. ومن أشهر هؤلاء المهاجمين " كارل ما كس " الألماني المتوفى سنة 1883 م، " فريدريك أنجلز " الألماني المتوفي1895 م، " فلاديمير أوليانوف لينين " الروسى المتوفى سنة 1924 م. هؤلاء لم يقبلوا أن تكون هناك سلطة ثانية أبدا، حتى لو لم تتدخل في شئون الدولة، وإن كانت هذه العداوة للدين بدأت تخف، وتعاونت السلطات السياسية والاستعمارية على تحقيق أغراضها. لقد تأثر بهذا المذهب كثيرون من الدول الغربية، وقلدها في ذلك بعض الدول الشرقية، ووضعت دساتيرها على أساس الفصل بين السياسة والدين، مبهورة بالتقدم والحضارة المادية الغربية، اعتقادا أنها وليدة إقصاء الدين عن النشاط السياسي والاجتماعي.

إن العلمانية بهذا المفهوم، وهو عدم المبالاة بالدين، يأباها الإسلام، الذي هو من صنع اللّه وليس من صنع البشر، فهو منزه عن كل العيوب والمآخذ التي وجدت في الأديان الأخرى التي لعبت فيها الأصابع وحرفتها عن حقيقتها. ذلك لأنه دين الإصلاح الشامل، الذي ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه، ويوفر له السعادة في الدنيا والآخرة على السواء، فهو كما يقال، دين ودنيا، أو دين ودولة، أو عبادة وقيادة... ومن مظاهر ذلك ما يأتي:

1 - عقائد الإسلام ليست فيها خرافات ولا أباطيل، فهو يقدس العقل ويأمر بتحكيمه إلى حد كبير.

2 - الإسلام ليس منغلقا على معلومات معينة يتلقاها بنصها من الوحي، بل هو كما يقال، دين منفتح على كل المعارف والعلوم ما دامت تقوم على حقائق وتستهدف الخير.

3 - الإسلام يمقت الرهبنة التي تعطل مصالح الدنيا، ويجعل النشاط الذي يبذل لتحقيق هذه المصالح في منزلة عالية، لأنه جهاد في سبيل اللّه، والتاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين، فهو دين يعمل للدنيا والآخرة معا.

4 - الإسلام يقرر أن السلوك الاجتماعي مقياس لقبول العبادة، فمن لم تثمر عبادته، بمفهومها الخاص من العلاقة بين العبد وربه، استقامة في السلوك فهي عبادة مرفوضة لا يقبلها اللَّه {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون} الماعون: 4 - 7.

ه - الإسلام ليس فيه كهنوت يتحكم فيه بعض من الناس في مصائر الناس بإدخالهم الجنة أو حرمانهم منها، بناء على اعتبارات خاصة، فمدار ذلك على العقيدة الخالصة والعمل الصالح، وليس المشتغلون بعلوم الدين إلا معلمين ومرشدين، والأمر متروك بعد ذلك لمن شاء أن يستفيد أو لا يستفيد بالتطبيق.

وقد يكون المتعلم أقرب إلى اللّه من معلمه، بالتزام الطريق المستقيم الذي رسمه اللّه لهم جميعا، فما دامت العبادة للَّه وحده فهو وحده الذي يقبل منها ما يشاء.

6 -الإسلام ليس فيه سلطة مقدسة مستمدة من سلطة اللَّه، وليس في البشر من هو معصوم من الخطأ، إلا من اصطفاه اللّه لرسالاته، والحكم من ذوى السلطان ليس لذواتهم، بل الحكم للدين أولا وآخرا، فكل شىء فيه اختلاف رأي يرد إلى اللَّه وإلى الرسول، أي الكتاب والسنة.

7- مبادئ الشريعة تستهدف تحقيق المصلحة، فإذا لم يوجد نص واضح في أمر تعددت فيه وجهات النظر من أهل النظر وكان يحقق المصلحة العامة كان مشروعا، وبخاصة في أمور الدنيا، فالناس أعلم بشئونها.

8 - الإسلام دين تقدم وتطور وحضارة، ليس جامدا ولا متمسكا بالقديم على علاته فهو ينهى عن التبعية المطلقة في الفكر أو السلوك الذي يظهر بطلانه، بل يقرر أن اللّه يبعث مجددين على رأس كل قرن، يوضحون للناس ما أبهم، ويصححون لهم ما أخطأوا فيه ويوائمون بين الدين والحياة فيما تسمح به المواءمة، لأنه دين صالح لكل زمان ومكان، ومن مبادئ التربية المأثورة عن السلف:

لا تحملوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. والمراد بالأخلاق العادات التي تقبل التغيير، أما أصول الأخلاق فثابتة.

بهذا وبغيره نرى الإِِسلام يرفض العلمانية، وأن المسلمين ليسوا في حاجة إليها، وإنما هم في حاجة إلى فهم دينهم فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا سليما كاملا، كما فهمه الأولون وطبقوه، فكانوا أساتذة العالم في كل فنون الحضارة والمدنية الصحيحة، وضعف المسلمين وتأخرهم ناتجان عن الجهل بحقائق الدين وبالتالي عدم العمل بما جاء به من هدى، وبالجهل قلدوا غيرهم في مظاهر حضارتهم، وآمنوا بالمبادئ التي انطلقوا منها دون عرضها على مبادئ الإِِسلام، لأنهم لا يعرفون عنها إلا القليل. ولئن رأينا بعض دول المسلمين الآن قد نقلوا معارف غيرهم ممن يدينون بالعلمانية، فليس ذلك دليلا على أنهم آمنوا بما آمنوا به، وإنما هو للإطلاع على ما عندهم حتى يعاملوهم على أساسه، وإذا كانوا قد قبسوا من مظاهر حضارتهم فذلك للاستفادة من نتائج علمهم وخبرتهم فيما يقوى شوكة المسلمين ويدفع السوء عنهم، والتعاون في المصالح أمر تفرضه طبيعة الوجود، وهو مشاهد في كل العصور على الرغم من اختلاف العقائد والأديان. والمهم ألا يكون في ذلك مساس بالعقيدة أو الأصول المقررة وأن يستهدف الخير والمصلحة. هذا، والأدلة على ما قلناه مما جاء به الإِِسلام كثيرة تركتاها للاختصار، والمقصود هو إلقاء بعض الضوء على هذا المصطلح وموقف الدين منه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply