بسم الله الرحمن الرحيم
على الرغم من هول فاجعة زلزال تسونامي التي عصفت بإحدى عشرة دولة، وخلفت وراءها دمارا لم تشهد له البشرية نظيرا منذ عقود، و عددا هائلا من القتلى والمفقودين واليتامى والأرامل والمشردين، فإن الفاجعة التي اعتبرتها كثير من الشهادات الميدانية الصادرة عمن عاشوا تلك اللحظات السريعة الرهيبة بمثابة معجزة كبرى للبشرية في هذا القرن الجديد، حملت في طياتها مشاهد أخرى من اللطف الإلهي والكرم الرباني والمعجزات الفردية والجماعية. هذا المقال يتوقف أمام شهادات الناجين الذين شاهدوا الموت المذهل يخطو سريعا نحوهم ليخطفهم في لمح البصر، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، فإذا هم يرون أنفسهم بعد حين قد ولدوا من جديد.
وهؤلاء الناجون ينتمون لديانات وجنسيات مختلفة، يؤكدون أن نظرتهم للحياة والأشياء تغيرت رأسا على عقب. إيمان المغربية واحدة منهم وقد عاشت لحظات لن تمحى من ذاكرتها ما بقي لها من العمر.
اسمها إيمان الأزدي، وهي متعاونة مع جريدة "ليكونوميست" اليومية المغربية الفرنكوفونية التي نشرت شهادتها كاملة في عدد 7-8-9 يناير 2005 في ثلاث صفحات وجعلت شهادتها موضوع الغلاف الأول تحت عنوان بارز كبير "أنا الناجية من تسونامي". شهادة حية صادقة بليغة تهز الفؤاد وتدعو للتعاطف الوجداني مع الناجية وتوهم اللحظات والمشاعر الملتهبة التي اشتعلت في صدرها وهي ترى الأهوال والطوفان. كانت إيمان قد توجهت إلى سيريلانكا لقضاء عطلة نهاية السنة صحبة عمتها وزوج عمتها وولديهما. تحدثت إيمان لصحيفة "ليكونوميست" وهي ما تزال تحت وطأة الصدمة الكبرى، لدرجة أن صوتها أصيب بالحشرجة ودموعها لم تتوقف عن الانهمار.
إن الفاجعة التي اعتبرتها كثير من الشهادات الميدانية الصادرة عمن عاشوا تلك اللحظات السريعة الرهيبة بمثابة معجزة كبرى للبشرية.
قالت إيمان: " إنها شهدت احتفالا ليليا برأس السنة ليلة الخامس والعشرين من شهر دجنبر 2004 امتد إلى الساعة الثالثة ليلا، وإن الناس الذين حضروا الحفل بكثافة لم ينتبهوا إلى أن ماء البحر كان دافئا نوعا ما رغم أن كثيرا منهم استحموا في الليل لهذا السبب". لم يكن مع السواح الألمان والروس والإنجليز والأستراليين سكان محليون ليقوموا بتنبيههم. صباح يوم السادس والعشرين دعيت إيمان من قبل عمتها للقيام ببعض الأنشطة البحرية على الشاطئ، فترفض إيمان بسبب تعبها ورغبتها في النوم على الرغم من إلحاح الأطفال، كما ترفض التوجه إلى منطقة "سافاري ألايا بارك" التي لم ينج أحد ممن كان فيها في ذلك اليوم الرهيب. تفضل إيمان البقاء في الفندق وتعود إلى النوم.
وبعد ساعة من ذلك، أي على الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة، تسمع طرقا شديدا في باب غرفتها، ثم تسمع صوت عمتها تصرخ بصوت مرعب قائلة لها: "إجري، إجري، بسرعة، بسرعة، البحر يغرق الفندق الآن"!، لم تفهم إيمان ما كانت تقوله لها عمتها، ترتدي ما تجده أمامها وتبحث عن جواز السفر ووثائق السفر، لكن صاحبتها لم تتركها. وعلى الرغم من ذلك تجدهم في الوقت الذي ذهبت صاحبتها لأخذ الأطفال. عند الموجة الأولى ظنت إيمان وهي ترى الناس يهربون أن تمساحا ضخما دخل إلى الفندق، ثم لمحت الماء يعلو ويعلو دون صوت ولا سابق إنذار... بعد عودة الموجة الأولى أرادت إيمان أن تذهب لتستطلع في عين المكان، لكن صاحبتها تعترض بقوة لشعورها بالخطر، ولو ذهبت لربما حصل لها ما حصل للذين ذهبوا ولم يرجعوا أبدا.
صعدت إيمان رفقة من كان معها إلى سطح الفندق بالطابق الخامس، وهناك كانت الصدمة: البحر كله كان في شكل دوامة كبيرة، وماؤه كان غامق اللون، شعرت إيمان أن الأمور ستكون خطيرة جدا، وأن الموج الهائل سوف يعود. تؤكد إيمان أنها مؤمنة بالله، وذلك سر محافظتها على هدوئها رغم الأهوال المنذرة. تصف إيمان هيجان البحر بأوصاف رهيبة: كان البحر يدور ويدور، لم تكن هناك عاصفة واحدة، بل عدة عواصف. وفجأة يبتعد البحر بشكل غير معهود ويتراجع مقدار خمس كيلومترات تقريبا. رأيته يعاود الرجوع متوجها إلينا وأمواجه تعلو وتعلو، صرخت مع الجميع: البحر قادم! البحر قادم! لم يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة أو أقل، سمعت صوتا قويا كالانفجار الذي يدوم في الزمن، صوت لا أستطيع وصفه أبدا. في تلك اللحظة بدأ الرعب يزعزعني، كان الكل يجري..
اختلطت الأصوات والصراخ والبكاء والعويل. كنا نرى كل شيء من السطح، غرق الفندق من أسفله إلى الطابق الثاني ودمر كل ما فيه... رأيت الموتى يحملهم الموج الكاسح، ورأيت الموتى الذين كانوا من قبل يعرضون أجسادهم للشمس، ورأيت الموتى من الذين ذهبوا يستطلعون الأمر، ورأيت سائحا سويسريا وسائحة سويدية يموتان إلى جانبي من أثر نوبة قلبية قوية... في خمس دقائق أو أقل اكتسح الماء الفندق داخلا من جهة وخارجا من جهة أخرى، ثم انطلق سريعا إلى المنازل والفيلات البعيدة يقتلعها ويدمرها... رأيت الناس محمولين فوق الماء والأشجار تقتلع،.. قلت في نفسي، لو أن موجة أكبر من هذه أتت لغاص الفندق.. لم يعد بمقدور أي أحد أن يفعل شيئا.. الناس في السطح يغمى عليهم، يصرخون ويستغيثون ويبكون.. كنا نتضرع جميعا وندعو، رأيت كل الديانات فوق سطح الفندق، كل يدعو ويتضرع على طريقته، الهندوس أخرجوا فيلهم الصغيرة من جيوبهم، المسيحيون أشعلوا شموعا ووضعوها قبالة البحر، وأنا المسلمة كنت أردد آيات من القرآن باهتياج.. " يستمر الدعاء طويلا والبكاء والعويل. وتستمر إيمان في قص حكايتها المترعة بالإيمان والإنسانية والأسى والأسف وهي تصف رحلة النجاة من قلب الأمواج والزلازل حتى عودتها إلى المغرب.
لم يكن مع السواح الألمان والروس والإنجليز والأستراليين سكان محليون ليقوموا بتنبيههم
في نهاية شهادتها المؤثرة تتوقف إيمان لتفسر تحولها وتعلقها بالتدين: "الآن أنظر إلى الحياة بشكل جديد...كان الدين بالنسبة لي الملجأ الوحيد... "
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد